المجلة،
سان باولو، السنة 10، الجزء 8،
1/9/1924
قلّما شهد العالم تحوُّل أمور كانت في بدئها لطيفة جميلة إلى عيوب ومفاسد خطِرة على الهيئة الاجتماعية كما تحوّل الرقص إلى ذلك.
لا يُدرك هذه الحقيقة إلا من بحث عنها في دور الرقص، خاصة كانت أو عامة، زاجاً نفسه بين الراقصين والراقصات، مازجاً نفسه بينهم حتى يصير كواحد منهم. فإذا تمكن من ذلك كله وقف على حقائق، مجرّد سردها يملأ القلوب النقية رعباً واشمئزازاً. فالمراقص أصبحت اليوم عبارة عن أماكن يقامر فيها المرء بماله وحياته، ولا يخرج منها إلا خاسراً أحد هذين الأمرين أو كليهما.
في نيويورك اليوم لا أقل من 768 دار رقص حائزة على إذن من الحكومة، ويُقدَّر عدد الإتيان للرقص فيها بملايين عديدة من المرار. وفي المدن الكبيرة في العالم المتمدن كله ما يشابه ما في نيويورك من المراقص. وفي كل مرقص من هذه المراقص يجري من الأمور المعيبة المخجلة ما يُعدَّد، منها ولا تعدَّد من تعاطي الخمر حتى تحمرّ مآقي العيون، ويلتهب الدماغ، والتجاذب والتدافع بين الراقصين، إلى المخاصرة والمداعبة والتدلّي إلى أحط درجات البهيمية والحيوانية. هناك يقف الإنسان أمام مشهد مؤلم جداً من مشاهد الحياة التي يحياها المتمدنون كلهم، لا فرق بين صاحب القصر منهم وصاحب الكوخ أو بين الكبير والصغير اللّهمّ إلا الذين اختطّوا لأنفسهم طريقاً خاصة شذوا بها عن طُرُق أبناء جنسهم ومدنيتهم، فهؤلاء لهم حياة مستقلة وهم قلال.
في المراقص المشار إليها، الرقص أصبح فنّاً تجري فيه اختراعات عظيمة. وبعض هذه الاختراعات ما يُقصد منه إحداث تشنجات عصبية في الراقصين، والبعض يقصد منه إحداث تخدير في الدماغ إلى غير ذلك. فيرى الرجل الطبيعي الداخل إلى تلك المرقص لأول مرة أنه قد انتقل كما بسحر ساحر من العالم الذي يعيش فيه إلى عالم آخر من عوالم الخيال المملوء بالعجائب والغرائب. فمن نساء أكثر من نصف عاريات قد استلقين على كراسي أو مقاعد مائلة إلى الوراء يغازلن أو يخادعن شباناً قد عطفوا وانحنوا عليهن يبادلونهن نظرات وعبارات كلها مغازي شهوانية، إلى نساء ورجال يقعن هنا وهناك من شدة السكر والعياء، إلى نساء ورجال قد ملأوا الكؤوس وجلسوا يتعاطون الخمر ويسكرون بين هزيج وصياح، إلى فتيات ممسكات أيدي شبان تدل ملابسهم على أنهم من ذوي اليسار يقتدنهم إلى مخادع وسراديب اخلية يخرجون منها فاقدي الشعور فاقدي الهدى فاقدي المال وكل شيء آخر إلا الملابس.
في بعض المراقص الاعتيادية قد لا تبلغ الحال هذه الدرجة من الفحش والفجور الهائليْن، أما في المراقص التي يطلق عليها إسم «المراقص المقفلة» فإن تجارة الفحش والسلب تبلغ فيها حدها الأقصى. ولقد اطّلعنا في إحدى المجلات الأميركية على وصف معتدل موجز للمراقص الاعتيادية والمقفلة، لا نقول فيه إلا أنه وصف فتاة هي الآنسة لامبين، فآثرنا تعريبه لما فيه من العبرة والفائدة. وهو ما يأتي:
«لقد قام في المدة الأخيرة كثير من التعنت والاشمئزاز ضد بعض أمور دور الرقص، مثل الرقص الشهواني وتعاطي الخمر، مما يسهل معه حدوث التعارف غير المميز وغير المحدود. ولكن، إنصافاً لدار الرقص، يجب التنبيه إلى أنّ هذه أوصاف متعارفة عند كل طبقات الهيئة الاجتماعية. فلا يسهل ملاحظتها في دار رقص كبيرة أكثر مما يسهل ذلك في بيوت وفنادق الطبقة العليا، بل هي موجودة في المكانين. بناءً عليه يظهر أنّ دار الرقص ليست في حد ذاتها السبب المباشر لذلك، ولكن الأرجح أنّ الأمور المتقدمة ناشئة عن تأثير أحوال تعمل في هيئتنا الاجتماعية».
ومما جاء للآنسة المذكورة في وصف «المراقص المقفلة» ما يأتي:
«تُستأجر الفتيات هنالك على أساس «القومسيون» لكي يرقصن مع الرجال الزبائن. والقاعدة المتبعة هي أن لا يُسمح لغيرهن من الفتيات بالدخول، أو إذا سمح بذلك فالقادمات لا يرحب بهن على الأقل. ودار الرقص في هذه الأماكن منفصلة لا يمكن الوصول إليها إلا من باب معين أو أكثر. ويدفع للدخول ما يتناول ست أو ثماني رقصات ومن ثم يجب أن يُدفع لكل رقصة عشرة «سنوت»، وفي بعض الأحيان يُدفع ربع ريال أو خمسة وعشرون سنتاً لكل رقصتين. أما الرقصات فقصيرات الأجل تتراوح الواحدة منها بين الأربعين والستين ثانية، وفترات الراحة تكون ثلاثين وأحياناً ستين ثانية. ويكون هنالك جوق موسيقي واحد عادة ونوع الموسيقى ليس في درجة موسيقى قصور الرقص. والانتفاع أو الربح يكون من الزبائن والفتيات المشتركات في الرقص معاً.
«يجب على الزبائن أن ينفقوا ريالين أو ثلاثة على أي عدد معقول من الرقصات. وليس من الشذوذ أن يُنفق الواحد منهم خمسة أو ستة ريالات في سهرة واحدة. أما الفتيات فيدفع لهن أربعة «سنوت» عن كل رقصة أو خمسة «سنوت» إذا كنَّ يقمن بعملهن ليلتي السبت والأحد. ولكي تتمكن الواحدة من هؤلاء الفتيات من كسب معاش معتدل، افترض عشرين ريالاً في الأسبوع، يجب عليها أن ترقص 400 رقصة في الأسبوع أو نحو سبعين رقصة كل ليلة».
إلى هنا انتهى الكلام عن المراقص العمومية والمقفلة، وجاء دور الكلام عن المراقص التي يطلقون عليها إسم «كباريه». وهذه المراقص أعلى طبقة من حيث الفن من التي تقدمتها، وفيها من النظام والدقة في وضع الإشراك للزبائن ما يقضي بالعجب العجاب كما سترى:
«يستأجر «الكباريه» الواحد عدة فتيات يطلق عليهن إسم «مضيفات»، وواجباتهن هي أن يعملن كل ما يؤول إلى انشراح القادمين من الخارج. للمضيفة الواحدة أن تعمل أحد عملين، فهي إما أن تجعل عملها إبقاء القادمين بعيدين عن الناس «المغلوطين» أي المقامرين والذين على شاكلتهم، وإما أن تقوم هي نفسها بتعريف تلك الطبقة الدنيا إلى الزبائن الأغنياء وذوي المراكز الذين يؤخذون إلى حيث «يُنظفون» ويبتزهم أولئك ما معهم، والمضيفة تشترك في الغنيمة».
ويجاري هذه «الكباريهات» في العيوب «كباريهات» المطاعم التي جاء في وصفها ما يلي:
«تجذب هذه «الكباريهات» إليها زبائن من نصف دائرة اجتماعية كبيرة. ومزية هذه الأماكن هي في أنّ الشبان والشابات يتمكنون فيها من الانزواء عن القاعات التي تُضيّق عليهم في الأمور التي يأخذون بها عادة. هنا يمكنهم أن يُحبوا بلا فرق أو تمييز وأن يدخنوا وأن يعقدوا اتفاقات ويضربوا مواعد. وهم مغرمون بإعطاء أسماء غير حقيقية عن أنفسهم عندما يسألون. بين الفتيات منهم بنات مدارس وتلميذات كليات وكاتبات على الآلة الكاتبة وسكرتيرات ومستخدمات في المخازن وغيرهن. وبين الشبان تلاميذ كليات وتلاميذ مدارس وقائمون بالخدمة الجندية وذوو ألقاب غريبة. وبعض الأحيان يُرى هنالك ما يشبه شمامسة الكنيسة القادمين من الداخلية (لأشغال)».
جاء في تقرير نشر حديثاً في الولايات المتحدة أنه يجب إبطال النغم البطيء لأن هذا النغم هو المسبب لكثير من الرقص الشهواني. ويقال هنالك إنّ اللوم يقع على الجهة التي يُنتظر منها مثال حسن، لأنه ما زالت الفتيات تطالع كثيراً أخبار الرقص كل الليل في نوادي الضواحي والفنادق العمومية والمطاعم في المدينة والاجتماعات الأخرى التي هي من هذا النوع، تظل التصورات السيئة تفعل فعلها في الفتاة غير المبالغ في صيانتها إلى أن تقودها أخيراً إلى السقوط في تجارب خطرة.
نمسك القلم الآن عن التمادي في وصف الحالة السيئة التي بلغتها الهيئة الاجتماعية بواسطة الرقص مكتفين في ذلك بما تقدم، وننتقل إلى تعليل تلك الحالة مبتدئين بسؤال بسيط وهو: هل الرقص مسبب للفساد أم الفساد الأخلاقي في الهيئة الاجتماعية مسبب للرقص؟
لا نحاول بهذا السؤال أن نفرّق بين الرقص والفساد الاجتماعي، فعلاقة الواحد منهما بالآخر علاقة متينة جداً. ومن يقول هلمَّ نرقص كأنه يقول هلمَّ نفعل شيئاً فاسداً لأن الرقص لا يمكن أن يكون بلا فساد، إذ ما معنى الرقص من الوجهة الاجتماعية؟
إذا أراد شاب أن يتعرف بفتاة كائنة من كانت فإنه يذهب إلى نادي الرقص، وهناك يتعرف بفتيات كثيرات يمكنه أن يتخذ منهنَّ ألاعيب للتسلية. وإذا أراد شاب أن يخدع فتاة ما ويجعلها تستسلم إليه، فإنه يدعوها إلى الرقص منتهزاً هذه الفرصة لتطويق خصرها والتأثير على عواطفها بصورة قد لا يتمكن منها بدون الرقص. وما يقال عن الشاب من هذا القبيل يقال عن الفتاة. فبين الفتيات كثيرات لا همّ لهنَّ إلا التعرف بشبان يمكنهنَّ الاجتماع بهم و«تمضية الوقت» معهم، غير حافلات بما يكون عليه أولئك الشبان من الأدب أو الفساد الأخلاقي.
إذاً الرقص هو الفعل الفاسد المعيب، والقصد منه أن يكون وسيلة اجتماع شخصين أو أكثر للقيام بضروب الخلاعة والفحش، لا للحب كما يحاول الراقصون التمويه على الناس. لأنه لا يمكن الحب مطلقاً أن يتدلى إلى هذه الدرجة المنحطة. أما فاعل هذا الفعل فلا بدّ أن يكون قد أقدم عليه بدافع الجهل والطيش والاغترار وما شاكل. وأما الذين يقع عليهم الفعل المذكور وهم بين هزل وجدّ، فهم أولئك الذين يقادون أو يساقون إلى المراقص متورّطين من أصحابهم أو معارفهم غير حاسبين لما يفعلون حساباً.
قد يكون في بعض المراقص أو الحفلات الراقصة شيء من المحافظة على الأدب. ولكن هذا لا ينفي بصورة ما كون الرقص أمراً فاسداً. فإذا قيل إنّ الرقص لا يكون كذلك إلا عند أشخاص «ساقطين»، فلا يستطيع أحد أن ينفي أنّ الرقص أكثر أمور الدنيا إغراءً للفتى أو الفتاة على ارتكاب المفاسد لما يُحدثه من التأثير الغريب على عواطف الواحد منهما، حتى لا يعود في استطاعته امتلاك نفسه وتحكيم عقله في ما هو مُقدم عليه. والإنسان ليس من فولاذ كما يقولون. فقوة الإرادة مهما كانت صلبة تزول تحت ضغط المؤثرات المتوالي والتعرض المستمر. والحكيم ليس من يتعرض للتجارب الخطرة معتمداً في دفع أذاها على قوة إرادته، بل الذي يستعمل قوة إرادته للتغلب على دوافع التعرض لما فيه خطر وقمع ثورة الشهوات وهي في المهد.
نعتقد أنّ الرقص العامل الأساسي في إبلاغ الطلاق في الولايات المتحدة الحد الذي بلغه الآن. يتزوج الرجل في الولايات المتحدة، ولكنه لا ينقطع عن الرقص وكذلك المرأة. وكثيراً ما يعقد هنالك زواج رجل وامرأة رأساً بعد سهرة رقص، فلا يمر عليهما بعض الوقت إلا ويضطران إلى الانفصال، وهذا كثير الحدوث. ولا يندر أن يقود الرقص امرأة غير مطلقة إلى التزوج من رجل آخر تكون قد تعرفت به في بعض دور الرقص، وهو ما وقفنا على أخبار كثيرة مثله حين كنا في نيويورك منذ نحو ثلاث سنوات ونصف. وبعض الأحيان يحمل الرقص المرأة على التزوج نحو عشرين مرة أو أكثر، فتكون حيناً في بيت هذا وآناً في بيت ذاك. زد على ذلك النتائج السيئة التي تتأتى عن سلب دُور الرقص أعضاء العائلات من البيوت وإقصائهم عن لذة الاجتماع والحديث العائليين اللذين يصونان أو يعملان على صيانة الآداب والأخلاق العائلية الراقية. بعد الوقوف على ما تقدم، لا يحجم المرء عن إلقاء سؤال بديهي هو: ألا يجب إبطال الرقص؟
للرقص مدافعون عنه كثيرون يصعب إقناعهم بوجوب ملاشاة هذا الداء العضال مهما كانت البراهين على ذلك كثيرة وهامة، ومع ذلك سنجرب الإتيان ببراهين حسية إذا لم تسفر عن اقتناع أصحاب نظرية الرقص فلا أقل من أن تكون شاهداً حقيقياً آخر على صحة ما نقول. فمما يحاول أصحاب نظرية الرقص إقناعنا بأنه من «محاسن» الرقص هو تسهيل التعارف، وهذا قد رأينا نتيجته في ما تقدم. ويلي هذا عندهم الرياضة، وفي هذه نقول كلمتنا الآن. إذا كان الرقص رياضة، فلا شك أنها رياضة تقود إلى الترهُّل لا إلى التصلب والاشتداد. إنّ الرياضة الحقة يقصد منها إبقاء الجسم سليماً مستعداً لكل طارىء، فهل هذا ما يقصد من الرقص؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، وهو ما يجيب به أصحاب نظرية الرقص، فهل لواحد من هؤلاء أن يجيب صريحاً على الأسئلة الآتية:
لماذا يشعر الراقص بصداع عندما ينهض من الفراش مساء الأحد إذ كان قد رقص ليل السبت بطوله كما هي العادة، أو صباح أي يوم آخر إذا كان قد رقص حتى نصف الليل أو إلى ما بعده؟ لماذا يشعر هو بتراخٍ وكسل في أعضاء جسمه؟ لماذا يشعر بوهن في قوته البدنية؟ لماذا يشعر بضعف في قواه العقلية حتى تعجزه المسائل البسيطة؟ لماذا يشعر أنّ قلبه يكاد يقفز من صدره إذا ركض هو مائة متر أو أكثر قليلاً لحاجة ما؟ لماذا يؤثر عليه البرد كثيراً حتى كأنه ييبسه أو الحرُّ حتى كأنه يخنقه أو يميته عياءً؟ لماذا يكون منخفض الصدر ومحدودب الظهر؟ لماذا يصاب بتلبُّك المعدة وعسر الهضم؟ لماذا يشكو دائماً من كثرة الأشغال وهي قليلة؟ لماذا يُصاب بمرض الضجر السريع؟
هذه الأسئلة وأمثالها لا يمكنك أن توجهها إلى الذين يستعملون الرياضة البدنية الحقة. وقد يجد أصحاب نظرية الرقص صعوبة في الإجابة عليها لأنها أسئلة قد لا تكون خطرت على بالهم من قبل، لذلك لا نكون قد أتينا أمراً إذا نحن أجبنا عليها حسبما نعتقده صواباً غير مجردين أحداً في الوقت نفسه من حق إبداء ما يعنُّ له بهذا الصدد: كل من له أقلّ إلماماً بالأوليات الطبيعية والقواعد الرياضية يدرك جيداً أنّ السهر وحده بدون أدنى عمل يُحدث في جسم الإنسان تأثيراً سيئاً، وأنّ العمل الليلي ينهك الإنسان ويضعفه. فعدم النوم في الليل عدوّ الرياضي اللدود، إذا أضفنا إليه ما يقوم به الراقص من الأعمال كان لنا جواب لا يقبل جدلاً على الأسئلة المتقدمة.
يبتدىء الراقص رياضته نحو الساعة التاسعة أو العاشرة ليلاً كما هي العادة، أي في الوقت الذي يكون الرياضي قد نام، وهو الوقت الذي تكون فيه السموم التي تطلقها النباتات قد امتزجت بالهواء وكثرت فيه. وهذه السموم وحدها كافية لأن توهن قوى الإنسان الجسدية والعقلية فيما لو كان مستيقظاً أو قائماً بعمل ما، فيأخذ بخصر الفتاة التي تقبل دعوته للرقص ويبتدىء بالدوران بها وهو مُلصق جسده بجسدها حتى تحسبهما غير منفصلين. ومن ثم تأخذ قوى الشعور والإحساس فيه كما في الفتاة في إجهاد نفسها متفاعلة تفاعلاً شديداً فيتسارع تنفّسه ويسرع نبضه وتكثر كميات السموم التي يتنشقها، والتي تكون قد تضاعفت كثيراً في جو صالة الرقص حتى تصبح غازاً ساماً بالمعنى الحرفي. وعندما تنتهي الرقصة يذهب الراقص إلى حيث «ينعش» نفسه بتناول بعض المشروبات الروحية التي تزيده تفاعلاً وتهيّجاً كما يزيد الهواء النار تسعراً وضراماً. ثم يعود إلى الرقص ظاناً أنّ ما يشعر به من التهيج قوةً ونشاطاً، والحقيقة أنه فوران وقتي يزول حالما يزول الفعل المهيج وتكون نتيجته ضعفاً ووهناً عاماً. فلو اضطر الراقص بعد ذلك أن يركض مسافة مائتي متر بسرعة لما تمكن من ذلك، بل إنه يسقط قبل بلوغ المسافة عياءً.
قد تقِلّ أضرار الرقص المادية فيما لو كان الرقص في النهار وفي مكان يملأه الهواء النقي، ولكنها لا تنتفي كلها أبداً ولا يعوض الرقص عنها بشيء. أما الأضرار الروحية والاجتماعية فلا تقِلّ مطلقاً سواء كان الرقص في الليل أو في النهار.
نحن من الذين يعتقدون أنّ الرقص الحالي وباء اجتماعي ويقولون بمحاربته بكل شدة، غير خائفين أن يقال عنا بين الراقصن والراقصات إننا من أبناء الجيل العتيق الذين ربوا على «التقاليد» القديمة. ونحن فوق ذلك من الذين يعتقدون بضرورة التقاليد والثبات على ما كان مفيداً منها، أما الخروج على التقاليد فلا معنى له إذا لم يكن هنالك تقاليد أخرى يؤخذ بها. وكل شيء جديد يصبح تقليداً، والتقليد الجديد إذا لم يكن أفضل من التقليد القديم كان من الحماقة أن يؤخذ به. والرقص واحد من التقاليد الجديدة التي هي أسوأ من كل قديم سيء. فالعالم اليوم في حاجة إلى من يوقف هذا الجيل ا لمجنون عند حد، بل إلى من يردُّه إلى الحدود القديمة والتقاليد الجميلة السالفة.
نحن لا ننزّه القديم عن الأغلاط والعيوب، ولكننا نعتقد أنّ هذا الجديد الذي بلغ هذا الحد من الفحش أقبح من كل قبيح قديم. فآلام الهيئة الاجتماعية قد بلغت حداً هائلاً من جرّائه، ولقد آن أوان ضرب مفاسد هذه المدنية ضربة قاضية يتنفس بعدها العالم الصعداء.
أنطون سعاده