القلم الحديدي،
سان باولو،
العدد 315،
12/9/1926
(حضرة الرصيف الفاضل صاحب «القلم الحديدي» المحترم.
تحية وإكرام، أما بعد فإني أرجوكم أن تتكرموا بنشر المقالة المرسلة إليكم مع هذه البطاقة حباً بالأدب العربي الذي نخدمه وسلفاً أشكركم.
سان باولو في 30 أغسطس/آب 1926).
مضت على ظهور رباعيات فرحات إلى عالم الوجود الأدبي مدة لم يظهر فيها شيء من النقد الصحيح الوافي الذي يتمكن معه من وضع الرباعيات المشار إليها في المركز الذي هي أهل له، خصوصاً بعد أن فشلت المقدمة التي وضعها لها السيد توفيق ضعون في ذلك فشلاً تاماً. ولمّا كان صاحب المقدمة وغيره قد جعلوا للرباعيات، التي نحن بصددها، علاقة بشعر أبي العلاء المعرّي وعمر الخيام الشهيرين ووضعوها في مرتبتهما أو أعلى، فقد كنا عقدنا النية على التبصر والوقوف موقف المراقب المستفيد لعل أحد كبار ثقات مدرسة آداب اللغة العربية أو أحد تلامذتها، الذين لهم علينا التقدم، يهتم بقول كلمة في رباعيات فرحات تكون فصل الخطاب في ما هو لها وما هو عليها وفي أي محل يجب إحلالها. بيد أنّ الانتظار قد طال والوقت كاد يفوت دون أن نسمع أو نطالع شيئاً يمكن اعتباره القول الفصل أو البحث الوافي على الأقل. ولا بدّ في هذا المقام من الإشارة إلى أنّ جريدة «مرآة الغرب» النيويوركية نشرت مؤخراً كلمة بهذا الصدد قريبة من مواضع النظر ومصيبة في بعض النقط الهامة ولكن الجريدة المذكورة قد جعلت كلمتها تعليقاً لا بحثاً.
يوم أهدانا الصديق فرحات رباعياته ذكرنا له بعد الاطلاع عليها بعض ملاحظات خطرت لنا حينئذٍ، وقد جمعتنا الظروف في المدة الأخيرة ببعض محبي الاطلاع من الأصدقاء الذين أتوا في عرض الحديث على رباعيات فرحات وشجعونا على أبداء رأينا فيها، ولما كنا قد آنسنا من نفسنا رغبة في ذلك، أقدمنا على وضع هذه التأملات والخواطر في رباعيات فرحات محاولين أن نجعل منها بحثاً يمكن معه الوصول إلى الغرض المطلوب، مضمنين إياها بعض نظريات لا بدّ من الانتباه إليها في مثل هذه المواقف لكي يؤمن معها إلقاء حبل الكلام على غاربه، فلا تشذ عن مواضع النظر ولا تذهب مذاهب غير مشروعة كما يجيء عادة في كلام الكويتبيين الذين تراهم يلقون الكلام على عواهنه عامدين إلى تجميل ألفاظهم بدلاً من تقوية حججهم، ظانين أنّ النسق الجميل يغني عن الحقيقة المنشودة، أو يعطون أنفسهم حق الحكم في مسائل قصر إدراكهم واطلاعهم عنها، مغترّين بشرف تناول المواضيع العالية الدقيقة، مبررين لأنفسهم الخوض فيها لمجرد معرفتهم أسماءها أو إلمامهم بظرف صغير من منازعها ومواضيعها ومذاهبها، فيضعون أنفسهم موضع الخبيرين والثقات، عابثين بالأمانة لأنفسهم ولجمهور القرّاء، وهو من أسوأ معائب صناعة الأدب على ما نعلم.
وأول ما نريد أن نثبته بهذا الصدد هو أنّ الشعر العربي في العصر الحاضر شعر ترنم لا شعر فلسفة إلا فيما ندر، وقلّ أن ترى فيه شعراً فنياً. ذلك لأن معظم شعرائنا يعمدون إلى قرض الشعر عند أول مؤانستهم من أنفسهم ميلاً إلى الترنم بقصائد الشعراء السالفين، لا عندما تمسهم الحياة بلذاتها وآلامها وحلاوتها ومرارتها، والفرق بينهم وبين الشعراء الفلاسفة والفنيين أنّ شعور هؤلاء بحالات الدنيا العرضية وظواهرها المتنوعة يحملهم على الشعور بأمور مستترة يجب البحث عنها والعكف على تعليلها وتحليلها كل حسب تأثره وميله من حيث الفلسفة أو الفن، وأنّ أولئك تغلب عليهم نغمة الترنم فهم لا يحمِّلون أنفسهم جهد البحث والتفكير إلا نادراً جداً. وإذا وجد بين شعرائنا الحاليين من أجاد بعض الشعر الفني فليس بينهم من وضع شعراً فلسفياً بالمعنى العصري والشاعر الوحيد بين شعرائنا الماضين والحاضرين الذي خصّ شعره فضلاً عن نثره بالفلسفة هو أبو العلاء المعرّي، فخر شعراء اللغة العربية وفلاسفتها.
فرحات أحد شعراء هذا العصر المتميزين بقوة ذكائه الفطري. وأجمل شعره وأكثره تعبيراً عما يجول في نفسه من الخواطر التي يحق له تسميتها بنات أفكاره هو قصائده التي نشرها في الجرائد المجلات والتي ألقاها من على المنابر في المآدب والحفلات، وهي ولا شك أجدر كثيراً بعنايته عن رباعياته التي نحن بصددها. نقول ذلك بما يخولنا إياه اطلاعنا ومعرفتنا، ففرحات في قصائده مفكر بنفسه، وفي رباعياته مقلد لأفكار غيره على غير تناسب.
أولع فرحات في المدة الأخيرة بمطالعة دواوين أشهر الشعراء وأهمهم كسقط الزند ولزوم ما لا يلزم لأبي العلاء المعرّي وديوان أبي الطيب المتنبي المشروح بقلم الإمام الشيخ إبراهيم اليازجي وديوان أبي تمام وغيرها من الشعر الراقي. والظاهر أنه علق بلزوميات أبي العلاء أكثر من سواها فهو قد عكف عليها وأعجب بها إعجاباً أثّر عليه تأثيراً يتضح في رباعياته بكل جلاء.
ومهما يكن من شيء فإن دارس آداب اللغة العربية المدقق يرى أنّ تأثر فرحات بلزوميات أبي العلاء ليس إلا تأثراً ظاهرياً فقط فهو يدرك، من مطالعتها، شعر أبي العلاء ولا يدرك فلسفته لأنه لسوء الحظ بعيد عن مجاري هذه الفلسفة بعداً مهماً اجتهدنا في تقريبه ظل كبيراً.
ولهذا السبب عينه تراه في رباعياته يحاول وضع أقوال فلسفية إذا كان لبعضها علاقة ببعض القضايا الفلسفية الجزئية فليس ما يدخل قلب الموضوع الفلسفي. ولا يمكن دارس الفلسفة أن يعتبر أقول فرحات «مذاهب» فلسفية بما يفيده هذا المعنى. لذلك لا يمكن إيجاد أقل مشابهة بين رباعيات فرحات ولزوميات أبي العلاء بل لا يمكن أن يكون لفرحات علاقة بأبي العلاء إلا العلاقة التقليدية أو علاقة المشابهة الظاهرية فقط.
وليس أسهل من معرفة الفرق بين شعر فرحات الأصلي وتقليده من المقابلة بين أبياته الفلسفية التقليدية التي لا يمكن أن تحمل على محمل الفلسفة وطلاقة شعره في جمال التعبير وقوة وصف الانفعالات النفسية التي تراها في رباعياته حين يصف حزنه على طفلته المفقودة مثلاً. ومن هنا يمكن الاستدلال أنّ فرحات شاعر بشعوره الذي يستمد منه قوة خاصة للتعبير عن المشاهد ووصف المؤثرات النفسية كالحب والجمال والحنان والحزن والفرح وما شاكل، أما الفلسفة وكل ما يتعلق بها من مواضيع التاريخ والاجتماعيات والعمران وسائر فروعها العلمية كعلم النفس وعلم درس طبائع البشر وعلم البحث عن السلائل البشرية وعلم العاديات، مما يقتضي التجرد عن الانفعالات اليومية لكي يصبح في الإمكان استخراج أحكام أو آراء فلسفية بكل ما يفيده هذا اللفظ من المعنى، فليس من منازع أفكار فرحات. لذلك لا يمكنك أبداً متى قرأت رباعيات فرحات أن تتذكر أبا العلاء على الطريقة التي وصفها السيد توفيق ضعون دون أن يدرك ما معنى تذكر شعر أبي العلاء المعرّي، فالسيد ضعون وقع هنا في نفس الغلط الذي يقع فيه بسطاء الدارسين الذين يحاولون أن يعلوا كثيراً عن دائرة إدراكهم.
وإذا كان فرحات يريد فعلاً مجارة أبي العلاء بمفهوم كلامه كما جاراه بحرفه حين بنى القول الآتي:
فما لك تدّعي علماً وفهماً وتقلق راحتي شتماً وشكرا
فَتَمْدَحني وما أسديت عرفاً وتشتمني وما أبديت نكرا
وفيه قول صريح بعدم الرضى عن المديح الذي يجيء في غير محله وهو من أقوال أبي العلاء الشهيرة التي منها:
إذا أثنى عليَّ المرء يوماً بخير ليس فيَّ فذاك هاجِ
وحقّي إن أساء بما افتراه فلوم من غريزتيَ ابتهاجي
ومنها:
وإن مدحت بخير ليس من شيمي حسبتني بقبيح الذمّ فُرِّيتُ
فهو يكون قد سبقنا إلى انتقاد مقدمة ضعون المبنية على مديح فارغ لا يليق بشاعريته ومركزه.
وإننا قبل أن نبدأ بانتقاد مقدمة السيد ضعون نذهب هنا إلى تأييد كلامنا المتقدم في تقليد فرحات أفكار غيره على غير ناسب. ونحن إنما أردنا بهذا الوضع أنّ فرحات مقلد لأفكار أبي العلاء المعرّي الفلسفية دون أن يكون له من العلوم ما يجعل لشعره تناسباً مع شعر أبي العلاء الذي تناول الفلسفة من وجهتها العلمية الراقية لا من وجهة النظريات البسيطة الصادر عن الذكاء الفطري كما هو الغالب في شعر فرحات. أما من الوجهة الشعرية البحتة ففرحات قد أجاد في تقليد أبي العلاء في بعض المواقف، كما أنه أجاد النسج على منوال المتنبي في الهجو. لا بل إنّ فرحات قد نقل كثيراً من أشعار أبي العلاء المعرّي نقلاً مع تحوير في السبك، وأخذ عنه كثيراً من المعاني دون أن ينسبها إليه، ولا ندري لماذا خصه بهذا الإجحاف مع أنه تكرم بذكر كآسيةنو ريكاردو حين أخذ عنه معنى واحداً فقط وفيما يلي نذكر بعض ما رأينا الملاحظة عليه واجبة لتأييد كلامنا:
في الصفحة التاسعة من رباعيات فرحات ترى هذا القول:
ودّعت ديني وجنسي مذ رأيت بني الد نيا فريسة أديان وأجناس
ورحت أذكر شر الناس معتبراً وليس ذاكر شر الناس كالناسي
قربي من الناس فيه وحشتي وعلى هذا القياس أرى في البعد إيناسي
وهذا المعنى كثير في لزوميات أبي العلاء حتى أنه هنا يكاد يكون منقولاً حرفياً كما ترى من قول أبي العلاء :
وزهّدني في الخلق معرفتي بهم وعلمي بأن العالمين هباء
وقوله في موضع آخر :
بعدي من الناس برء من سقامهم وقربهم للحجى والدّين أدواء
وفي الصفحة الحادية عشرة من الرباعيات المذكورة القول الآتي:
قالوا الحفيد بشكل الجد قلت لهم الشكل يجمع بين الهر والنمر
وهو مأخوذ من بعض أقوال أبي العلاء في قوله :
تشاكلوا في سجيات مذمَّمة وأشبهت لبوات الغابة الهرر
وكذلك قول فرحات في الصفحة السادسة عشرة من رباعياته:
لم أدر كالموت ربّاً صادقاً نفذت أحكام سلطانه في كل سلطان
يمكن رده إلى أقوال كثيرة لأبي العلاء كما يمكن رد قوله في الصفحة التالية:
نشكو على الدهر شكوى لا أساس لها فالدهر لم يرتكب إثماً ولم يجُرِ
إلى قول أبي العلاء :
فما أذنب الدهر الذي أنت لائم ولكن بنو حواء جاروا وأذنبوا
وقوله في وضع آخر:
نقمت على الدنيا ولا ذنب أسلفت إليك فأنت الظالم المتكذّب
ومن الأقوال أو المعاني التي تدل على عدم تفهم ما ينقل ما جاء لفرحات في الصفحة العشرين من رباعياته نقلاً عن قول أبي العلاء :
إذا أغضب الخيل الشكيم فما لها عليه اقتدار غير أزم الحدائد
بعد المطلع الذي سبق هذا البيت وهو:
حوائج نفسي كالغواني قصائر وحاجات غيري كالنساء الردائد
وقول فرحات المشار إليه هو:
كن كالحسام وقل ما أنت معتقد للمستبدّ ولا ترهب إذا احتدما
إنّ الجياد تلوك اللجم مزبدةً غيظاً ولكنه لا تبلع اللجما
وملاحظتنا على هذا القول أنّ فيه تناقضاً قد يكون الباعث عليه اندهاش فرحات من جمال هذا المعنى، والتناقض هو في أنّ المستبد ليس الجواد الذي يأم الحديد على غير طائل بل المستبد به هو الجواد الملجم الذي يبقى هذا المعنى ملازماً إلى أن يتغير مركزه. فأبو العلاء يقول إنّ تذمره من عدم تمكنه من قضاء حوائجه لأسباب تأتي بها المقادير التي لا قوة للمرء على دفعها لا يكون إلا كالخيل تأزم الحديد ولا تنال منه مراماً، وفرحات يقول إنّ المستبد الذي بيده الأمر والنهي وهو ما يعبر عنه باللجام أو الشكيمة توضع في فم أو أنف المستبد به يلوك اللجام أو يأزم الحديد فلا يبلغ منه مراماً، وهو غير الحقيقة، والمعنى على هذه الكيفية معكوس تماماً، فتأمّل.
وفي الصفحة الثالثة والعشرين من الرباعيات التي نحن بصددها ما فيه تشجيب عادة الذر وهو ما يمكن أن يرد إلى أقوال كثيرة لأبي العلاء. وفي الصفحة التي تليها قول يجعل شر الناس أكثر من شر الذئاب، وهو أيضاً مأخوذ من قول أبي العلاء :
لو حاورتك الضان قال حصيفها الذئب يظلم وابن آدم أظلم
وفي الصفحة التي تلي هذه التي نحن بصددها هذا القول:
نتلو أساطير أسلاف الورى فنرى جهلاً غريباً وخلطاً في الديانات
والجهل والخلط ما زالا كما عرفا منذ الوجود سوى بعض اختلافات
وهذا القول أيضاً يرد إلى أقوال كثيرة لأبي العلاء منها :
دين وكفر وأنباء نقصّ وفر إن ينصّ وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل يدان بها فهل تفرّد يوماً بالهدى جيل؟
ومتى انتقل القارىء إلى الصفحة الحادية الثلاثين من رباعيات فرحات وجد هذا القول:
فالخير في البعض بالتهذيب مكتسب والشر في الكل طبع غير مكتسب
وهو بالأكثر مبني على قول أبي العلاء :
ألم ترَ أنّ الخير يكسبه الحجى طريفاً وأنّ الشر في الطبع متّلد
في رباعيات فرحات غير ما تقدم أقوال كثيرة ليست إلا ترديداً لما أكثر المعرّي من ذكره، ونحن لا نأتي عليها خيفة الإطالة فضلاً عن أننا نعتبر ما تقدم كافياً لتأييد كلامنا المشار إليه آنفاً. أما أقواله التي تخرج عن النقل عن المعرّي، فلا يمكن حملها على محمل الفلسفة، وليس فيها إلا ما يدل على ذكاء صاحبها الفطري في إدراك بعض المسائل الوقتية والعرضية.
ولا بدّ هنا من قول كلمة صغيرة تكون تتمة لتأييد كلامنا المشار إليه، وهي أنّ أقوال أبي العلاء المعرّي التي نقل فرحات كثيراً منها ليست أقوالاً بسيطة في حد ذاتها كما هي في رباعيات فرحات، بل هي محمولة على أن تكون ذات صفة فلسفية ذهب إليها أبو العلاء. وفرحات ليس ذا فلسفة خاصة تكسب شعره هذه الصفة.
نقف في تأملاتنا وخواطرنا في رباعيات فرحات نفسها عند هذا الحد. وإنّ ما ذكرناه حتى الآن يعطينا حجة قوية لرد الهذر الكثير الذي قيل فيها بدون مبرر.
نبدأ هنا بقول كلمتنا في المقدمة التي تقدم لنا القول بالعودة إلى انتقادها، والتي أوجب خلوها من الحكمة والنظر الصائب تعريض الرباعيات التي نحن بصددها إلى انتقاد يكون أمرّ كثيراً مما ذكرناه نحن وتعريض الشاعر نفسه إلى خطر الحط من شاعريته ومركزه، لما فيها من الكلام الملقى على عواهنه، وهي مقدمة السيد توفيق ضعون لرباعيات فرحات.
وأول دلائل خلو المقدمة المذكورة من الحكمة والنظر الصائب قول المقدم في بدء مقدمته:
«هذه هي رباعيات فرحات، وقد حصني هذا الشاعر بشرف تقديم رباعياته إليك لأسباب ثلاثة: أولاً لأنه صديقي، و ثانياً لأنني أعرف الناس به أيام عسره، و ثالثاً لأنني أجهل علم العروض مثله».
فالأسباب الثلاثة المذكورة تافهة لا معنى لا محل لها كما يدرك ذلك العميان فضلاً عن المبصرين، نقول ذلك جرياً على طريقة والدنا الشهيرة في التعبير، وهي مُحِطَّة بكرامة الشاعر ومركزه الأدبي. والسبب الثالث منها يرميه بتهمة الجهل وهذه التهمة باطلة ومردودة يقول الشاعر نفسه في انتقاده الرابطة القلمية في نيويورك:
إني لأعجب من آداب رابطة قد أوجدت في نظام الشعر تشويشا
والظاهر أنّ السيد ضعون أراد بسببه الثالث أن يبتدع بدعة جديدة وهي الافتخار بجهل علم العروض. ولما كان فرحات صديقه الحميم، فلم يرد أن يحرمه نعمة هذا الفخر، بل إنه تكرم بخصّه بها أولاً وإن كان هذا الأخير يمقتها مقتاً كما رأيت. وإذا كا يجب علينا أخذ تعليل السبب المشار إليه بغير هذا المأخذ لما رأينا مفراً من القول بأن السيد ضعون يجهل مبادىء تطور الأفراد جهلاً تاماً. فهو يبدي جهلاً تاماً بأن ظهور موهبة الشعر في فرحات دون أن يكون له إلمام بعلم العروض، لم يمنعه من درس علم العروض فيما بعد. وعلى افتراض أنّ فرحات لم يدرس علم العروض كما درسه غيره، فهو يحاول دائماً أن يكون في شعره ناسجاً على منوال أمتن الشعراء وأفصحهم كأبي العلاء والمتنبي وأبي تمام وغيرهم. فهم ملاذه وملجأه إذا عصيه علم العروض، وإن كانت طريقة تعبيره كثيراً ما تكون أبسط كثيراً من طرائق تعبيرهم هم.
قال السيد ضعون بعدما تقدم:
«أعلم شيئاً واحداً هو أنّ الشعر لا يقوم بضبط أوزانه وقوافيه بل بعذوبة ألفاظه ومتانة مبانيه وسمو معانيه، ومن هذه الجهة أراني فخوراً بتقديم رباعيات فرحات إليك لأن انفلات هذا الشاعر من قيود التقليد أبعده عن التعقيد فجاء شعره سهلاً ممتنعاً يزري بسواه من الشعر الموزون على سنن الفصاحة والبلاغة».
لا ندري كيف يزري الشعر السهل الممتنع بسواه الموزون على سنن الفصاحة والبلاغة ونحن نعرف أنّ ما يراد بالسهل الممتنع نظماً كان أو نثراً أسلوب من أهم ضرورياته أن يكون موزوناً على سنن الفصاحة، والبلاغة وإلا كان ركيكاً. وعلى افتراض أنّ القصد من السهل الممتنع غير ما ذكرناه فنحن لا ندري من أية وجهة يزري هذا الأسلوب بما هو موزون على سنن الفصاحة والبلاغة.
إننا حتى هذه الساعة لم نرَ مثل هذا الشعر السهل الممتنع الذي يزري بشعر المتنبي وغيره مثلاً ممن توخى الفصاحة والبلاغة نظيره. وإذا أردنا البحث في هذه القضية بصورة جدية، لما وجدنا لها غير تعليل واحد يجري على أقوال كثيرة شائعة في هذا العصر.
من الاصطلاحات اللغوية والعلمية والسياسية ما أصبح شائعاً في المدة الأخيرة شيوعاً بعث على ابتذاله وتحوير معناه خصوصاً بعد أن تناوله الكويتبيون، وأخذوا في لوكه ومضغه والتشدق به ومنه ما نحن بصدده الآن من حقيقة السهل الممتنع في اللغة وما يقصد من قولهم التاريخ يعيد نفسه في السياسة والتاريخ وما شاكل. لذلك أصبحنا نرى مثل هذه الاصطلاحات توضع في غير مواضعها وتلقى بلا حساب، حتى كادت تفقد صفتها لاعتماد المتشدقين بها على حفظها غيباً دون تفهمها، وإلقائها في كل مقامة أو مقالة دون تكليف أنفسهم حمل مسؤوليتها، فهي قد صارت في أفواههم كأوسمة «اللجيون دونور» في الزمن الحاضر، تنثر ذات اليمين وذات الشمال دون أدنى تمييز.
أما وضع واضع المقدمة شعر فرحات في منزلة شعر أبي العلاء وتفضيله إياه على رباعيات الخيام، فلا بدّ أن يكون بإلهام إلهي ليس للعقل البشري فيه دخل أو حجة. ولا يخرج عن حد هذا المنطق تسمية المقدّم فرحات بأبي العلاء هذا العصر، وهذا لا يدل إلا على جهل صاحب المقدمة أبا العلاء وعمر الخيام جهلاً تاماً، يدلك على ذلك الحجة التي أيّد بها المقدم قوله بأفضلية فرحات على الخيام «الذي أتت رباعياته عبارة عن قصيدة واحدة على نسق واحد في حين أنّ رباعيات فرحات مستقلة المقاطع، متباينة الأغراض، متعددة المواضيع».
ونحن إذا كن قد خطّأنا مقدمة السيد ضعون فيما يختص بفرحات فلا يمكننا أن نخطئها فيما يختص بالسيد توفيق ضعون نفسه. فهي مقدمة مبنية فعلاً على الأسباب الثلاثة التي ذكرها في البدء والتي لا يصح بناء مثل هذه المقدمة إلا عليها كما رأيت.
أنطون سعاده