المجلة،
بيروت،
المجلد 8،
العدد 4،
1/6/1933
قد يذكر القارىء أني قلت في مقال نشر في عدد متقدم من المجلة إنّ النزعة التي سيطرت على عهد تنبُّهنا الأدبي الأول كانت نزعة «فحولية». وقد كانت هذه الصفة العربية الأصل صفة مدح عند العرب. فهي مشتقة من الجمل الفحل وكان ولا يزال شيئاً جميلاً جداً عند العرب أن يقلّد الشاعر والخطيب «الفحل» فيهدر ويطلق «شقشقة لسانه» كما يفعل الفحل. والسوريون الذين كانوا قد فقدوا صلتهم بأدبهم القديم ونفسيتهم الظاهرة في آثارهم العمرانية والفنية وأساطيرهم الميثولوجية استفاقوا مما منوا به من خمول بتأثير الحروب الكثيرة التي كانت بلادهم مسرحاً لها، وكان أول شيء وقعت عليه أعينهم كتباً قليلة مبعثرة هنا وهناك خلَّفها عهد النزعة العربية التي بذل السوريون جهداً كبيراً لإكسابها عمق نفسيتهم وسموّ عقليتهم فلم ينجحوا إلا في العهد الأموي، وكان عهداً قصير الأمد لم يتمكن من استغراق الروحية السورية، فلما جاء العهد العباسي قلَّ التأثير السوري وكثر التأثير الفارسي. والآن بعد قرون من الانفصال نلقي نظرة على النفسية السورية و«الأدب العربي» و«المدنية العربية» فنرى أنّ ما أخذه العرب من كنوز المدنية السورية أخذوه قطفاً، خطفاً فلم يتأثروا به إلا تأثراً سطحياً، لأن مزاجهم الحاد المكتسب من طبيعة بلادهم الحارة ذات الرمال المحرقة لم يكن ليتفق مع هدوء النفس السورية النامية في محيط معتدل لطيف تتغير فصوله تغيّراً منتظماً فلا ينزعج الفكر في مجراه ولا تضطرب النفس في طمأنينتها. ولو أنّ العهد الأموي طال، ورسخ المُلك في سورية لكانت النفسية السورية استطاعت أن تلين من جفاف النفسية العربية وأن تكسبها العمق النفسي والسمو الفكري المجتمعين في النفس السورية. ولكن العرب تقلّبوا في المُلك كما تقلّبوا في الحالات النفسية وكان طبعهم القديم مخالفاً للعمران والاطمئنان إلى راحة الضمير، فما أنشأوا شيئاً حتى انتقلوا منه إلى غيره، ولم ينشئوا شيئاً، من العمران استطاع البقاء كبعلبك وتدمر وبيبلوس [جبيل] وغيرها من الآثار السورية الحاملة صفة الطموح إلى الخلود واعتناق الصفات الخالدة إلا قليلاً ضئيلاً. فانفصلوا عن سورية وظلت لهم نفسيتهم وبقيت للسوريين نفسيتهم.
ومرّت على سورية حقاب كانت مليئة بالمصائب والنكبات فشغلت الأمة بتقلبات الحوادث عن المثال الأعلى، وكانت اللغة القومية الجديدة قد طمّت على اللغة القومية القديمة وحالت بين النفسية السورية وبين مُثُلها العليا المتجلية في رموزها الإلهية القديمة كرمز الإله أدونيس الذي تُفسَّر أسطورته بنظام الحياة النباتية، إذ يذهب أدونيس إلى برسفون إبنة زيوس فيكون الشتاء وكمون البذور ثم يعود إلى أفروديت (عشتاروت أو عثرعاذه السورية إلهة الطبيعة) إلهة النبات ويجلب معه الربيع والصيف، فصل النمو والأثمار.
هكذا كانت رواية الحياة التي مثّلتها الآلهة السورية بين سهل جبيل وهضاب لبنان شعرية، فنية، روائية، إلهية ــــ شعرية في دقة معانيها، فنية في روائها وسحرها، روائية في جمال مشاهدها وأسرارها، إلهية في كمال موحياتها وبهجة إلهاماتها. من أسطورة الإله أدونيس بن تاياس الملك السوري العظيم يدرك المرء الدرجة الرفيعة من الجمال التي تبوأتها النفسية السورية ومنها اكتسبت النفسية المصرية إلهها أوزوريس والنفسية الإغريقية الإله السوري نفسه.
زفاف أدونيس إلى برسفون فراق ووحشة وفراغ وأسى: الشتاء البارد العاري. وزفافه إلى أفروديت عرس وفرح وامتلاء وبهجة: الصيف المنوّر المثمر، الممتلىء حياة! هذه هي الرواية السورية الإلهية للكمون والنمو والإنتاج، هذه هي الأسطورة الجميلة التي جمعت بين سر الكمون والاستتار وعلانية الحركة والظهور، بين سمو التفكير وعمق الشعور. وهذه هي النفسية السورية ببساطتها وغرابتها.
وإذا أجلنا نظرا في الميثولوجية السورية وجدنا مظهراً آخر من مظاهر النفسية السورية الجادة في العمران، هو المظهر الذي خُصّت فيه المرأة السورية ببطولة العمران، هو مظهر حجر الحبلى الذي اقتطعته من مقلعه إمرأة سورية كانت حاملاً ثم ألقته لدنوّ مخاضها، فبقي حيث هو قرب هياكل بعلبك ليخلّد للمرأة السورية أعظم نصيب من العمران! هذه هي النفسية السورية في صورة أخرى.
الإنتاج والعمران صفة امتاز بها السوريون وأتوا على يدها بأعمال عظيمة قيل إنها من أعمال السحر والجن، يشهد على ذلك قول النابغة في تدمر:
ألا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها من الفند
وجيش الجنّ إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاد والعمد
فتابع الذين وهموا أنّ سليمان اليهودي بنى تدمر بأمر الإله الذي سخّر له الجن لبنائها. وبديهي أنّ النابغة لم يكن مؤرخاً ولا قاصداً الحقيقة التاريخية لبناء تدمر العظيمة، بل أراد إبداء إكباره ذلك البناء الفحم، ولو كان النابغة شاهد بعلبك في أوجها لما شك في أنها عمل جند الله أو جبابرة خصّهم الله بمقدرة لا تضاهى خصوصاً حجر الحبلى الذي اقتلعته إمرأة سورية حامل أو أم ولد (على ما جاء في رواية أخرى ولعل هذه الرواية هي الأصح).
الإنتاج والعمران هما الحياة للسوري وهو لا يعرف للوجود قيمة أو معنى إلا بهما. وهذه الحقيقة تُعرَف عن السوريين الذين عاشوا قبل التاريخ المعروف، كما تعرف عنهم بعده. فالتمدن قديم جداً في سورية. والأجيال البشرية التي حَيِيَتْ هنا قبل التاريخ كانت أرقى في الإنسانية من معاصرتها الأوروبية كما ثبت حقيقة ذلك من الآثار العادية المكتشفة حديثاً. ومنذ ذلك الزمان البعيد والنفسية السورية تزداد رسوخاً في المدنية حتى تمكنت من التأثير على الأمم التي حولها، وإعطائها عدداً من الآلهة الرامزة إلى نظام الحياة وتقديم موارد ميثولوجيّة لا نضوب لها للإغريق والأساطير الإغريقية، حتى ليمكن القول إنّ الإغريق يقفون بقسم كبير من مدنيتهم على أكتاف السوريين!
فتح السوريون أعينهم بعد تقلبات الدهر وصراع الأيام، فما وقعت إلا على كتب قليلة من «الأدب العربي» فكانت هذه الكتب المستند الوحيد الذي لجأوا إليه، وما أوهاه مستنداً! أبيات من الشعر تارة تمثّل الشعور الجامح (الحماسة والفخر) وطوراً تمثّل الإحساس المنفعل تحت تأثير عامل قوي (الغزل والتشبيب) ونماذج من الكرم البدوي والحلم السخيف وبعض أخبار قواد العرب وأمرائهم، وهذا كان كل الثروة الروحية التي ورثوها عن العرب. أما حقيقتهم هم وثروتهم الروحية الكبيرة فلم يكن لها ذكر البتّة. كان من وراء ذلك أنّ السوريين توهموا أنّ هذا الميراث الضئيل هو ميراثهم الوحيد، وأنّ البكاء على الطلول والتغزل والتشبيب تتضمن المثال الأعلى الذي عليهم أن يحققوه. فحدا كثيرون منا العيس وبكوا على الأطلال في شيء كثير من الانخداع. وأما أدونيس إله «نظام الإنتاج» وأتارغاتس إلهة «قوة الإنتاج» فلم يكن لهما ذكر عندهم، ومرَّ منهم نفر بحجر الحبلى المطروح على بعد قليل من هياكل بعلبك، ولكن سرعة المزاج العربي في التنقل شغلتهم عن التعمق في فلسفته فلم يروا فيه إلا الحجر الضخم!
ولكن النفسية السورية ما لبثت أن ابتدأت تتململ في ذلك النطاق الأدبي الضيق تململ السجين في سجنه. ابتدأت تشعر أنّ هذا الأدب يقيم حاجزاً بينها وبين الحياة ونظام الحياة وقوة الحياة ــــ بينها وبين أدونيس وتاياس وأتارغاتس وعشتروت وحجر الحبلى!
أخيراً جاء دور الاتصال بالغرب والآداب الغربية فلمس السوريون في هذه الآداب آثاراً من أساطيرهم السابقة ومثلهم العليا، وسرعان ما تحوّل الفكر السوري الجديد عن الانقياد إلى المثل العليا الضئيلة التي خلَّفها الأدب العربي، إلى البحث عن المثل العليا المعبرة عن حقيقة النفس السورية فعثر بعضهم في أثناء تنقيبه على أثر من تلك المثل الضائعة في «الزهرة وأدونيس» لشكسبير ، ومرَّ آخر بأبيات ملتن الخالد التي يشير فيها إلى حكاية تخضُّب نهر أدونيس (نهر إبراهيم اليوم) مرة كل سنة بدم أدونيس الذي جرحه خنزير بري كان هو يطلب صيده في هضاب لبنان:
While smooth Adonis from his native rock, Ran purple to the sea, suppos’d with blood of Thammuz yearly wounded.
و«تموز» ليس إلا إسماً آخر لأدونيس. ورأَى ثالث في جملة ما رأى نبذة تاريخية لسورية عرف منها أنّ سورية أقدم من الفتح العربي والعصر العربي، وأنّ لها أدباً وأساطير قديمة تتجلى فيها النفسية السورية بحقيقتها. فابتدأ حينئذٍ الفكر السوري يستعيد استقلاله الذي تشعر به في كل ناحية من نواحي الأدب السوري الجديد، وزال الوهم أنّ الأدب العربي يمثّل النفسية السورية.
وهكذا نرى أنّ الأدب السوري قد بُعث ليكون مرآة نقية تنعكس عنها الصورة الحقيقية لمكنونات النفس السورية، وقد ابتدأت طلائع هذا الأدب في مؤلفات جبران والجداول والمراحل وعلى بساط الريح والأحلام وفاجعة حب وفي عدد غير قليل من المؤلفات الأدبية والمسرحية. وحدثت جدة في الفنون الموسيقية والتلوينية فصار لنا بداءة أوبرا ومنظومات موسيقية جديدة وصور ملونة لملونين يظهر فيهم الذوق السوري.
ولست أدري في أي مؤلف من المؤلفات التي ذكرتها في الفقرة السابقة قرأت هذه النبوءة «سيجيء اليوم الذي تصير فيه النفسية والعقلية السوريتان الغنيتان بمواهبهما الطبيعية معينين ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري».
إنّ في بساطة هذه العبارة، التي تبدو للقارىء عادية، تعمقاً نفسياً غير عادي. إنّ فيها حقيقة تلمس ذلك السر العجيب الذي رافق الروح السورية منذ القديم وجعلها تتحرك وتنهض من بين أنقاض الزمان!
إنها تعني بعث الأدب السوري الذي سيستخرج حقيقتنا من داخلنا ويضعها أمام أعيننا وأمام العالم فنفهم أنفسنا ويفهمنا العالم!
»مفكر حر«