المجلة،
سان باولو،
السنة 10، الجزء 9،
1/10/1924
منذ حادثة تلك الليلة الليلاء التي جرت سنة 1902، حين دخل رياض، عاصمة نجد، تسعة فرسان تتقد أعينهم اتقاداً مخيفاً، وتدلُّ هيئتهم العبوسة على أهمية الأمر الذي أقدموا عليه وذهبوا توّاً إلى قصر الحاكم المولّى من قبل آل الرشيد وقتل رئيسهم الشاب الحاكم بطعنة خنجر نجلاء وتكفّل الباقون بأهل القصر ــــ منذ حادثة تلك الليلة التاريخية الشهيرة في بلاد العرب التي انتهت بنجاح مهمة أولئك الفرسان التسعة ووقوف واحد منهم على سطح القصر الذي استولوا عليه صائحاً بأعلى صوته «الملك لله ولابن السعود!»، ابتدأ تاريخ فاتح عربي جديد له هيبة أمراء العرب المشهورين وصولة الغزاة الفاتحين، تجول في مخيلته خواطر تفوق في غرابتها خواطر ألف ليلة وليلة، وتجيش في صدره مطامح هي أبعد كثيراً من الاستيلاء على رياض أو نجد بكاملها.
إنّ تاريخ عبد العزيز آل سعود الفاتح العربي الجديد الذي حمل إلينا البرق خبر غارته الجديدة واستيلائه على مكة المكرّمة قلب الإسلام لمن التواريخ الجامعة بين غرابة الحقيقة ودهشة الواقع وروعة الخيال ولذة الرواية. بل هو رواية حقيقية مدهشة بطلها يلعب الآن على مسرح البلاد العربية ورمالها المحرقة دوراً رائعاً يخلب الألباب ويذهل العقول.
البطل:
عبد العزيز آل سعود موصوف بالحزم والشجاعة وقوة الإرادة والورع، لا يضطرب لقيادة الحملات وشن الغارات ولا يعرف في أعماله خوفاً ولا رهبة. وهو كريم الأخلاق يرفق بأعدائه الساقطين، يقدم هو على الأمر الخطير بعد إعمال الروية والتدقيق، ويعرف كيف يغنم الفرص متى سنحت. وهو طويل القامة يزيد طوله على ستة أقدام إنكليزية، متناسق التركيب قوي البنية شديد الأسر، قضى أيامه الماضية على صهوات الخيل حتى أصبح فارساً مرّاً ومثالاً للقوة الطبيعية.
لا يتجاوز عبد العزيز السابعة والأربعين، وهو كريم المحتد عريق في الشرف. كان آباؤه وأجداده أعظم أمراء العرب من قبله وأعرضهم جاهاً وأبعدهم صيتاً وأرهبهم جانباً. وكانت لهم مع الدولة العثمانية وقائع مشهورة كانوا هم الفائزين فيها إلى أن حاربهم محمد علي باشا بعد أن استنجد به السلطان محمود خان الثاني. وظلت حروب محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا معهم من سنة 1811 إلى سنة 1819، وانتهت تلك الحروب بأن الجيش المصري قهرهم وحصرهم في نجد.
صولة آل سعود:
ابتدأت صولة آل سعود في أوائل القرن الثامن عشر، أي منذ اليوم الذي أجار فيه الأمير محمد آل سعود في الدرعية محمد عبد الوهاب الذي تنسب الوهابية إليه، من شيخ «العينية» مسقط رأسه الذي أراد قتله أو نفيه بناءً على الأمر الصادر إليه من أمير «الحساء». وقد ساعد الأمير محمد آل سعود الشيخ محمد عبد الوهاب على نشر تعاليمه التي نلخصها في ما يأتي:
أداء الصلاة خمس مرات في اليوم، وصوم رمضان، والامتناع عن المسكرات، ومنع البغاء والميسر والسحر والربا والتدخين، وتفريق جزء من مائة من الأموال الزكاة على الفقراء، والتشديد في عقاب شهادة الزور، والحج مرة على الأقل في العمر، ومنع الرجال من لبس الحرير، وهدم المزارات وقبور الأولياء، وقتل المشركين.
وكان أول من تصدى لمقاومة الأمير محمد والمذهب الوهابي بالقوة هو ديهم بن دواس الذي كان آنئذٍ حاكم رياض، فحاربه ابن السعود وقهره. فكان النصر مشدداً لعزيمة الأمير محمد وفاتحة عهد صولة آل سعود.
أخذ أشياع المذهب الوهابي يتكاثرون بعد ذلك، واشتدت أواصر القربى بين آل سعود ومحمد عبد الوهاب بأن الأمير محمداً المذكور اقترن بابنة الشيخ محمد عبد الوهاب، التي ولدت له إبنه عبد العزيز السعودي الأول. فقام عبد العزيز هذا بعد موت والده بأعمال عظيمة وفتح فتوحات كثيرة، ومات قتلاً سنة 1802 إذ غدر به رجل فارسي. فخلفه إبنه سعود الذي نسج على منوال أبيه وهدد الدولة العثمانية في سورية والعراق، وتوجه إلى الحجاز وافتتح مكة في 27 أبريل/نيسان سنة 1803. وبعث على أثَر ذلك بكتاب إلى السلطان سليم الثالث ينبئه بأنه استولى على البيت الحرام وهدم أشباه الوثنية وأبطل ما كان على غير حق من الضرائب وما إلى ذلك. واستأنف بعد ذلك فتوحاته في الحجاز واستولى على المدينة المنوّرة. وبلغت حدود سلطنته سنة 1809 صحراء سورية من الشمال وبحر العرب من الجنوب وخليج العجم من الشرق والبحر الأحمر من الغرب.
أخيراً جاءت الحرب التي أقامها على الوهابيين محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا. وقد ذكرنا كيف انتهت تلك الحرب في ما تقدم. ولكن تلك الحرب لم تقضِ على صولة آل سعود بالمرة، فبقي هؤلاء آسيةد نجد بلا منازع إلى أن أثارت عليهم الدولة التركية آل الرشيد وبعض شيوخ آخرين، فلم يقوَ آل سعود على مقاومتهم والدولة التركية تعضدهم. وهكذا استفحل أمر آل الرشيد خصوصاً سنة 1892 فشتتوا آل سعود واستولوا على عاصمتهم رياض. وكان أمير آل سعود حينئذٍ عبد العزيز الحالي وله من العمر 15 سنة، فأخذ هذا من بقي له من المخلصين وسار هائماً بهم في البراري والقفار إلى أن استقر أخيراً في الكويت عند أميرها مبارك الصباح، الذي اتفق مع أمير المحمرة خزعل خان على معاضدته.
أحلام الأمير الشريد:
ترك عبد العزيز آل سعود نجداً وهو منسحق القلب مشتت البال. ولا عجب في ذلك فهو قد رأى نفسه مقهوراً ومطارداً من رجال كانوا رعايا لأسرته، ووجد مُلكه تمزقه الأعداء كل ممزق، فكبر عليه ذلك كثيراً. ولكنه تمكن بقوة الإرادة من تمالك نفسه والتغلب على أحزانه معللاً النفس بالعودة إلى سابق عزه ومجد آبائه السالف، لاهجاً في وحدته وانفراده بقول الشاعر:
سقى الله نجداً والسلام على نجدِ ويا حبذا نجدٌ على القرب والبعدِ
على هذا المنوال قضى عبد العزيز أيامه الطويلة القصيرة في الكويت يفكر بنجد وعرار نجد. ولكن لا بدّ أن يكون فكره قد تعدى ذلك الحد القصير، فهو أمير وللأمراء أحلام ألذَّ وأحلى من حب نجد والتمتع من شميم عرار نجد. ولما كان عبد العزيز لا يزال حينئذٍ في ريعان الشباب ومقتبل العمر، فمن الصعب جداً أن نحدد أو نَصَف الأحلام التي كان يحلمها ويعلل النفس بتحقيقها. ولقد رأى هو من الأميرين مبارك الصباح وخزعل خان ما قوَّى أمله وشدَّد عزيمته. الحق يقال إنّ عبد العزيز صبر على بلواه صبراً جميلاً أظهره بمظهر الرجل الكبير، ولم يجعل لليأس مجالاً إلى قلبه بل أخذ يضع الخطط ويعدّ الأهبة للعودة إلى رياض عاصمة مُلكه السابق والانتقام من آل الرشيد انتقاماً يجعلهم عبرة لسواهم.
الضربة الأولى:
أخيراً جاء اليوم الذي انتظره عبد العزيز بذلك الصبر العربي الذي لا مثيل له، وهو يوم يتوقف عليه تحقيق آماله وأحلامه أو خيبتها. ففي ذلك اليوم أجاب الأمير مبارك الصباح الأمير عبد العزيز آل سعود إلى طلبه وأمدَّه بثمانين هجاناً على ما هو معروف، كانت الجيش الأول الذي قاده عبد العزيز إلى استرجاع مُلكه بعد أن كان قد عاهد نفسه على القيام بعمل ينتهي بالخلافة أو الموت، كما ذكر ذلك أحد الكتّاب الأميركيين.
أعد عبد العزيز ذلك الجيش الصغير وهيأه على ما أراد، ثم سار به ووجهته رياض دون أن يشعر أحد بما هو سائر إليه. والذين رأوه لم يخطر لهم قط أنه يريد أن يهاجم بهذه الشرذمة الصغيرة إمارة لها جيش كبير يدافع عنها. والحقيقة أنّ عمل عبد العزيز هذا شجاعة نادرة تعدّ مجازفة خطرة، ولكن في مثل هذه الأحوال بيان الرجل العزوم من الرجل المتخاذل، وهي تخيّلات رجل طمّاح أتت بما يعدّه البعض معجزات.
إلى رياض حيث بسط آل الرشيد سلطتهم على أنقاض سلطة آل سعود بمعاونة الأتراك، سار عبد العزيز برجاله القلال تتنازعه عوامل غريبة وتجول في مخيلته خواطر عجيبة. حتى إذا ما بلغ ضواحي رياض خيم بجيشه إلى العشاء، وفي الليل أخذ ثمانية من رجاله فقط وانسل بهم إلى المدينة. فلما صاروا داخلها ذهبوا توّاً إلى قصر الإمارة دون أن تشعر المدينة الهادئة بشيء مما يعملون. وهناك صبروا إلى انتصاف الليل وحينئذٍ تسلقوا حائط القصر ودخل الأمير عبد العزيز وحده على وكيل الرشيد الذي كان نائماً آمناً من طوارق الحدثان، فلما وصل إليه انتضى من وسطه خنجراً محدَّد الطرف ورفعه في الهواء وهو ينظر إلى عدوه النائم نظر النسر الظافر، ثم طعنه طعنة نجلاء وهو موقن أنه ضرب ضربة قاضية. فلما أنهى عمله كان رفاقه أيضاً قد أنهوا عملهم مع من بقي في القصر. وفي الصباح فتح الأمير أبواب المدينة للغزاة الذين جاؤوا معه وظلوا خارجاً، وصعد أحد الثمانية الذين دخلوا مع الأمير في الليل إلى سطح القصر ونادى «المُلك لله ولابن السعود». وهكذا أعلن الأمير استرجاع إمارته، فجاء إليه من والاه وذهب مع آل الرشيد من عاداه.
منذ ذلك العهد ابتدأ ذلك العراك التاريخي بين أمير شاب يحارب في سبيل استرجاع مُلكه المغصوب وإشباع مطامحه التي تضيق بها رياض ونجد بكاملها وبين أمراء يريدون تثبيت المُلك الذي اغتصبوه وبسطوا سلطتهم عليه. فكان عراكاً شديداً أظهر فيه عبد العزيز عزماً وحزماً عظيمين، فكان النصر أبداً حليفه فبطش بالرشيديين بطشة الأسد وشتت شملهم رغماً من مناصرة الأتراك.
بعد حادثة رياض:
أخذ عبد العزيز بعد تثبيت نفسه في رياض يوسع مُلكه ويزيد فتوحاته، فأقام جيشاً دائماً على تمام الاستعداد كان يرسله عند الحاجة دون أن يحتاج إلى تحضيرات جديدة. أما كيفية ذلك التوسع فمدهشة جداً. ففي ذات يوم جميل يشاهد فارس غائر على جواد نجدي من أطيب جياد العرب ووجهته قبيلة عربية ضاربة في بعض الأنحاء. فإذا ما بلغها قصد إلى الشيخ وطلب منه باسم السلطان ابن السعود سلطان نجد تقديم الجزية، فإذا قبل الشيخ الطلب عنيت إجابته أنه صار في جانب الأمير عبد العزيز أما إذا أبى ففي صباح ذات يوم جميل تشاهد غمامة سائرة نحو قبيلة ذلك الشيخ لا تلبث أن تنجلي عن فرسان سوّدت وجوههم الشمس وصبغهم الغبار على خيل كأنها السراحين تأزم الحديد لشدة شوقها إلى الطراد، فتحدث معركة يخرج منها أولئك الفرسان ظافرين وقد أضافوا إلى انتصارات الأمير عبد العزيز انتصاراً آخر يزيد في رهبة جانبه وشدة صولته. وأحياناً كان جيش عبد العزيز يسير إلى غرضه ليل نهار بسرعة غريبة. وعلى هذه الطريقة يأمن لحاق الجواسيس أو الرسل. قد يسقط أثناء مسير الجيش بهذه السرعة رجال يكثر عددهم أو يقلّ على نسبة المسافة والمشقة، ولكن الجيش يظل سائراً إلى أن يبلغ المكان ويدرك العدو قبل أن يتمكن هذا من الهرب أو الاستنجاد. وقد أسفرت هذه الخطة عن نجاح باهر في أدوار كثيرة.
رغماً من الصرامة التي كان يستعملها الأمير عبد العزيز، فإن رعايا، الجدد كانوا يخلصون له إخلاص رعاياه الأولين. ولقد كان ظافراً في كل حروبه حتى أخضع أواسط بلاد العرب كلها له. وقد كان شديد العقاب مع القبائل التي كانت تخرج عليه. أما القبائل التي كانت تدخل في طاعته فكانت تصير قسماً من امبراطورية عربية كبيرة. ومن أفضل ما قام به الأمير المذكور التأمين على الأموال والأرواح ومنع الغزو والسرقة، فأنشأ في بلاد العرب تاريخاً جديداً في السلام لم يكن معروفاً من قبل.
ظلت الحال على هذا المنوال مدة خمس عشرة سنة فكان نجم ابن السعود يزداد تألقاً ولمعاناً. ولكنه مع ذلك بقي هو أميراً عربياً موضعياً رغماً من أنه كان أعظم أمراء العرب قوة وأشدهم سطوة، فأعدَّ هو إذ ذاك خطة هي خطة نابغة جريء وبضربة واحدة أظهر نفسه للعالم
ظهور ابن السعود على مسرح السياسة العالمية:
كان الأتراك المكروهون الذين كانت لهم السيادة الإسمية على بلاد العرب مستولين على الأحساء والقطيف، وهما أغنى قسم في شرقي بلاد العرب. كان يدفع أهاليهما للأتراك جزية سنوية. وكان للأتراك ثلاث فرق عسكرية هناك لأجل المحافظة، كانت تنقص على التوالي إلى أن أصبحت في أيام نهضة ابن السعود نحو 2.000 رجل أو أقلّ. ولكن الشأن الذي كان لابن السعود مع هذه الجنود، وهي في أصغر عدد، من الشؤون التي تستحق الاعتبار.
عزم الأمير عبد العزيز آل سعود على الاستيلاء على تينك المقاطعتين، فانتخب له ثلاثمائة فارس فقط وهاجم بهم الحامية التركية في عاصمة الحتوف حيث كانت نازلة. وقد أقدم على هذا العمل بعد أن أعدَّ له عدته، فقد كان له بعض الأحلاف في تلك المدينة الذين فتحوا له أبواب المدينة من الداخل فسقطت المدينة في يده من غير سفك دم تقريباً. وبسقوط العاصمة سقطت المقاطعة أيضاً، فكان من وراء ذلك أنّ مداخيل الأمير عبد العزيز قد زادت أو تضاعفت.
كان لهذه الضربة وقعها الذي أبرز الأمير عبد العزيز آل سعود إلى مسرح السياسة العالمية. وكان بعد استيلائه على مقاطعة الأحساء أنّ بريطانية اعترفت باستقلال نجد والكويت والمحمرة سنة 1913.
عدل ابن السعود:
رفق عبد العزيز بأعدائه المقهورين في الحتوف رفقاً كبيراً وساعد الذين يريدون الرحيل منهم على السفر إلى البحرين، أما الذين فضلوا البقاء وأن يكونوا من رعايا الحكومة الجديدة فقد قوبلوا بكل مودَّة.
ولكي يقيم الأمير الغازي النظام والأمن في تلك المقاطعة أقام عليها حاكماً عبد الله بن الجلوزي الذي أصبح مثالاً في كل بلاد العرب. فإن هذا الحاكم كان يعامل المجرمين والخارجين على النظام بشدة جعلت أشد الغزاة شراسة يرتعد من الخوف. وله أعمال مشهورة في هذا الباب منها أنه أمر مرة بجلد قافلة كاملة حتى الغيبوبة لأنها ارتكبت جريمة إهانة أحد الرعايا العاديين. أما الذين يسلبون القوافل فكان يأمر بقطع رؤوسهم وإلقاء جسومهم على الأرض يوماً كاملاً لتكون عبرة لكل من يراها.
أتت هذه الطريقة بالغرض المطلوب، فأصبحت الطرقات أمينة للغاية حتى إنه إذا سقط لأحد كيس أرز صدفة في الطريق فإن ذلك الكيس يظل في مكانه لا يمسه أحد إلى أن يأتي موظفو الحكومة لأخذه. ومن الحوادث التي اشتهرت عن الحاكم المذكور أنه أتاه في أحد الأيام بدوي وأخبره بأنه رأى في طريقه كيس بنّ في موضع كذا فقال له الحاكم «كيف عرفت أنّ الكيس يتضمن بنّاً؟» فأجاب البدوي قائلاً: «إني جسسته بإصبع رجلي»، وشرح الحادثة. حينئذٍ نادى الحاكم الجلاد وقال للبدوي «مدّ رجلك الآن»، ثم التفت إلى الجلاد الذي كان قد حضر وقال له «إقطع إصبع رجله». ففعل الجلاد كما أمره الحاكم الذي التفت بعد ذلك إلى البدوي وقال له «إني أريد منك الآن أن تفهم أنك متى وجدت كيساً ملقى على الطريق يجب أن لا تمسه بإصبع رجلك الطويل بل يجب أن تدعه وشأنه».
على هذه الخطة جرى أيضاً ضباط ابن السعود للقضاء على السلب والنهب والغزو التي كانت إلى ذلك الحين مهنة رجال القبائل. وهكذا أصبح الأمير عبد العزيز سلطان نجد عند بداءة الحرب أبرز شخصية في بلاد العرب، وصار مجلسه عنوان الكرم والضيافة الحسنة. فبيته المفتوح دائماً لا يخلو من 150 ضيفاً على الأقل في كل حين. وأحياناً كان يوجد عنده في رياض عشرة أضعاف هذا العدد من الضيوف. فهو وإن يكن قآسية في الحرب فإنه بشوش ولطيف في مجلسه حتى لقد يعشقه الأولاد الصغار. وهو كثير السخاء لذلك لا ترى خزينته تنمو مع ما هي عليه من كثرة الموارد. ففي عيد واحد ذبح هو 400 رأس غنم و93 جملاً لجماعة من الحجاج الزائرين. فلا عجب إذا كان رعاياه الذين يبلغون المليونين يحبونه كثيراً، وكثير منهم يفدونه بحياتهم في تلك البلاد التي يعيش فيها القوم على حفنة تمر وجرعة لبن في الوقعة حيث الماء لا وجود له بكثرة، وأحياناً يكون قليلاً إلى حد أنه لا يكفي للارتواء الكثير، ولا يسمح بأخذ شيء منه للغسل. وكلنا نعرف ما هو لباس العربي المؤلف من عباءة تراكمت عليها الأوساخ ولصقت بها الزيوت والشحوم وقميص. ولكن العرب مع ذلك يعيشون بالحروب، وهم كثيرو التديُّن كما نعلم وأكثريتهم تقرأ القرآن بسهولة.
عندما جاءت سنة 1914، كان الشيء الوحيد الذي يقلق نجداً هو الشعور بأن البلاد كثيرة السلام. فكان الرجال الذين اعتادوا الحرب يتعطشون إلى القيام بالأعمال الحربية، لأن ذلك السلام الذي لم يعتادوه من قبل لم يرق لهم. أما عبد العزيز فإنه لم يكن قد أنهى العراك بينه وابن الرشيد، فإن آل الرشيد كانوا لا يزالون يملكون شمر في الشمال ولكنه كان يترقب الفرص.
العاصفة بعد السكون:
إنّ الانفجار الحربي الذي حث في أوروبة سنة 1914 بلغ بلاد العرب كما بلغ غيرها من بلدان الغرب والشرق، فتشنجت نجد تشنجاً غريباً ورأى السلطان عبد العزيز الفرصة سانحة لضرب عدوين لدودين في آنٍ واحد. وهذا العدوان كانا آل الرشيد والأتراك.
إنّ العرب لم يحبوا مطلقاً الأتراك الذين استولوا على بلاد العرب وكانت لهم السيادة الإسمية عليها منذ سنة 1517، في حين أنّ سيادتهم الفعلية لم تمتد إلى أبعد من بضعة أميال من الشاطىء. فلما استعرت نار الحرب أعلن السلطان عبد العزيز انحيازه إلى الحلفاء وإلى بريطانية على الأخص، وابتدأ يضطهد الأتراك وآل الرشيد الذين انحازوا إليهم.
وبينما ابن السعود آخذ في إجراءاته ظهرت في الجانب الغربي البعيد من بلاد العرب حركة تشابه حركته قام بها الحسين بن علي وابنه فيصل. فإن الحسين الذي كان حينئذٍ أمير مكة منذ سنة 1908 أعلن هو أيضاً انحيازه إلى بريطانية، فبعث إليه البريطانيون الكولونيل لورنس الشهير بتعليمات من مصر، فقابل هذا الكولونيل الأمير فيصل ووضع معه اتفاقية متينة في الغرب.
وكان لبريطانية في الكويت على شاطىء خليج العجم من الجهة الشرقية لبلاد العرب قبطان إسمه شكسبير، فأرسلت بريطانية هذا القبطان إلى ابن السعود بمهمة كالتي عهدت بها إلى الكولونيل لورنس مع الحسين. وبين ابن السعود والحسين وجد الأتراك وآل الرشيد أنفسهم بين نارين آكلتين.
إشتهار الحسين أكثر من ابن السعود صدفة:
إنّ تاريخ ابن السعود أظهر أنّ هذا السلطان أفضل من الحسين في كل شيء، فهو له سيرة حقيقية قد تبدو للحسين رواية خيالية لغرابتها. ولكن حادثة صغيرة لم يعبأ بها ابن السعود أو غيره جعلت الحسين يتقدم عليه في مجال السياسة عند الدول الأوروبية.
يعود تاريخ الحادثة المشار إليها إلى الرابع والعشرين من يناير/كانون الثاني سنة 1915، وهو اليوم الذي اشتبك فيه ابن السعود بمعركة فاصلة مع ابن الرشيد. ففي تلك المعركة حدث أنّ القبطان شكسبير الذي تعيّن من قبل بريطانية لإرشاد ابن السعود قُتل أثناء قيامه بمهمة خصوصية. فكان لهذه الحادثة تأثير كبير على ما جدّ بعد ذلك من الحوادث لم يكد ينتبه إليه أحد.
كان من وراء هذه الحادثة أنّ ابن السعود خسر ساعده الأيمن بل عضده الوحيد في المخابرات الدولية أثناء الحرب وبعدها، في حين أنّ الحسين وابنه فيصلاً كانا يجنيان من وراء أَمال الكولونيل لورنس الثمار الشهية التي انتهت باستقلال الحجاز وملكية الحسين فيه وملكية ابنه فيصل في سورية أولاً والعراق ثانياً وآخراً. ولا يزال صدى أعمال الكولونيل لورنس الشهير في سبيل قضية الحسين في مؤتمرات أوروبة يرنُّ في آذان العالم إلى اليوم. بيد أنّ ابن السعود لم يبالِ بهذه الخسارة، ولا ندري إذا كان ذلك بقصد أو بغير قصد، وظل يحارب بحماسة شديدة حتى تمكن من الانتصار على الرشيدين انتصاراً نهائياً وإخراج الأتراك من قسمه في بلاد العرب.
في تلك الأثناء كان الأمير فيصل والأمير عبد الله يقودان بتدريب الكولونيل لورنس جيشاً عربياً آخر من رجالهما، وأخذا يدفعان الأتراك شمالاً على امتداد البحر الأحمر فأخلى الأتراك لقوات الحسين المذكورة جدة ومكة والطائف. وهكذا خرج الأتراك من بلاد العرب كلها. فلما دحر الجنرال اللنبي الأتراك نهائياً في الشمال البعيد في فلسطين، أمّنت بلاد العرب على تحريرها نهائياً من الأتراك وأصبحت بلاداً حليفة للحلفاء.
كان الحسين عند ذلك الأقرب إلى إجراءات الحلفاء، ولذلك عُرف عندهم أكثر من غيره. فنال من وراء ذلك بفضل مساعدة الكولونيل لورنس حصة الأسد من الغنيمة، فاستقل بالحجاز واعترف الحلفاء به ملكاً عليها. أما فيصل فعيّن ملكاً لسورية كما نعلم ثم عيّن بعد خروجه منها فاشلاً ملكاً على العراق، وهو باقٍ هناك إلى اليوم.
ومن نكد الدنيا على الحر:
لم يقف الحسين عند حد استقلاله بالحجاز بل رأى الفرصة سانحة لإبلاغ مطامحه حداً بعيداً فاتفق مع بعض الذين التفوا حوله على إنشاء امبراطورية عربية تشمل سورية كلها بما فيها لبنان وفلسطين. ولا ندري إذا كانت قد وقفت عند هذا الحد أو شملت مصر وتونس والجزائر ومراكش أيضاً التي يدعى أهلها عرباً لأن فيهم دماً عربياً ولأنهم يتكلمون العربية أو لمجرد أنهم يدينون بالإسلام. فأعلن نفسه سلطان أو ملك العرب، على أنّ الحلفاء لم يعترفوا به إلا ملك الحجاز، وذهبت مساعي فيصل ولورنس في مؤتمر الصلح لإدراك هذه البغية أدراج الرياح.
رأى ابن السعود من وراء ذلك أنّ الحسين قد تجاوز حدوده وحدّث نفسه بما لم يحدّث نفسه به هو نفسه الذي بلغ من السطوة والصولة ما لم يبلغه الحسين ولا يبلغه ولن يبلغه. ووجد أنّ في إعلان الحسين نفسه ملك العرب إجحافاً بحقوق نجد وتهديداً لاستقلال نجد، فتلهّب قلبه على الحسين غيرة وغيظاً. ولكنه لم يجد في بادىء الأمر فرصة تمكنه من إظهار ما به وتنفيذه، إذ كان والحسين يحاربان سوية ويسيران نحو عرض واحد، فكانا يظهران الصداقة الواحد منهما للآخر في حين أنّ كل واحد منهما كان يود لو يتمكن من خنق الآخر.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوّاً له ما من صداقته بُدُّ
ظلت الحال على ما هي عليه من إظهار الوداد بين ابن السعود والحسين إلى أن كانت سنة 1919، حين انتهى كل شيء وجاء دور الحساب. فقام بينهما خلاف على الحدود بين نجد والحجاز وأدى ذلك الخلاف إلى قتال، فجرت معركة بين رجال نجد ورجال الحجاز أسفرت عن خسارة الحسين 4.500 رجل. ولكن الأوروبيين تدخلوا بين الفريقين وحسموا الخلاف.
بيد أنّ ذلك الحسم كان أشبه بتغطية النار بالرماد، ولكنها كانت تغطية دامت إلى هذه السنة. ثم عادت نار الحرب إلى الشبوب، وفي هذه المرة تخلَّت أوروبة عموماً وبريطانية خصوصاً عن الحسين بالكلية، وأظهر ابن السعود سلطان نجد أنه يريد أن يضرب ضربة تقضي بينه وغريمه إلى الأبد أو إلى أمد بعيد جداً على الأقل.
السيف أصدق إنباءً من الكتب:
زاد نيران الغيظ والغضب في قلب السلطان عبد العزيز سعيراً إعلان الحسين نفسه خليفة المسلمين في الأرض قاطبة. ولما كان عبد العزيز يرأس مذهباً جديداً في الإسلام، أتينا على خلاصته فيما تقدم، فإن إعلان الحسين نفسه خليفة جعله خصماً لعبد العزيز في شيئين: أولهما الملك على العرب وعبد العزيز أجدبه منه، و ثانيهما الخلافة وعبد العزيز خليفة محمد عبد الوهاب الذي يريد أن يصلح الإسلام «بالعود إلى القرآن الكريم». وهو والحالة هذه لا يعترف بخلافة الحسين لا من حيث أهلية الحسين ولا من حيث مبدئه الديني، فرأى أن يكون السيف الحكم بينه وغريمه في هاتين القضيتين الهامتين. وإلى السيف عمد:
«والسيف أصدق إنباءً من الكتبِ في حدِّه الحدُّ بين الجدّ واللَّعبِ
أخذ عبد العزيز منذ ذلك الحين يعدّ العدة ويتحيّن الفرصة السانحة التي تمكنه من ضرب خصمه ضربة قاضية لا تقوم له من بعدها قائمة، إلى أن شعر أنّ الفرصة قد سنحت هذه السنة حين لم يقبل الحسين المصادقة على المعاهدة مع بريطانية بعد أن قامت عليه قيامة السوريين في فلسطين، وتُرك إذ ذاك الحسين ليقرر مصيره بيده.
ثالثة الأثافي:
كان ينقص إضرام نار الحرب بين السلطان عبد العزيز آل سعود والملك حسين بن علي شرارة صغيرة تصل إلى مخزن البارود. وهذه الشرارة جاءت في مسألة الحج، فإن الحجاج أخذوا يتذمرون من سوء المعاملة والضيافة عند الحسين، حتى أنهم كانوا يقاسون شدائد. فكانت مسألتهم هذه ثالثة الأثافي التي كان عبد العزيز يبحث عنها، فجاءته من تلقاء نفسها.
وجد عبد العزيز في مسألة الحج العذر الشرعي الذي كان يبحث عنه لضرب غريمه، وأيقن أنه إذا ترك هذه الفرصة تمرّ دون أن ينتهزها فقد ينتظر غيرها عبثاً. فتناولها كما يتناول المبارز قفازاً رمي إليه. وبعد أن عقد مؤتمراً للبحث في المسألة المذكورة قرّر وجوب مهاجمة الحجاز، وكان ذلك منذ بضعة أشهر.
وضع عبد العزيز الخطة التي عزم على اتّباعها. وفي صباح أحد الأيام أذاعت الجرائد في العالم كله نبأً برقياً أحدث دوياً كبيراً، وكان مفاد النبأ أنّ قوات نجد اجتازت الحدود إلى الحجاز استولت على الطائف. وكانت قوات نجد قد هاجمت قبل ذلك شرق الأردن لأمر لا نعلمه وارتدت عنه. ثم أخذت الأنباء البرقية ترد كل يوم عن تقدم قوات نجد أو قوات الوهّابيين وتهديدهم مكة، واستيلائهم عليها بعد أن تنازل الحسين عن الملك لابنه الأمير علي الذي حاول أن يصل إلى تفاهم مع السلطان عبد العزيز على غير طائل. وقد جاء في الأنباء البرقية أنّ رسائله كانت تلقى في سلة المهملات.
على هذه الكيفية انتهت رواية الامبراطورية العربية التي حلم بها الحسين وأولاده، وكانت حلماً لا يحقق. وابتدأ عبد العزيز في إنشاء سلطنة عربية إذا انحصرت في بلاد العرب فإن نجاحها معقول.
لقد صرف الحسين السنين الطوال يُعدّ طريق الامبراطورية العربية، التي قال لنا بعض الخياليين إنها ستكون القوة الهائلة التي ستقف في وجه الغرب كله، وهو في الحقيقة لا يكاد يملك موضع قدميه في بلاد العرب. فنرجو أن يكون هو أمثولة لابن السعود الذي نظن أنه يعرف كيف يستفيد من الدروس التاريخية.
أنطون سعاده