المجلة،
سان باولو،
السنة 11، الجزء 5،
1/6/1925
نعتقد اعتقاداً راسخاً أنّ أعظم أدلة خراب أمة ما أن تجهل تلك الأمة أنها على شفا الخراب، أو أن ترى الخراب آتياً إليها وتظن أنه العمران. وإنّ من أعظم العوامل التي تجعل الأمم تجهل مواقفها كما هي تماماً انقيادها إلى من ليسوا أهلاً لقيادتها، واسترشادها بمن هم ليسوا أهلاً لإرشادها. ولما كنا نقر ونعترف بأن حالة وطننا لا يمكن أن توجد حالة أسوأ منها، فما هذه الحالة إلا نتيجة جهل الأمة السورية أنها على شفا الخراب بسبب بتر أعضائها عُضواً عضواً وانقيادها إلى فريق لا يصلح لقيادتها، واسترشادها بفريق لا يكاد يعرف يساره من يمناه.
لقد مضى زمن التكلم بالألغاز والمعميات ومعالجة المواضيع الوطنية الحيوية بالتلميح، وجاء دور قول الحق الصراح، وإننا نقوله كما هو لعل الذين لا يريدون أن تكون أذنابهم رؤوساً لهم يخرجون من دائرة التململ والتذمر إلى حيز العمل المتكاتف، ويكفوا الوطن شر ما هو فيه وينقذوا الأمة من حال الخراب التي هي فيها.
إنّ مسألة إنقاذ وطننا من استعمار الأغراب المعتدين عليه مسألة تجعلنا أن لا نقتصر في تفكيرنا على ما هو حقنا، بالنظر إلى ما يدعيه الأجانب. بل هي مسألة تحملنا أيضاً على التفكير في موقفنا كأمة تريد لنفسها الحرية السياسية والاقتصادية، كأمة تريد أن تنال مكانها تحت الشمس. وللذهاب مع تيار الفكر نسأل هذا السؤال: هل نحن أمة متضامنة ترمي إلى غرض واحد، وهل موقفنا موقف يخوّلنا بلوغ الغرض الذي نرمي إليه؟
هذا السؤال له علاقة كبيرة بقوانين الجنسية التي صدرت أو ستصدر في الشام ولبنان وفلسطين. وللكتاب الذي بعثه مندوب المفوض السامي إلى رئيس الدولة السورية علاقة كبيرة به وهو كما يأتي:
«يا ذا الفخامة
«أمرني فخامة المفوض السامي بكتابه المؤرخ 9 أيار سنة 1925 أن ألفت نظر فخامتكم إلى القرار رقم 2825 المكرر المتعلق بالجنسية السورية تاريخ 30 آب 1924 أنّ وجود الجنسية السورية يبتدىء قانوناً منذ 30 آب سنة 1924 السالف الذكر. ويجدر في هذه الحالة أن يميز منذ هذا التاريخ بين تبعة الدولة العثمانية المقيمين في سورية الذين يصبحون سوريين مع الاحتفاظ بأحكام المادة الثانية من ذلك القرار، وبين تبعة تلك الدولة المقيمين مؤقتاً في سورية وأصلهم من إحدى البلاد التي انسلخت عنها، فهؤلاء يعتبرون أجانب. أما السوريون المقيمون في لبنان فيحق لهم حفظ جنسيتهم السورية دون أن يضطروا إلى نقل سكناهم إلى خارج دولة لبنان الكبير. وما هذا التدبير إلا متقابل بين لبنان وسورية، إذ على دولة سورية أن تقبل اللبنانيين عندها بنفس الشروط. وعليه فيسمح بدوام هذا التدبير للسوريين واللبنانيين بدوام إقامة كل منهم في أراضي إحدى الدولتين.
«أما الأرمن المهاجرون من تركية إلى الأراضي السورية فلا يستثنون من شيء، إذ هم عثمانيون أقاموا في سورية بتاريخ 20 آب 1924 فيعتبرون سوريين إن لم يختاروا جنسية إحدى الدول التي انسلخت عن تركية، ولم ينقلوا مسكنهم إليها خلال إثني عشر شهراً على اختيارهم الجنسية التي يريدونها.
«تُعيّن بقرار يصدر فيما بعد شروط الدخول والخروج من الجنسية السورية داخل الدول الواقعة تحت الانتداب الفرنسوي. وعلاوة على ذلك فإن الملتجئين إلى لبنان الكبير قد أعطيت لهم بطاقة تثبتهم في الجنسية اللبنانية، إذ إنه لم يجر شيء من هذا القبيل في سورية. أكون ممتناً لفخامتكم إن تفضلتم باتخاذ التدابير الكاملة لتنظيم هذه الحالة نهائياً».
هذا الكتاب وقوانين الجنسيات في سورية تقضي على القومية السورية قضاءً مبرماً. وفي سورية رجال كثيرون وضعوا أنفسهم في مركز الزعامة بدون أهلية، لا يفهمون أنّ القضاء على القومية السورية، يعني القضاء على حرية سورية واستقلالها أو الحؤول دون نيل حريتها واستقلالها، لأن تنازع الأمم هو تنازع القوميات، وبقاء القوميات هو بقاء الأمم.
هذه الحقيقة التي يبتهج لها الفرنسيس في سورية لأنهم يدرون أنها سلاحهم الوحيد، ويبتهج لها قسم كبير من الشعب السوري لأنه لا يدري أنها طريقه إلى الموت، هي ما يجب أن يكون أول قضية تبتدىء الأمة السورية بحلها.
في الجزء الأول من سنة المجلة الماضية عقدنا مقالة عنوانها «القضية الوطنية» بيّنا فيها بوضوح وجلاء أنه لا يوجد فروق تميز بين اللبناني والسوري أو بين السوري والفلسطيني. وأظهرنا فيها أنّ أقسام سورية الثلاثة هي أجزاء جسم كامل، وأقسام أرض يعيش فيها شعب واحد تميزه عن غيره أحواله وعوائده ومدنيته وتاريخه، وتوحده هذه الأمور عينها. وليس القصد أن نعود إلى سرد ذلك الآن، بل القصد من هذه المقالة أن نبيّن خرق الرأي القائل بالاستقلال على طريقة القطع والبتر. فنحن نقول إنّ الاستقلال التام على هذه الطريقة غير ممكن في مدة أجيال طويلة، فضلاً عن أنه استقلال إذا تم كان أسوأ استقلال وأقل أنواع الاستقلال شأناً في التاريخ. ولا يليق بأمة ينتظر منها، متى تمكنت من نيل استقلالها التام بدون تجزئة أو بتر، أن تلعب على مسرح السياسة والعمران دوراً هاماً.
يوجد في العالم مجانين كثيرون يقولون بأمور غريبة لا يدركها إلا المجانين مثلهم. ولكننا لا نعتقد بوجود عاقل واحد يقول إنّ تقطيع سورية على هذه الصورة التي وضعتها لها الدولة الفرنسية تنفيذاً لمآربها هو غاية ما يمكن الأمة السورية أن ترمي إليه، أو أنه أفضل لها من بقائها جسماً واحداً كامل التركيب، ويطلب من العقلاء الآخرين تصديق ذلك.
قلنا إننا لا نريد في هذا البحث العود إلى الإدلاء بالحجج على أنّ الجنسية السورية واحدة في دمشق وحلب والعلويين وجبل الدروز ولبنان وفلسطين وسائر أقسام سورية الأخرى، بل إنّ ما نريده هنا هو تأكيد الضرر الكبير الذي يعود من تقسيم الأمة السورية إلى دويلات متعددة لها جنسيات متعددة.
المعروف حتى الآن فيما يختص باستقلال الأمم أنّ الاستقلال يقوم على قوتين تنظمان في عِلمين. أما القوتان فهما قوة الرجال وقوة المال، وأما العِلمان فهما علم السياسة وعلم الحرب. وكل بحث في الاستقلال لا يكون مرجعه هذين العِلمين لا يمكن التوصل فيه إلى نتيجة مرضية. لذلك يجب علينا أن نبحث في استقلال سورية بالاستناد إلى هذين العِلمين الأساسيين.
سورية كما عرفناها أثناء درسنا التاريخ والجغرافيا، هي البلاد الواقعة بين ترعة السويس وجبال طورس وبين بلاد العرب والبحر المتوسط، وعدد سكانها نحو أربعة ملايين نفس يمكن أن تصير إذا ارتقت البلاد نحو عشرة ملايين نفس. وهي من هذا الوجه يمكنها أن تلعب على مسرح التاريخ دوراً مجيداً يؤهلها له مركزها التاريخي الهام وشعبها الذكي النشيط. أما سورية التي نعرفها على عهد الاحتلالين الإنكليزي والفرنسي فهي مقاطعة صغيرة في شمال سورية لا يصح أن تسمى دولة بالمعنى العصري، وهي سواء كانت مستقلة أو غير مستقلة فلا رجالها ولا مالها ولا مركزها يمكّنها من أن تكون أمة محترمة ودولة مهابة، أو من أن تأتي شيئاً يستحق التسجيل في تلك المحكمة العليا التي تسمى التاريخ. وما يقال في سورية من هذا القبيل يقال في لبنان وحلب والعلويين جبل الدروز وفلسطين وسائر الدول الأخرى. والبرهان المقنع على ذلك موجود في حالة الشلل المصابة بها البلاد من هذا التقسيم.
أما البرهان على حالة الشلل فظاهر في جميع القضايا الوطنية التي يطلب حلُّها من الشعب. ففلسطين المنفردة في مقاومة الحركة الصهيونية والانتداب البريطاني تجاهد كثيراً، دون أن يأتي جهادها بالغاية المطلوبة، لأن اليهود لا يزالون يتوافدون عليها، ويشترون أرضها، ويزاحمون أهلها على الحكم مزاحمة المتفوق. وهذه حالة كان يمكن أن تتغير كثيراً لو كانت سورية كلها قائمة بمقاومة الحركة الصهيونية. ولبنان المستقل بضرائبه ومصائبه يجاهد كثيراً أو قليلاً في مقاومة تغلب المصالح الفرنسية خصوصاً والأجنبية عموماً على المصالح الوطنية بدون جدوى، ويرغب في استقلال سياسي واقتصادي ولا يناله، ويطلب أن يحكم نفسه بنفسه ولا يجاب إلى طلبه، وقس على حال فلسطين ولبنان حال دمشق وحلب والعلويين والدروز وسائر المقاطعات الأخرى. وهذه الحال تعود، كما بيّنا سابقاً، إلى حالة الانقسام الموجودة فيها البلاد السورية. فإن الأقسام التي تؤلف ما يسمونه «الدول السورية» أقسام أصبحت لا حول لها ولا طول ولا قوة يمكنها أن تستند إليها في تأييد مطاليبها. لذلك سمينا استقلالها استقلالاً سخرياً، لأنه استقلال إذا كان حقيقة فهو استقلال وجوده وعدمه سيان للسبب الذي بيّناه في الفقرة السابقة.
بقي أن نذكر أنّ ضربة سورية الكبرى هي في الزعماء الذين ليس لهم من أهلية الزعامة شيء. هم رجال يجب علينا أن نقول الحقيقة فيهم، وهي أنهم خالون من الإدراك السياسي والحربي والاقتصادي بالمرة. فأبحاثهم لا تدور إلا على أجورهم ومقتنياتهم وحالة معيشتهم، وإذا اتفق أن تطرّقوا إلى البحث في مسألة وطنية جوهرية بحثوا فيها كالأولاد الصغار مبدين آراء تُضحك سخافتها الثكلى. وما يجب علينا أن نصرّح به هنا أيضاً هو أننا لم نسمع حتى الآن أنّ واحداً من الجالسين على كراسي النيابة في المقاطعات التي أتينا على ذكرها ألقى اقتراحاً يمكن أن يُعدّ اقتراحاً سيآسية من الدرجة الأولى أو الثانية، ويكون له تأثير ما على حالة البلاد السياسية والاقتصادية. ومثل الكتاب المعيب الذي أثبتناه فيما تقدم برهان واضح على العقم السياسي المصاب به أولئك الذين يعدون أنفسهم زعماء الأمة.
أما منطق الكتاب، فهو منطق يدل على مبلغ العقم الفرنسي الباهر بأجلى وضوح، لأن المنطق الذي يعتبر الأرمن سوريين لمجرد أنهم كانوا «رعايا عثمانيين» منطق لا يعرفه غير ذلك العقم الباهر المختص بسياسيــي فرنسة. وقد كان المنتظر أن يجعل هذا المنطق بعض أولئك المتزعمين يتكلمون شيئاً في ذلك، ولكن ظهر الآن أن ذلك عبث.
لم يَقُم بين الجالسين على كراسي النيابة في «الدول» السورية رجل واحد له من الإدراك السياسي والحربي، ما يحمله على القيام بحملة سياسية على تقطيع سورية وخص مقاطعاتها بجنسيات متعددة، حتى أنه لم يقم بينهم واحد له من الذكاء الفطري، ما يجعله يحتج على حسبان الأرمن الذين يفدون سورية هرباً من جور الأتراك سوريين يحق لهم التمتع بسائر حقوق الجنسية السورية، لا لشيء سوى لأنهم كانوا قديماً رعايا عثمانين مثل السوريين!
أو بعد هذا يوجد من يصدق أولئك الخونة الذين يملأن العالم ضجيجاً بالقول بأن سورية سائرة إلى الأمام في طريق الاستقلال بفضل الأعمال التي يقومون بها؟
إنّ الخطوة في طريق الاستقلال الحقيقي، هي في إلغاء كل قوانين الجنسيات التي تجعل من السوريين أنفسهم أعداء لسورية. بيد أنّ اتخاذ هذه الخطوة يقتضي القيام بخركة عامة في طول سورية وعرضها، وهو ما ندعو إليه. يجب على الأمة السورية أن تحافظ هي نفسها على حقوقها وسلامتها، وبدون ذلك تكون الآخرة عكس ما يصوره لها الزعماء الكذابون الذين لا إدراك لهم ولا ضمير.
أنطون سعاده