المجلة،
سان باولو،
السنة 10، الجزء 9،
1/10/1924
كان ارتقاء العمال إلى مراتب السلطة في بريطانية العظمى المحافظة حادثاً مدهشاً في حياة تلك الدولة النظامية الكبرى.
إنّ تاريخ بريطانية هو تاريخ المحافظين. فالمحافظون هم الذين بنوا الامبراطورية البريطانية وشيدوا دعائمها، وقاموا بأعباء ذلك العمل العظيم الذي وضع بريطانية في المرتبة التي هي فيها اليوم. ومما يجب معرفته عن هؤلاء المحافظين أنهم ليسوا كمحافظي الأمم الأخرى المفطورين على السيادة التي لا حدّ لها، بل هم مشهورون بالاعتدال وتحكيم العقل والرضوخ للبراهين القاطعة. فعندما يبدو البرهان لهم ينقطعون عن الجدال والمماحكة ويجاريهم في هذ المزية الشعب البريطاني كله.
لم يكن قيام حكومة عمال في بريطانية ناشئاً عن انحياز الشعب البريطاني إلى الاشتراكية، فالعمال لا يزالون في بريطانية أقلية. ولم تحدث في بريطانية من جراء ذلك مشاغب قط لأن المسألة كانت مسألة مصلحة الأمة. والمحافظون رأوا أن يفسحوا المجال لعمل العمال إذا كان هؤلاء يستطيعون القيام بشيء، مترقبين الفرص التي تسمح لهم هم أنفسهم بالعودة إلى إتمام سياستهم. وعليه يمكن القول إنه كان لبريطانية حكومة عمال في حين أنّ بريطانية بقيت محافظة.
عندما قبض العمال على أزمَّة السلطة ظنَّ بعضهم أنّ ذلك الحادث كان نتيجة ثورة سلمية انتهت بانتزاع مقاليد الأمور من المحافظين والسير ببريطانية نحو أغراض ومقاصد لا يدري أحد أين تكون محجتها. بيد أنّ الحقيقة لم تكن كذلك، فلم يكن في بريطانية ثورة قط. وما برهن عنه العمال البريطانيون، ونعني بهم العمال الفعليين والمبدئيين، هو أنهم ليسوا عمالاً متهوسين جداً في أعمال الهدم. إنهم كانوا اشتراكيين يرغبون في وضع النظام الاشتراكي المعتدل موضع الأنظمة القديمة. ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يحلُّون اختبارات الحياة محلَّها من الاعتبار. فلم يكن الشوق إلى قلب النظام البريطاني رأساً على عقب يتلظى في داخلهم. ولم يكونوا يشعرون كغيرهم أنّ المال الذي تجرّدوا للقيام به يكفل لهم الراحة والسعادة متى تمكنوا من إلغاء النظام القديم دفعة واحدة ووضع نظريتهم موضع التنفيذ. لا شك أنهم نظروا إلى روسية ورأوا كم تقتضيه عملية القلب دفعة واحدة من الآلام، فاعتبروا. ولما تسلّموا زمام الأحكام وجدوا أنه يوجد بين النظريات والعمليات فروق كثيرة لم تدخل في تقديرهم. فمسؤولية قلب امبراطورية اقتضى بناؤها أجيالاً لأعظم كثيراً مما يخمنه بعض الخياليين. ولا يمكن جماعة عاقلة تقدّر جهود الأعمال البنائية حق قدرها أن تقدم على اتخاذ تلك المسؤولية على نفسها بكل دمٍ بارد. ولقد أحسنت بريطانية إحساناً عظيماً بوضعها عليها حكومة عمال تضيف إلى نظرياتها اختبارات توسع مداركها وتعدّل خواطرها.
رغماً من أنّ العمال كانوا معتدلين في فلسفتهم الاشتراكية، فهم كانوا ينوون القيام بأمور كثيرة في سياسة بريطانية الداخلية. ولكنهم لم يتمكنوا من فعل شيء منها في التسعة أشهر التي مرت عليهم وهم في الحكم. وسبب ذلك هو أنهم كانوا أقلية لا يتمكنون من القيام بشيء لا يعضدهم فيه الأحرار الذين عاونوهم في بلوغ السلطة. بيد أنّ الأعمال التي قامت بها وزارة العمال في السياسة الخارجية فاقت أعمال كل الوزارات التي سبقتها بعد الحرب مجموعة، وهي أعمال عظيمة أظهر فيها رئيس الوزارة مقدرة وكفاءة نادرتين. فإليه يعزى سقوط وزارة بوانكاريه العسكرية في فرنسة، وقيام وزارة هريو على أنقاضها، ووضع تقرير داوز موضع التنفيذ، وحلّ مشكلة الروهر، وزيادة أهمية جمعية الأمم، وأشياء كثيرة غير هذه أدت إلى تحسين حالة أوروبة السياسية تحسيناً كبيراً.
لم يكن يُنتظر من وزارة مكدونالد أن تفعل أكثر مما فعلت وهي على ما هي عليه من التقيد بنظريات الأحرار. وقد ظلّت هي سائرة في أعمالها إلى أن عرضت مسألة المعاهدة الروسية ــــ البريطانية التي أوقفت العمال في جانب والمحافظين والأحرار في جانب آخر. لو فُسح لوزارة العمال في الأجل لكانت أضافت إلى أعمالها الباهرة أعمالاً أخرى لا تقدّر تماماً أين تقف. ولكن المعاهدة الروسية ــــ البريطانية فتحت باب الخلاف بين نطريتين حيويتين على مصراعيه، هما: نظرية الاشتراكية ونظرية رأس المال. والمعاهدة المذكورة هي في مصلحة النظرية الأولى، أكثر مما هي في مصلحة النظرية الثانية، وهي لروسية أفضل ما هي لبريطانية.
قَدِم الوفد الروسي إلى إنكلترة وأهم مطاليبه أن ينال من بريطانية قرضاً تضمنه حكومة هذه البلاد نفسها. فلما ابتدأت المخابرات للوصول إلى اتفاق بين روسية وبريطانية، سار كل شيء سيراً حسناً إلى أن عرض الوفد الروسي مسألة القرض، فلاقت هذه المسألة إعراضاً من مكونالد الذي أفاد الوفد الروسي حينئذٍ أنّ حكومة بريطانية تشجع عقد قرض لروسية ولكنه لا تكفل قرضاً ما. فأبى الوفد الروسي أن يتمم مع بريطانية اتفاقاً لا يكون فيه قرض مضمون من حكومة بريطانية. وكان ذلك باعثاً على توقف العمل بسبب عدم اتفاق الآراء والمطاليب. ولم تعد المخابرات إلى سيرها ويتم وضع المعاهدة الروسية إلا بعد أن قبل مكدونالد مطالب الوفد الروسي بشأن القرض.
لهذا القرض وجهتان: إحداهما حسية والأخرى معنوية. فمن الوجهة الحسية نجد أنّ القرض جسيم المبلغ إذ هو يبلغ مائتي مليون ريال أميركي. وبريطانية لا تجد نفسها في حالة موافقة لتقديم هذا المبلغ على صورة غير أمينة تكون نتيجتها إثقال كاهل دافع الضرائب على غير جدوى. ومن الوجهة المعنوية يظهر جلياً أنّ ضمان حكومة بريطانية ذلك القرض يعني إزالة مسؤولية دفعه في الدرجة الأولى عن عاتق روسية ووضعها على عاتق الحكومة البريطانية. ولكي تتمكن حكومة بريطانية من اتخاذ هذه الخطوة الواسعة يجب أن يكون لها ملء الثقة بالحكومة الروسية والنظام الروسي. ولكن هذه الثقة غير موجودة إلا عند العمال فقط، ولا يمكن الجزم بمبلغها حتى عند هؤلاء لأن الفروق بين الاشتراكية المعتدلة التي يقول بها هؤلاء والشيوعية المتطرفة التي يسير عليها القوم في روسية كثيرة لا يمكن الإغضاء عنها. وهذا ما حمل مكدونالد على رفض ضمان القرض بادىء ذي بدء. وقد لا يكون عاد إلى قبوله إلا تحت ضغط غير منظور كما هو الشائع. والإنكليز يقولون من يدري أنّ هذا القرض لا يذهب إلى القيام بسعاية بلشفية منظمة قد يوجَّه أكثرها ضد بريطانية التي كفلت حكومتها القرض. ومن يدري أيضاً أنّ حكومة روسية ترفض بعد حين يسير من الزمن أحقية القرض وسائر شروط المعاهدة، وهي حكومة ثوروية أقصى أمانيها أن تُضرِم في العالم نار ثورة تأكل الأخضر واليابس ولا تُبقي إلا على العمال. أما مسألة أنّ نصف القرض أو أكثره سينفق في بريطانية، فالإنكليز يعرفون أنّ مَثَلهم يكون إذ ذاك كمثل تاجر يقرض إنساناً آخر دراهم لكي يشتري بها أو ببعضها أشياء من محله.
تجاه الحقائق المتقدمة أخذ المحافظون يتأهبون للمعركة الفاصلة التي تقرر انتصارهم أو انكسارهم. وتخلى الأحرار عن مناصرة العمال وانحازوا إلى المحافظين والعمال بدورهم شرعوا يعدّون عدتهم للوقوف موقفاً حاسماً أمام أخصام مبدئهم. ولكن قبل هبوب هذه العاصفة الهائلة التي كان يرجح من ورائها القضاء على حكومة العمال البريطانية الأولى، حدث حادث آخر ناب على صغره عن حادثة المعاهدة المذكورة في إسقاط وزارة مكدونالد. والحادث المشار إليه ليس في حد ذاته أمراً عظيماً يتوقف عليه سقوط حكومات، ولكنه حادث كبير في معناه لأنه يمس العدل ومركز الحكومة البريطانية. ومفاده ذلك الحادث أنّ أحد مجرري «أسبوعية العمال» نشر في تلك الصحيفة مقالة يحث فيها الجنود البحريين والبريين البريطانيين على التمرُّد موصياً إياهم بأن لا يذهبوا أبداً إلى محاربة إخوانهم العمال من أية أمة كانوا، وأن يستعدوا للحرب المقبلة التي ستعلن على أصحاب الامتيازات ورؤوس الأموال. فأدى صدو رالعدد المنشورة فيه المقالة المشار إليها إلى توقف المحرر الحالي لتلك الصحيفة والادعاء عليه بأنه يحرّض الجنود البريطانية على الثورة وقلب النظام. ولكن المدعي العمومي عاد فسحب الدعوى المقامة على ذلك الصحافي مستنداً في ذلك إلى أنّ المقالة التي نشرت ليست من قلم المحرر الموقف، وأنّ ما جاء فيها لم يكن إلا اقتباساً عن صحف أخرى وأنّ المحرر المذكور يشغل وظيفة محرر مؤقت في «أسبوعية العمال»، فهو والحالة هذه ليس المحرر المسؤول وأنه من الجنود المخلصين الذين شوهتهم الحرب وبناءً عليه أخلي سبيله. بيد أنّ ما أذاعه ذلك الصحافي والصحيفة المشار إليها بعد ذلك لم يكن منطبقاً على أقوال المدعي العمومي. فقد قال هو إنّ المقالة المشار إليها ليست مقتبسة عن صحف غريبة بل هي أُنشئت خصيصاً لتنشر في «أسبوعية العمال»، وقد نشرت بموافقته هو. وقالت «أسبوعية العمال» أنه يشغل وظيفة دائمة في تحريرها وأنه من مديريها المسؤولين. فقامت لذلك قيامة المحافظين الذين اتهموا وزارة العمال بالخضوع لإرادة قوية غير ظاهرة تملي عليهم ما يجب أن يفعلوه وطلبوا توبيخها. ولكن الأحرار حوّروا الطلب المذكور بطلب تعيين لجنة تبحث في الأسباب الحقيقية التي حملت المدعي العمومي على رفع الدعوى وتوقيف المحاكمة. فلم يرق ذلك للعمال ورفضوا العمل به قائلين إنهم لم يعرفوا قط أنّ حكومة ما قد عوملت على هذه الكيفية المعيبة، وأنهم إذا سمحوا بذلك تظل وزارتهم عرضة للشك والبحث عن أعمالها في كل مسألة. ولكن المحافظين والأحرار أصروا على طلبهم، فلم يبقَ أمام العمال إلا أن يجيبوهم إلى طلبهم أو أن يطلبوا من الملك حل المجلس، ففضلوا الأمر الأخير الذي قضى على حكومة العمال الأولى في بريطانية.
جرّت خطوة العمال الأخيرة البلاد إلى انتخابات مستعجلة اتفق فيها المحافظون والأحرار على العمال. فكانت معركة إنتخابية حامية الوطيس، كان سلاح المحافظين والأحرار فيها انتقاد المعاهدة الروسية وعمل حكومة العمال في حادثة الصحافي الشيوعي المشار إليه آنفاً. فقالوا عن المعاهدة الروسية إنها تجلب على البلاد خسارة كبيرة فضلاً عن أنها لا تعبّر عن اتفاق الحكومتين البريطانية والروسية. واستندوا في هذا الرأي الأخير إلى الخطاب الذي ألقاه كامينف الذي قال إنه لا يترتب على روسية بموجب المعاهدة المذكورة أن تقوم بعمل شيء أو أن تتعهد بشيء ما، بل كل ما يترتب عليها هو أن تستمر على المخابرة والبحث مع البريطانيين. وفسّر المعاهدة المذكورة بأنها نصر عظيم لحكومة الثورة على أعظم امبراطورية رأسمالية في العالم. وزاد أنّ روسية تنال بموجب المعاهدة قرضا كبيراً من بريطانية تضمنه حكومة بريطانية نفسها، فإذا أنكرت روسية بعد ذلك القرض المذكور فإن حكومة بريطانية تدفع قيمته عنها. أما حادثة الصحافي المذكورة فقال المحافظون والأحرار أنها تلاعب معيب، واعتبروا رفع الدعوى عملاً ناشئاً عن ضغط شديد على حكومة العمال، كما اعتبروا موافقة العمال على المعاهدة الروسية كذلك.
أما العمال فقد دافعوا عن المعاهدة الروسية بأنها توجد عملاً للبطالين وتفتح لبريطانية سوقاً كبيرة في روسية. وقالوا عن مسألة رفع الدعوى عن الصحافي الشيوعي إنها مسألة سارت على غاية ما يكون من الأمانة. وأشار العمال إلى العمل الكبير الذي قاموا به في سبيل توطيد السلام في أوروبة. وقابلهم المحافظون والأحرار بأنه يجب إيجاد عمل للبطالين بدون المخاطرة بقروض كبيرة، وبأنه يجب الاهتمام بالامبراطورية قبل الاهتمام بأوروبة.
على هذا المنوال قامت المعركة الانتخابية، فكانت معركة مشؤومة على العمال. وقد زادها شؤماً كتاب زينوفيف الذي قيل إنّ زينوفيف رئيس الأنترناسيونال أرسله إلى الحزب الشيوعي في بريطانية يحثه فيه على الاستعداد للمعركة القريبة. ورغماً من تكذيب زينوفيف نفسه صحة رواية الكتاب وتبرئة روسية نفسها منه، فقد اعتبر البريطانيون ذلك الكتاب صحيحاً وعدّوه تداخلاً أجنبياً في شؤونهم الداخلية. فكانت حادثة ذلك الكتاب من جملة الأسباب التي ساعدت المحافظين كثيراً.
انتهت المعركة الانتخابية بفوز المحافظين فوزاً كبيراً لم يسبق له مثيل. فقد نالوا هم نحو 410 كراسٍ في المجلس في حين أنّ العمال نالوا نحو 152 كرسياً أما الأحرار فإنهم نالوا نحو 40 كرسياً فقط. لذلك يمكن القول إنّ المعركة الانتخابية كانت أكثر شؤماً على الأحرار منها على العمال، لأن خسارة أولئك أربت كثيراً على خسارة هؤلاء.
أما الآن، وقد قبض المحافظون على أزمّة السلطة في بريطانية وعلى رأسهم بالدوين الذي انتخب لرئاسة الوزارة يرافقه أوستين تشمبرلين الذي يُعَد الآن من أقدر سياسيــي بريطانية والذي عيّن وزيراً للخارجية وأمثال تشرشل المشهور بسياسة الامبراطورية الصارمة ولورد كرزون الذي كان وزيراً للخارجية أثناء وزارة بالدوين الأولى، فإن تأثير ذلك سوف لا يقتصر على السياسة البريطانية بل يتناول السياسة الأوروبية كلها.
لا ندري كيف يكون موقف المحافظين تجاه روسية، ولكننا نشعر أنّ الحقيقة هي كما قال مكدونالد. فروسية سوف لا تنفك عن إقلاق بريطانية. وأفضل طريقة لهذه هي أن تجعل روسية صديقة لها. أما فيما يختص بفرنسة وألمانية فلا يمكن الآن الجزم بما سيكون من أمرهم مع الحكومة البريطانية المحافظة، لأن كل شيء يتوقف على الخطة التي ستجري عليها الحكومة الجديدة والتي لم تعرف بعد. ولقد كان لانتصار المحافظين البريطانيين تأثير على الانتخابات في الولايات المتحدة. فلافوليت الذي يشبه مكدونالد في الولايات المتحدة قد سقط إلى الدرجة الثالثة بعد أن كان يرجى هنالك أن يكون في الدرجة الثانية بعد كوليدج على الأقل.
ومع أنّ انتصار المحافظين في بريطانية كان عظيماً جداً، فلا يمكن القول إنّ اندحار العمال كان نهائياً. كما أنّ الأحرار الذين لهم تاريخ مجيد في الامبراطورية البريطانية لا يمكن أن يتلاشوا. فالأسباب التي ساعدت المحافظين على مناوئيهم لا يمكن أن توجد في كل معركة إنتخابية.
إنّ الاشتراكية سائرة إلى الأمام، ووزارة العمال لم تبرهن عن قصور وسوء إدارة. فلا يبعد مطلقاً أن يكون انتصار المحافظين الباهر أشبه بتألق المصباح قبل انطفائه.
أنطون سعاده