الجريدة،
سان باولو،
العدد 101،
14/12/1922
ولقد سعت المؤلفة إلى غرضها هذا على طريقة علمية تاريخية، فابتدأت بالكلام على الطبقات الاجتماعية وما جاء بشأنها في أساطير الهنود القديمة من أنّ الإله برهما الذي خرج من بيضة ذهب كانت تطفو على وجه الغمر وتكونت من قشرتيها الأرض والسماء، هو الذي نشر الأثير بين الأرض والسماء وخلق الكواكب والنبات والحيوان فتهيأت الأرض لسكنى البشر. ثم خلق برهما برهماناً أبا البراهمة من رأسه، وأخرج من ساعده الأيمن المحارب الذي يدافع عن الكاهن، وانتشل من فخذه الفلاح الذي يعدّ الغذاء للجندي والكاهن، وأبدع التاجر الذي يمهد لهما وسائل الحياة، وصنع رجلاً آخر أطلقه من رجله هو الصنائعي، فتسلسلت المراتب الاجتماعية في الهند بموجب هذه المخلوقات. ومع أنّ هذه القصة خرافية لا يسلّم بها عقل بشري، فهي تحتوي على حكمة باهرة يقدّرها مفكرو هذا العصر حقَّ قدرها، وهي أنه وإن كان البشر من خلق واحد وطينة واحدة فهم متنوعون في الصلاحيات مختلفون في الكفاءات، ولولا هذه التنوعات والاختلافات لما كان للاجتماع نظام يميز طبقات عن طبقات.
ثم تطرقت الكاتبة في هذا البحث لبحث «الطبقات الاجتماعية» للكلام عن تكوين الشعوب بانتشارها قبائل، وتطور حالة هذه القبائل مما أفضى إلى نشوب الحروب فيما بينها وتغلب بعضها على بعض، الأمر الذي نشأت عنه الأوتوقراطية والرق، وكيف أنّ حب التفوق والطمع في السيادة أو الملك كوّن الأرستوقراطية والعبودية اللتين لا تزال الحرب بينهما سجالاً منذ بدء التاريخ ولن تنتهي حتى انتهاء الخليقة، إلى أن بلغت نقطة جوهرية في حياة الإنسان قالت بشأنها ما يأتي:
«لقد طال تأمل روسو في حالة البداوة الأولى، وقام هو وأتباعه ينادون بالعودة إليها لتحصل الإنسانية على الهناء المفقود، وترتع في بحبوحة السلام والحرية. وقد نسوا أنّ الهمجي مستعبَد بجهله الفادح وأنّ له من الخرافات سجناً لعقله ومن الأوهام حجاباً لروحه. فهو وإن كان حراً حرية نسبية من حيث علاقته بأمثاله وبقناعته ــــ التي لا يمكن أن تدوم أكثر من زمن ما فهو أسير أحط أنواع العبودية وأخطرها، وهيهات الرجوع إلى الماضي! إذ إنّ عودة النظام الشمسي المندفع بسياراته وأقماره نحو النجمة الكبرى من كوكبة الشلياق، قلت إنّ عودته إلى حيث كان منذ مائة ألف سنة توازي في نظام الكون تجريد النوع البشري مما اكتسبه بالألم والخبرة والبطش خلال تحدر الدهور».
هنا عثر قلم المؤلفة وبَعُدَ خيالها عن الحقيقة. فهي تعني بما قالته عن روسو أنّ مبدأ هذا مخالف لناموس التقدم والارتقاء، وهو قول منافٍ لمبدأ روسو القائل بالعودة إلى بساطة المعيشة الطبيعية حيث السلام والحرية، ولم يخطر في بال أحد أنّ المراد من ذلك العود إلى الهمجية. بل إنّ الارتقاء الذي ينشده العالم يتفق مع بساطة المعيشة أكثر منه مع معيشة المدنية الحاضرة التي أنهكت قوى البشرية، أوَ لا يمكن أن تكون بساطة المعيشة بدون الهمجية؟
لقد كثرت الظواهر الخداعة في يومنا هذا حتى يكاد يتعذر علينا معرفة ما هو الارتقاء. فإن الارتقاء المادي الذي بلغ أوجه الأسمى في هذا العهد قد تمكن من نفوس البشر وخيّل إلى بعضهم أنه الكل في الكل. على أنّ هنالك ارتقاء آخر لا أخال مؤلفة «المساواة» تجهله، وهو ذلك الارتقاء الروحي الذي يدرك أسرار النفس والطبيعة. هو ذلك الارتقاء العجب الذي يبعث الهندي من قبره بعد أن يكون قد مضت على دفنه أسابيع وأشهر عديدة، على حد ما بعث المسيح بعد صلبه. هو ذلك الارتقاء الذي يقف أمامه الارتقاء المادي صاغراً عاجزاً.
بساطة المعيشة لا تحول دون الارتقاء والسير إلى الأمام، ولا تنفي التفوق، ولكنها تزيل من أمام الإنسان عقبات كثيرة تحول دون تفوقه وارتقائه. وروسو قد كتب ما كتب لا قائلاً بالعودة إلى الهمجية، بل بالرجوع إلى المعيشة الطبيعية الهنيئة. وليس في ذلك ما يجرّد النوع البشري مما اكتسبه بالألم والاختبار خلال تسلسل الدهور.
أنطون سعاده