النهضة،
بيروت،
العدد 6،
20/10/1937
يتطور العراك السلمي في البحر المتوسط نحو حالة خطرة، كما يتطور العراك المسلح في الشرق الأقصى نحو اصطدام مسلح واسع النطاق. فالبرقيات تترى عن توجيه قوات إيطالية إلى ليبية، والضغط المسلح على حدود مصر.
ليست هذه القوات عبارة عن لُعَبٍ تقوم بتسلية الناس في ساعات الفراغ بأخبار حركاتها في الصحف والراديو، بل هي مظاهر من النزاع الجدي على موارد الثروة ومراكز النفوذ وحفظ الخطوط ومراكز القوة. فالفرق الإيطالية تسير إلى أفريقية وفاقاً لسياسة مقررة وأهداف معينة. وما زالت بريطانية غير راضية عن التوسع الإيطالي على البحر الأحمر وزيادة نفوذها شرقي المتوسط، فإيطالية تحتاج إلى السبق في تأمين موقفها ومصالح سياسيتها.
وقد أحدث حشد الجيوش الإيطالية في ليبية قلقاً في الأوساط المصرية، لأن مصر لا تزال من الوجهة الحربية متأخرة جداً في أساليب الدفاع والدراية والخبرة الفنيتين. وهي دولة لا تزال غارقة في المشاكل السياسية الداخلية والإنترناسيونية.
تعتمد مصر على مورد من موارد القوة خارجي، هو اتفاقها مع بريطانية، ولكن عجزها الحربي سيهدد استقلالها تهديداً فعلياً، وهي ستجد نفسها مضطرة إلى الاهتمام بعلاقاتها الخارجية بصورة جدية، وإلى إعادة النظر في داخليتها والقوى الحقيقية التي يمكنها الاعتماد عليها لتوطيد استقلالها والخروج من المآزق السياسية الحاضرة.
إنّ وجود جيوش إيطالية على حدود مصر يقلق مصر، وإذا أضفنا إلى هذه الجيوش الحرب الأهلية الإسبانية والنزاع الإنترناسيوني حولها، وجدنا أنّ منع الحرب العاجلة يحتاج إلى تسوية جديدة ترضي إيطالية وألمانية. وإمكان إيجاد هذه التسوية يدعو إلى التفكير في مصير الأمم الواقعة شرقي البحر السوري، لأنه ليس من المحتمل أن تجاب إيطالية وألمانية إلى رغباتهما على حساب بريطانية وفرنسة. ولذلك فإن تحرّج الحال في البحر السوري سيؤدي إلى سياسة الشدة والتحصين من قبل الدول ذات النفوذ في مناطق لم يزل مصيرها السياسي النهائي غير واضح أو غير مقرر.
الحقيقة أنّ مصر قد أصبحت منكشفة من جهة ليبية، وهذا الانكشاف سيضطرها إلى النظر في علاقاتها مع إيطالية ومع بريطانية. والمرجح أنّ مصر ستبقى أمينة للعلاقات مع بريطانية، لأن امتيازات مصر لا تخوّلها سلوك غير هذا السبيل. فهل يكون من وراء ذلك أن يكون استقلالها قد أصبح منذ الآن هدفاً للحركات المتجددة في البحر المتوسط؟
لا ترحم مصالح الأمم الشعوب، وقد برهن انتصار ايطالية في الحبشة وانتصارات اليابان في الصين على أنّ مبدأ المصلحة القومية هو الذي يقرر سياسة العالم.
وكل ما يدور من اللغط حول المسائل الإنسانية، وانتصار بعض الدول لمبادىء العدل الإنساني، فإعادة نغمة قديمة القصد منها التغرير بالشعوب الخائفة على مصيرها واكتسابها لجهة القائلين بهذه المبادىء.
بيدد أنّ كثيراً من الشعوب أخذت تدرك فساد تعدد الادعاءات. فهي لم تنسَ بالمرة الدروس التي تلقتها أثناء الحرب.
إنّ إيطالية تستفيد الآن من الفرص. فإن اتساع الامبراطورية البريطانية وتعدد المصالح الداخلة يوجد صعوبة كبيرة في إدارتها وسياستها، ويجعل حمايتها الحربية أمراً معقداً يستدعي تجهيزات كثيرة طويلة الأمد.
وحتى الآن، كانت مشاكل مصر والهند تقلق السياسة البريطانية وتستدعي كل عنايتها، بينما كانت إيطالية منصرفة بكليّتها إلى التحضير للاستيلاء على مناطق جديدة وخوض الغمرات في هذا السبيل. وقد برهنت الحرب الإيطالية الحبشية على أنّ نظام الامبراطورية البريطانية قوي واسع الموارد ولكنه بطيء كثير المشاكل.
وبريطانية تدرك جيداً سرّ قوّتها وسبب ضعفها. ولذلك نجدها نشطت لتدارك معدل قوّتها الحربية، ولكننا لا ندري متى تجد بريطانية نفسها متأهبة للحرب، فلا يبقى من الحرب مناص.
لا تظن أنّ باستطاعة مصر فعل شيء جدي لمنع الحرب أو تأجيلها. ولكنها تستطيع أن تبدأ اختباراتها الاستقلالية.