إلى نجيب العسراوي

21/3/1941


رفيقي العزيز نجيب العسراوي،
آخر ما تسلمته منك كان كتابك المؤرخ في أول مارس/آذار ونسخة من عدد أبريل/نيسان الماضي من مجلة الشرق التي تتضمن مقالك «العرب». فسررت بهما كثيراً كما سررت بالكتابين اللذين تسلمتهما من قبل، وهما: الكتاب التفصيلي المؤرخ في 15 ديسمبر/كانون الأول الماضي، والكتاب المؤرخ في 19 يناير/كانون الثاني الماضي. وإني أجيبك الآن على هذه الكتب حسب الترتيب التاريخي.
نظريات إدارية: في أمر النظّار وضرورة وحدة عملهم، فأقول إنّ كل وظيفة وجدت لغرض. ولذلك كان لا بد لكل موظف من إتمام شروط وظيفته. أما الصعوبات الناشئة عن الإبعاد فهذه يمكن اعتبارها مانعاً مادياً من الكمال ولكن لا يجوز اعتبارها ملغية القوانين والوظائف ومعطلة المسؤوليات. ووجود صعوبات أخرى لا يكون له غير هذا الاعتبار. وإنّ الصعوبات في الوطن كانت مما يصعب كثيراً تصوره على من لم يخبر الحالة بنفسه، ومع ذلك فإنّ الصعوبات لم تفعل غير عرقلة المنهاج، ولكنها لم تبطله.
أما مسألة الخوف من التسجيل والتدوين فهي مسألة خبرناها في بدء العهد في الوطن. وفي أول نشأة العمل هناك لم تكن هناك بطاقات وسجلات إذ كان الأمر عبارة عن دعوة واعتناق فكرة، في البدء، فلما رأيت أنّ الوقت قد حان لتحويل الفكرة إلى حركة نظامية أوجدت ترتيب البطاقات، فحدث في بادىء الأمر رد فعل أشبه شيء بالارتداد. ولكني كنت قد أقنعت إفرادياً، عدداً من البارزين وثابرت على الدعوة إلى هذا النظام وتبيان فوائده كرابطة وثيقة وتثبيت للعهد القومي بعزيمة لا تعرف الوجل ولا التردد، حتى إذا تبيّنت أنّ الرأي لم يعد يلاقي المقاومة الأولى، وكان قد اقتنع عدد في بيروت، أصدرت مرسوماً بفرض البطاقات وحسبان الذين يوقّعونها فقط أعضاء فعليين. فابتدأ التوقيع وحصل تردد عند البعض والبعض أبوا. فلم أحفل بالذين أبوا ولا بالذين ترددوا، ولكن أظهرت أسفي لضعف إيمانهم. وبعد قليل عاد معظمهم ووقّعوا. وللتوقيع أهمية نفسية عظيمة من حيث الشعور بالمسؤولية والتضامن تحت جميع الظروف. فكان من وراء ذلك ارتفاع المعويات كثيراً. وإذا كنت قد قرأت مقالاً في سورية الجديدة بعنوان «كيف عرفت الزعيم» بقلم الأستاذ رشدي معلوف، أخ الأستاذ فخري معلوف، وكان في ذلك الوقت لا يزال طالباً في الجامعة الأميركانية، فإنك تجد فيه لمحة من صعوبة البطاقات وكيفية معالجتي لها وعدم تزحزحي عن وجوب تطبيقها بدون تساهل. وإني أرى وجوب السير على هذا المنهاج دائماً. والاختبار قد برهن على صحته وأفضليته.
الذين لم يوقّعوا يبلّغون أنه لا يمكن حسبانهم أعضاء فعليين، بل «محبذين» فقط، لأنه لا يمكن أن يتساووا والذين وقّعوا، ولا يمكن خرق القانون من ناحية، ثم طلب التمسك به من ناحية أخرى.
أما الاجتماع والتسجيل فهما أمران قانونيان ولا يمكن تركهما بدون خرق القانون. وقول المديرين والنظار بعدم فائدة التدوين لا يصح الاستناد إليه لأنهم ليسوا مرجعاً لهذا الأمر الذي هو نظام عام مقرر من السلطة التشريعية العليا. والنظّار والمديرون لا صلاحية لهم لتعيين فائدة أو عدم فائدة هذا النظام الذي هو اليوم قانون دستوري يتعرض من يخرقه لحساب القانون.
يجب العمل بالقانون والتعليمات أولاً ثم اقتراح التدابير الاستثنائية على المراجع العليا ثانياً. وهذه المراجع لها الكلمة الفاصلة التي يجب على كل من أقسم، وهو مدرك أن يطيعها. والنظّار إذا لم يتمكنوا من الاجتماع ولو مرة في ثلاثة أشهر فيمكن ويجب ذلك في ستة أشهر ويصير حينئذٍ درس الحالة من جميع وجوهها.
إرسال البطاقات: لا بأس أن تبقى هذه الآن حيث هي.
المال: آخر كتاب تسلمته من الرفيق وليم [بحليس] وهو في 22 يناير/كانون الثاني الماضي يقول فيه إنه لمّا يكن تسلّم الألفين ملريس التي أرسلت تخبرني عنها.
الإحراج: إني أوافقك على عدم الإحراج دفعة واحدة. ولكن ذلك يجب أن لا يصل إلى حد الإفراط أو التفريط بالقيم والشرائع. فمن ينادي بالمبادىء ولا يريد أن يكون نظامياً يعدّ محبذاً ومنّا، ولكن لا يحسب نظامياً ولا يساوى بالنظاميين، والحق عليه في ذلك. وحينئذٍ يسعى لإقناعه بضرورة النظام له. والنظام بحذافيره. وقد يحسن التساهل مؤقتاً وقليلاً جداً حيث لا تهديد لمحو قيمة القانون أو لإضعاف قوة الشعور والمعنويات العالية والثقة المتولدة من تتميم الواجبات وحمل المسؤوليات.
مجيئك إلى قربي: تأسفت كثيراً للظروف التي لا تساعدك على الانتقال إلى هنا، وكم هو مؤسف أن لا نتمكن من التغلب على مثل هذه الصعوبات المادية البحتة التي تحول دون استخدام أفضل مواهبنا ووضع الرجال في الوقت والمكان المناسبين. وهذه الصعوبات قد حالت دون اغتنامي فرصاً ثمينة. وكل ذلك سيأتي شرحه فيما بعد. أما إشارتك إلى الرفيق وليم فقد كنت خابرته من قبل حين تبيّن أنّ سورية الجديدة ستقف نهائياً. وقد تشبث وقتئذٍ بعذر واحد هو قرب عهد وفاة ابنه وصعوبة الابتعاد عن المكان الذي اللحد فيه. ولم أشأ أن أضغط عليه، خصوصاً وأنّ الاختبارات الماضية في المهجر لم تشجعني على إصدار أمر إليه بالقدوم، مع شدة حاجتي إلى معاون مخلص وذي فهم، ومع علمي بأنّ وجود معاون يسهّل كثيراً من الأمور المادية والروحية.
كتاب بحث المسيحية والمحمدية: بناءً على رغبات وطلبات كثيرة وردت إليّ وإلى سان باولو وإلى إدارة الزوبعة، قررت طبع سلسلة أبحاث «جنون الخلود» في كتابين: الواحد أدبي ويتعلق بمنظومات رشيد الخوري كدراسة أدبية، والثاني يختص بموضوع المسيحية والمحمدية أو اليسوعية والمحمدية والعصبية القومية. وقد رأيت أن يحمل الكتاب الأول فقط عنوان «جنون الخلود». أما الكتاب الثاني فسأجد له عنواناً من موضوعه. وقد سرّني أنك ارتأيت حذف اسم رشيد الخوري الذي لا يستحق أن يذكر اسمه في هذا البحث. خصوصاً وأنّ حارضته لم تشتمل على أي رأي له في هذا الموضوع. ولست أدري إذا كان هذا كل ما كنت ترغب في إبدائه. ففي كتابك السابق ما يدل على أنّ لك رأياً أو اقتراحاً يتعلق بالموضوع عينه. فإذا كان هذا الاستنتاج صائباً فكنت أود أن أقف على رأيك أو معلوماتك.
إنّ الموضوع سيمرّ على تنقيح. وإني آسف أن لا أكون تمكنت من الوقوف على كتابات أخرى في هذا الموضوع ككتاب الشيخ محمد عبده في «المسيحية والإسلام»1 وغيره. والحقيقة أني تناولت الموضوع سداً لحاجة أوجدها وضعه على بساط البحث ضمن الموضوع القومي وما أثاره من أحقاد وبلبلة. ولم أكن أقصد في البدء أن أجعله بحثاً فلسفياً عميقاً، ولكني رأيت، في سياق الموضوع، أنّ ترك هذا الأساس يقلل كثيراً من فائدة البحث، فعمدت إليه وكان بودي لو تتوفر لدي المصادر والمستندات والشواهد العديدة، ولكن مكاتب الأرجنتين السورية فقيرة جداً في الكتب، وحالة الحرب لم تسمح بجلب شيء جديد، ولا أدري ما يوجد في سان باولو وكيف ومتى يرسل فاضطررت للاقتصار على أساس الموضوع وما وقفت عليه من آراء وحجج أصحاب الدولة الدينية المحمدية. ومع ذلك فإني أرى الأساس العلمي ـــ الفلسفي الذي وضعته كافياً كقاعدة للتفكير بطريقة جديدة في هذا الموضوع الخطر.
فتح السجلات: تعود في كتابك الخصوصي المئرخ في 19 يناير/كانون الثاني إلى القول «لم يمكن ولن يمكن، طوال مدة الحرب، فتح سجلات لأعمالنا في هذه البلاد لأنّ بذلك مخالفة للقوانين وعرضة للجزاء، فلننتظر النهاية وهي بلا ريب قريبة» وأعود فأقول إنّ هذه الحجة لا تمنع من فتح سجلات مع اتخاذ الاحتياطات لوضعها في مكان أمين. ونشأ مثل هذه الحجة في الوطن، ولكن لم يمكن قبولها لأسباب جوهرية وعميقة في صلب الحركة ومناقبها ومعنوياتها وطبيعتها. وعدم التسجيل هو أيضاً مخالفة للقوانين من جهة أخرى وسبب للفوضى والاضطراب والانحطاط. وأما قولك إنّ النهاية قريبة فهو رأي فقط ولا يمكن الجزم بصحته ولا بكمية قرب النهاية.
أما الصعوبات التي اعترضت وتعترض عملكم فعندي أمثلة كثيرة منها، وإني أشعر معكم في كل ما تلاقونه. ولكن أنا أواجه هنا الصعوبات عينها، وأنا تحت أعظم مسؤولية. وقد وجد في هذه البلاد من ارتأى مثل ما ترتأي نظراً للحالة الحاضرة، فلم أوافق إلا على الاحتياط، وبعد صعوبة كثيرة جعلت الأمور تسير كما يجب بقدر الإمكان. وهذا يعني أنه يمكن التساهل في عدم كمال جميع شؤون التدوين، ولكن ذلك غير ممكن في إبطال التدوين بالمرّة الذي يوازي إلغاء الصلاحيات والمسؤوليات، وبالتالي التعيينات والوظائف والتشكيلات.
مقالك «العرب»2: سررت كثيراً بهذا المقال الذي تخرج فيه إلى درجة من الصراحة. وهو يجعلني أقدّر أنك اخترت، في كتاباتك، الأسلوب التدرجي بدلاً من المفاجأة الثورية. ولهذا الأسلوب حسناته وفوائده والهامّ هو الغرض.
المقال رصين وفيه مقدار غير يسير من التحليل وتقريب تفاصيل الموضوع من عقول القُرّاء الذين تعوّدوا أسلوباً من الجدل والحجج معيّناً. ولكني وجدت فيه نقطة، إذا لم تكن مقصودة خصيصاً لنوع معيّن من عقلية قسم من القُرّاء كانت ضعفاً. وتكرارها هو في كل حال نقطة ضعف من الوجهة النفسية، أي ما تحدثه من الإيحاء النفسي في نفوس القُرّاء الذي يصل إلى أبعد من الحد الظاهر في العبارة. وهذه النقطة هي قولك: «وقلنا بصراحة تامة إنّ الشعوب العربية، لكي تصل إلى وحدتها السياسية، كما يتمنى كل عربي مخلص، يجب على كل شعب منها تعزيز قوميته وإنشاء كيانه الفردي سياسياً واجتماعاً كما فعلت العراق ومصر والحجاز واليمن، الخ». فهذا التشبه بالعراق ومصر والحجاز واليمن هو نقطة ضعف شديد من الناحية النفسية، فضلاً عن أن التمثيل بهذه الأقطار لا يمكن أن يكون مطلقاً على هذه الصورة. فجميع هذه الأقطار لم تكوّن فكرة كلية واضحة عن كيانها السياسي الاجتماعي، ولا نشأت فيها نهضات قومية بالمعنى الصحيح تناولت الوجهين السياسي الاجتماعي. إن مصر مديونة لظروف سياسية إنترناسيونية بحتة بوصولها إلى حالتها السياسية. أما مستواها الثقافي فمديونة به لأدباء سورية وهؤلاء هم حتى الآن زهرة أدباء مصر، حتى بعد وفاة القسم الأكبر منهم ولم تنشأ في مصر أية حركة تنظيمية واسعة إلا سنة 1936 حين أنشىء «شباب الوفد»، كما أنشئت في الشام القمصان الحديدية، وكل ذلك تقليد سطحي لتشكيلات الحزب السوري القومي التي طبقت أخبارها الخافقين. وفي العراق أيضاً لم تظهر حركة قومية، «سياسياً واجتماعياً» إلا بعد وصول أخبار حركة الحزب السوري القومي إليه. فنشأ «حزب الشعب» و«الحزب العراقي القومي» وغير ذلك. أما كيفية استقلال العراق فذاك أمر له وجه سياسي بحت. ونحن نعلم علم اليقين أنّ الطلبة العراقيين في الجامعة الأميركانية ألّفوا وفداً وتقدموا يطلبون الاطلاع على مبادىء الحزب السوري القومي وتنظيماته، فأجبناهم إلى طلبهم وشرحنا لهم ما أمكن من وجوه نهضتنا وزوّدناهم بنسخ من المبادىء والمنشورات الأخرى، فحملوها إلى العراق ونشروها هناك. ثم كان لنا في العراق عدد من المعلمين السوريين القوميين الذين أخذوا ينشرون الأفكار القومية هناك.
إني أدرك جيداً الوجهة السياسية التشبيهية التي قصدتها في مقالك، واعلم كيف يقبلها عقل القُرّاء. ولكني أعلم أيضاً ما ينطوي تحت هذه التعابير من الموحيات النفسية، فتظهر، فيما بعد، كأنها تقول للقُرّاء السوريين: «انظروا كيف فعلت مصر والعراق والعُربة واحذوا حذوها»، وفي هذا الإحياء من روح تقليد الغير والاستنارة بضوء الغير ما فيه. وهذه الناحية النفسية وقلقي الشديد لهذا الضعف النفسي في أدبنا هو الذي جعلني أضع المبدأ السابع الأساسي من مبادىء الحزب القائل «تستمد النهضة السورية القومية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي». فكم كان ولا يزال يؤلمني ما يظهر في أدبنا من الكتابات التي تطلب منا التشبه إما بالألمان أو بالفرنسيين أو بالإنكليز أو بالأميركان أو بغيرهم، إما بالبطولة أو بالحمية القومية أو بالروح الديموقراطية أو بأي شيء آخر. وكم تألمت نفسي حين كنت أسمع وأقرأ رجال «الكتلة الوطنية» الشامية ينادون «نريد معاهدة كمعاهدة العراق» كأننا لسنا أكفاء لدرس شؤون وأحوالنا وظروفنا وقوّتنا وحاجاتنا ومطالبنا العليا واستخراج مطاليبنا السياسية منها بدون تقليد للعراق أو لغيرها. إنّ درس معاهدة العراق، ودرس جميع المعاهدات السياسية العصرية، هو شيء مفيد وضروري، ولكن طلب تقليد إحدى المعاهدات الإنترناسيونية هو شيء ضعيف يحمل دليل العجز وروح الاتكال والتقليد.
إنّ عبارتك المكررة في مقالك قد تكون مفيدة لتقريب عدد كبير من القُرّاء من فهمك ولكنها تحمل جذور هذا الضعف الذي أخشى ضرره على النفوس. وإذا تجنّبت هذا التعبير وأمثاله في المستقبل خرجت مقالاتك صحيحة من الناحية النفسية، كما وجدت مقالك صحيحاً من الناحية السياسية ومكوّناً حلقة من حلقات أدبنا القومي وتفكيرنا الذي يميّزنا عن اللاقوميين.
أتمنى أن تزول الظروف الصعبة الحاضرة ونتمكن من الاجتماع والتحدث ملياً والتذاكر في مثل هذه المسائل الجوهرية. وقد كنت توقعت أن نجتمع في رحلة كنت أتأهب لها ثم انقلبت الريح. وليس هذا محل هذا الموضوع ولا وقته.
أتمنى لك النجاح الخاص. وكنت أود لو أتمكن من شيء غير التمني، أو فوق التمني ولكن أحوالنا متشابهة والحالة العامة ضعيفة في هذه الظروف. ولكن لنذكر أنّ عزيمتنا أقوى من الظروف فلننظر دائماً إلى الأمام.
أرجو أن تكون وعائلتك ومن حولك متمتعين بالصحة والصفاء. ولتحيى سورية .

المزيد في هذا القسم: « إلى إبراهيم طنوس إلى نديم أيوب »

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.