آداب اللغة: اللغة العربية والألفاظ الإفرنجية


المجلة،    
سان باولو،  
السنة 11، الجزء 3،    
1/4/1925

وردنا الجزء الرابع من المجلد الحادي عشر من رصيفتنا «الكلية» التي تصدرها في بيروت الجامعة الأميركية، وفي جملة أبحاثه المفيدة بحث جديد في موضوع جديد يظهر أنه قد ابتدأ يأخذ دوراً جدياً هاماً. أما الموضوع فهو إيجاد تفاهم بين اللغة العربية واللغات الإفرنجية من حيث الألفاظ، وأما البحث فعنوانه «الألفاظ الإفرنجية بحروف عربية» لصديقنا السيد توفيق قربان.

بعد اطلاعنا على بحث الصديق المذكور، رأينا أن نثبت هنا رأينا في الموضوع والبحث كليهما لما لهما من الأهمية في حياة اللغة العربية خصوصاً، لأن هنالك اقتراحات إذا عُمل بها أدتنا إلى حيث لا ندري. وإننا نبدأ الآن بقول كلمتنا في الموضوع.

إنّ الأمم والشعوب متى كانت منفردة، أي معتزلة الواحدة منها عن الأخرى، لا يمكن أن تتألف منها وحدة تسمى «البشرية» أو «الإنسانية» على الإطلاق. فالبشرية أو الإنسانية وتطورها باعتبار أنها تركيب كامل لا يتم إلا إذا كانت أجزاؤها أو الأمم التي تكوّنها مترابطة ترابطاً تاماً بتلك الواسطة الأساسية التي تسمى العقل البشري. فالعقل البشري هو البشرية أو الإنسانية كلها متى كانت أقسامه على اتصال بعضها ببعض بما يطلق عليه إسم «أفكار» أو «خواطر» تسير بين الأمم كلها، فإذا لم يكن ذلك بَطُل أن يكون هنالك إنسانية كاملة بمعناها العصري واقتصرت لفظة الإنسانية على التعبير عن الإنسان تمييزاً له عن الحيوان. ولا يتسنى لأجزاء العقل البشري أن تكون على اتصال بعضها ببعض إلا إذا توفرت لها وسائل التفاهم التي تحمل إلى العقل السوري أو المصري فكر العقل الإنكليزي أو الألماني مثلاً.

لا نظن أنه يوجد أمة ترضى اعتزال العالم لو خيّرت، أو تتمكن من ذلك إذا عقدت النية عليه. بناءً عليه كان واجب كل أمة أن تسهل وسائل التفاهم بينها والأمم الأخرى الغريبة عنها. وبناءً على هذه النظرية كان واجب الأمم الناطقة بالضاد أن لا تقصر في التفاهم مع الأمم الأخرى.

«الألفاظ الإفرنجية بحروف عربية» بحث يتناول نوعاً أو فرعاً من الترجمة الكاملة التي لا يتم تفاهم عقليات الأمم إلا بها. وصاحب هذا البحث السيد توفيق قربان يرى أنّ عدم إمكان كتابة الألفاظ الإفرنجية بحروف عربية كتابة تجعل التلفظ بها كما هي في الأصل ممكناً، نقص كبير يجب تداركه حالاً وسريعاً منعاً «للفوضى» في النقل عن الإفرنجية. وهو يقترح إدخال علامات على العربية تستعمل لضبط الألفاظ الإفرنجية ويُوضع لها نظام يلحق بالكراريس المدرسية التي يتعلمها الأحداث، فيخرجون قادرين على التلفظ بأية لفظة إفرنجية كانت. وإذ ذاك لا نعود نسمع «عبارات مثل الآتية: جنابك تقدر... في البرتغالية O Senhor pode فيقول العربي الصميم O Senhor bode أي البعيد «جنابك تيس»».

إنّ منع الفوضى في النقل إلى العربية أمر جوهري، ولكن رأينا فيه يختلف كثيراً عن رأي الصديق توفيق. فنحن نرى أنّ ما يترتب علينا عمله هو إيجاد قاعدة للترجمة يتقيد بها المترجمون فقط، لا إيجاد قاعدة تُدخل على اللغة العربية تحويراً هي في غنى عنه. ففي البلدان التي يتكلم أهلها العربية لا يوجد pode ولا bode بل يوجد إمكانية ومقدرة، ولا يحتاج لتعلم pode bode إلا من يريد أن يهاجر إلى البرازيل أو البرتغال، أو من يريد الاطلاع على اللغة البرتغالية وآدابها. وهذان فقط يترتب عليهما أن يتعلما قواعد اللفظ البرتغالي. وعلى مثل هذين يترتب تعلم قواعد التلفظ بأية لغة يريدان أن يعرفاها أو أن يعيشا بين بنيها. أما أبناء العربية فلا يحتاجون إلى تحوير لغتهم لكي يتمكنوا من التلفظ بألفاظ أجنبية لا يدعو عددها إلى اتخاذ مثل هذه الخطة، فضلاً عن أنه يمكن الاستغناء عن التلفظ بها بالكلية.

كما استغنت العربية عن التحوير والإصلاح لكي يصبح التلفظ بأسماء أفلاطون وأرسطوطاليس وشيشرون كما هي في الأصل ممكناً لكل ناطق بالضاد، كذلك تستغني العربية عن مثل اقتراح صديقنا السيد توفيق قربان لكي يصبح التلفظ باسم الأستاذ «داي» الذي هو في الأصل Day ممكناً كذلك.

يقول السيد توفيق قربان إنه يجب إدخال حرفي P, V «و«علامات إمالة» على اللغة العربية لكي يتمكن كل ناطق بالضاد أن يمثل أحرف الــ o الجرماني والــ o الجرماني والــ uç الفرنسي والــ o الإنكليزي والــ a الإنكليزي والــ e اللاتيني والــ g اللاتيني والجرماني كما هي في الأصل. قلت غفر الله للصديق توفيق هذا الخطأ، فما أغنانا عن كل هذا العناء الكبير.

لو أردنا العمل بموجب اقتراح الصديق توفيق لوجب علينا أن نأتي بأساتذة جرمانيين ولاتينيين لتعليم الأحداث إخراج أصوات الأحرف المذكورة متى رأوا علامات الإمالة الموضوعة لها، أو لوجب علينا على الأقل أن نرسل ألوف الأشخاص لتلقن ذلك والعودة إلى تلقينه في مدارسنا، وبعد أن يتعلمه الصغار يرون أنّ استعماله ليس ضرورياً لهم على الإطلاق.

إنّ الفوضى التي يخشى صديقنا السيد توفيق من دوامها يمكن إبطالها بتنبيه المترجمين إلى أنهم يجب أن يكونوا على معرفة من اللغات التي يترجمون عنها، وأن يكون لهم اصطلاح لنقل الأسماء الإفرنجية على صورة متفق عليها منعاً للاختلاف والتشويش. ولا بأس أن نورد للقرّاء فقرة بهذا الصدد من مقال الصديق توفيق قربان، لو كان المقال كله على نمطها لكان وفىّ بالمراد بدون أن نحتاج إلى ما يشبه العمليات الجراحية الغريبة. والفقرة كما يأتي:
«هذا بشأن الأصوات والأحرف غير الموجودة رسمياً في العربية. ولكن في الإفرنجية أحرفاً يحصل الخطأ في نقلها مع أنّ في العربية ما يقابلها، والسبب جهل الناقل بعض أحرف اللغة المنقول عنها. فالذين يعرفون الإفرنسية ينقلون كل ch بصورة ش مع أن ch الإنكليزية والإسبانية تش والجرمانية خ والإيطالية ك. والذين لا يعرفون الإيطالية ينقلون بصورة gi جي حال كونها دجي، وهكذا الــ ci الإيطالية فإنهم ينقلونها سي مع أنها تشي فيقولون دي مدسيس والصحيح دي مديتشي. ومثلهم الذين ينقلون الــ j الجرمانية جيماً مع أنها ياء والــ j الإسبانية جيماً مع أنها خاء. الــ h البورتغالية هاء مع أنها ياء. وعلى ذكر هذه الهاء أذكر أنني سمعت من مصدر رسمي أنّ نائب البرازيل وعصابة الأمم، غستون دا كنيا أصيب بالفالج لأن اسمه ظهر في المجلات العربية هكذا غاستاو دا كنها».

مثل هذه الفقرة يجب أن يكتب لكي يفهم المترجمون في أي ضلال يخبطون وفي أي أودية يهيمون. بيد أننا نجد في هذه الفقرة أيضاً ما يؤيد كلامنا بشأن العناء الكبير في تنفيذ اقتراح الصديق توفيق. فالسيد توفيق يعرف تماماً أنّ حرف خ العربي لا يقوم مقام حرفي ch الجرمانيين وأنه لا يمكننا التلفظ بهذين الحرفين الجرمانيين تماماً إلا إذا سمعناهما من شخص جرماني، وقس على هذا صعوبات بعض الأحرف التي لا تقارن هذه الصعوبة بصعوبته.

ليس من الواجب على كل ناطق بالعربية أن يعرف كيفية لفظ الأسماء الإفرنجية حسب الأصل، كما أنه ليس من الواجب على الفرنج أن يعرفوا كيفية لفظ الأسماء العربية حسب أصلها. ولعمري ما هي الفائدة التي تعود على المتكلم بالعربية من معرفة إسم John أو Day أو غيرهما من الأسماء التي يعرض ألوف مثلها في الروايات، وهي لا تكون على الحقيقة ذات جدوى وليس في تحويرها ما يجلب الخوف أو القلق. أما الأسماء والألفاظ التي يخشى عليها من الضياع فهي قليلة جداً، ومتى كان هنالك اصطلاح متفق عليه للترجمة حصل التأمين المطلوب عليها. ونظن أنّ أسماء شيشرون وأرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط أمينة من الضياع كما هي في تركيبها العربي بقدر ما هي أمينة في تركيبها الفرنجي. وكما اصطلحنا على هذه الأسماء واصطلح الفرنج على أسماء «الوادي الكفير» للوادي الكبير و«الهمبرا» للحمراء و«ترافلغار» للطرف الأغر، كذلك يمكننا أن نصطلح على غيرها من الأسماء والألفاظ التي لا نظن أنّ أهميتها لدارس العلوم على أنواعها تزيد على أهمية الألفاظ المذكورة.

يُظهر السيد توفيق غضبه الشديد على الكتّاب المصريين لأنهم يكتبون إنكلترة هكذا «إنجلتر» وغلادستون «جلادستون»، وعدّ هذا استئثاراً منهم قائلاً:
«أفلا يحسبون أنّ لهم إخواناً في اللغة خارج القطر المصري، وأنّ لجرائدهم ومجلاتهم الراقية قرّاءً في سورية والعراق وتونس والجزائر؟ لذلك لا يجوز أن تستعمل لهجة موضعية لحرف عام يقرأه كل أبناء العربية».

أما نحن فنرى عكس ما يراه الصديق توفيق بهذا الصدد، فكل بلاد لها اصطلاح خاص بها في استعمال بعض الأحرف أو الألفاظ كاصطلاح المصريين على التلفظ بحرف الجيم العربي كيماً أو بما يقابل الحرف الإفرنجي g في good لا يجوز لها أن تستعمل في جرائدها ومجلاتها غير ذلك الاصطلاح. فالمصريون لا يجب أن يكتبوا «إنكلترة» أو «غلادستون» على هذه الطريقة السورية ما زال الحرف المصري ج يأتي بالمراد تماماً. فهذا الحرف العربي الأصل قد فقد صفته العربية الأصلية تماماً في مصر وأصبح «حرفاً مصرياً»، وكل من يراه في الكتب المصرية يجب أن يعلم أنه فيها غيره في غيرها من الكتب. ولو قال السيد توفيق أنه يقترح إبطال هذا الاصطلاح المصري لكان ذلك أوقع من قوله المذكور آنفاً إذا كان يريد أن تبقى العربية على هيئة واحدة وأسلوب واحد في جميع الأقطار المتكلمة بها. وهذه قضية أخرى يقتضي البحث فيها وجهاً آخر غير وجه «الألفاظ الإفرنجية بحروف عربية». وإذا كان السيد توفيق يريد الاهتمام بهذه القضية، فإننا نقترح عليه أن يكتب مقالة بعنوان «الاصطلاحات المختلفة في اللغة العربية»، أو بعنوان آخر يكون بهذا المعنى.

نكرر القول هنا إنّ ما يجب عمله ليس إدخال اصطلاحات جديدة على العربية يكون من ورائها تشويش ذهن المتعلم على غير طائل أو لفائدة قليلة جداً لا تستحق هذا العناء الكبير والجهد العظيم، بل إننا نرتأي إيجاد اصطلاح للترجمة يعتمده المترجمون منعاً لكتابة اللفظة الإفرنجية الواحدة في بلاد واحدة على صور مختلفة كأن تكتب لفظة John الإنكليزية في سورية تارة جون وطوراً تجون وآخر دجون أو غير ذلك مما يعنّ لبعض الكتّاب استعماله. فمثل هذا الإسم يمكن الاصطلاح على كتابته حنا أو يوحنا مترجماً إذا كان روائياً، بل يمكن الاصطلاح على كتابته على هذه الصورة إذا كان تاريخياً أيضاً. فالعامة لا تهمها معرفة اللفظة الأصلية بل تهمها معرفة ماذا فعل صاحب هذا الإسم، أما اللفظة الأصلية فتبقى من شأن المؤرخين والبحاثين فقط.

نظن أنّ ما أوردناه في هذه العجالة يكفي لتنبيه المهتمين بهذا الموضوع وأمثاله إلى الخطأ الذي يرتكبونه بحسبانهم أنّ مثل اقتراح الصديق توفيق قربان أمر سهل وواجب، فمثل هذا الاقتراح أمر صعب جداً، فضلاً عن أنه غير واجب. ونظن أنّ الفريق المتسرع الذي يبدأ في تنفيذ اقتراح السيد توفيق المشار إليه يعدل عنه بعد فترة قليلة يختبر فيها صعوبته العملية.


أنطون سعاده

 

 

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.