النهضة،
بيروت،
العدد 99،
11/2/1938
نقلاً عن ألف باء، دمشق، عام 1931
إني أتجرأ بأن أوجه إليكم يا سيدي هذا الجواب المفتوح بالبساطة والصراحة اللتين تمتاز بهما أمتي السيئة الطالع، لأن لخطابكم التاريخي الذي ألقيتموه في المأدبة التي أقامتها لكم الجمعية الصهيونية في لندن، علاقة مباشرة بمصير أمتي: الأمة التي وضعت حجر الزاوية في بناء التمدن، الأمة التي فعلت في سبيل المدنية كل شيء.
ترون، يا سيدي، أنّ جوابي سيكون بسيطاً صريحاً، خالياً من مجاملات المداهنة العصرية التي تتطلبها مزاياكم السامية. ولكنه جواب يختلف شرفه عن الشرف الذي قلتم أنكم أوليتموه في مأدبة الجمعية الصهيونية في أمر بسيط، صريح، أعني أنه شرف حقيقي!
لا أدري، يا سيدي، إذا كان في المأدبة التي أدبتها لكم الجمعية الصهيونية شرف لكم أو لها. بل لا أدري إذا كان في تلك المأدبة شرف على الإطلاق.
أجل، لا أدري. وليس الذنب ذنبي إذا كنت لا أدري. فقد تلوّن الشرف في هذا العصر بألوان متعددة. أما أنا فإني أعرف شرفاً واحداً، لا أعرف ولا أبالي بسواه. هو الشرف غير الملون!
إنّ من المبادىء الأولية التي يعرفها صبيان المكاتب، فضلاً عن المتنورين، أنه لا يجوز مزج الشرف بالسياسة أو مزج السياسة بالشرف. إنكم، ولا شك، تعرفون هذا المبدأ قبلي. ولكنكم ضربتم بهذا المبدأ عرض الحائط حين كنتم رئيس وزارة بريطانية العظمى وأجزتم «تصريح بلفور» المشؤوم، الممقوت، وعدتم فضربتم بهذا المبدأ عرض الحائط ووقفتم في مأدبة الجمعية الصهيونية مباهين بصنيعكم الذي إذا تمّ ــــ وهو لن يتم ــــ قضى على حياة أمة كان من جملة عهودكم أن تعترفوا باستقلالها وتحترموه. وقفتم في تلك المأدبة ومحياكم طلق وقلبكم مفعم سروراً كأنكم تباهون بعمل شريف!
لو كنتم وقفتم في مباهاتكم عند حد ذكر إجازتكم «تصريح بلفور» السيّىء الطالع لما كان هنالك ما يدعو إلى احمرار وجهكم خجلاً، إذ لو كان حدث شيء من ذلك لاعتبر شذوذاً عن تقاليد طبيعتكم الأنغلوسكسونية لا يغتفر، ولكنكم لم تقفوا في مباهاتكم عند ذلك الحد، بل تجاوزتموه إلى المفاخرة بتلك العملية الدموية التي أجريتموها في جسم أمتي بقطعها إلى قسمين في تلك المدينة الجميلة القائمة على شواطىء البحر المتوسط الغربية المعروفة بــ«سان ريمو».
وكما خرجتم في ذلك الوقت من المؤتمر الذي أجريتم فيه تلك العملية مهنئين بعضكم بعضاً أنتم ورصفاؤكم دون أن يحمر لكم وجه أو يندى لكم جبين، كذلك وقفتم في مأدبة الجمعية الصهيونية بعد مرور إحدى عشرة سنة على تلك العملية الشاذة مفاخرين بنجاحكم فيها دون أن يحمر لكم وجه أو يندى لكم جبين.
تجاه هذه الحقيقة الراهنة يترتب عليَّ أن أعترف بمقدرتكم الفائقة على الاحتفاظ بتقاليد طبيعتكم الأنغلوسكسونية، إلى أبعد حد ممكن، أثناء قيامكم بعملية مزج الشرف بالسياسة ومزج السياسة بالشرف.
تعلمون، يا سيدي، أكثر مما أعلم أنّ العلم من طبيعة الغربي، وأنّ الفلسفة إلى طبيعة الشرقي أقرب. ومع ذلك فإنكم لم تراعوا هذه الحقيقة وأقبلتم، في خطابكم في مأدبة الجمعية الصهيونية، على الفلسفة حين كان الأَوْلى بكم أن تقبلوا على العلم فكانت النتيجة أنكم ارتكبتم خطأً منطقياً وخطأً علمياً وخطأً فلسفياً حين قلتم في خطابكم المشار إليه «لم تكن تلك البلاد (فلسطين) وطناً لقوم ما بل كانت خراباً وأفضل ما فيها أنها تصلح لأن تكون وطناً».
لست في حاجة إلى أن أدلكم على مواضع خطأكم لأني على يقين تام من أنكم تعرفون جيداً، كما أنا أعرف جيداً «بأن تلك البلاد فلسطين هي جزء حيوي من وطن كامل غير قابل التجزئة، لأمة واحدة هي الأمة السورية».
أنتم أنفسكم كنتم في عداد الذين تبجحوا كثيراً أثناء الحرب العالمية بأنكم تقومون بتلك المجزرة الهائلة، لا لغرض آخر سوى تحرير الأمم الضعيفة، ومن ضمنها الأمة السورية، وقبلتم أنتم ورصفائكم الفرنسيون متطوعين من هذه الأمة جاؤوا ليسفكوا دماءهم في سبيل نصرتكم ونصرة أمتهم.
وإذا أحصيتم، يا مولاي، قتلى جيوش الحلفاء على العموم، وقتلى الجيش الأميركةني على الخصوص، وجدتم بينها عدداً غير يسير من هذه الأمة التي قمتم الآن تنكرون وجودها في وطنها بصلابة جبين قلّ نظيرها!
لو لم يكن قد سفك دم هذه الأمة سوى قطرة واحدة في سبيل نصرتكم في أحرج أوقاتكم لكفى ذلك لحملكم على احترامها لو كنتم منصفين.
تقولون، يا سيدي، إنّ الأعمال التي أنجزتها الصهيونية إلى الآن كافية للدلالة على أنّ الأرض التي كانت تفيض لبناً وعسلاً لم تكن حديث خرافة، وتنسون أنّ اللبن والعسل كانا يفيضان من تلك الأرض بفضل سواعد الأمة التي كانت فيها، قبل مجيء اليهود إليها هاربين من عبودية مصر حيث كان وطنهم القومي الأول، والتي لا تزال فيها إلى الآن. بل أنتم تشيرون إلى ذلك في غير موضع من خطابكم إشارة ضئيلة مبهمة. إلى هذا الحد بلغت فيكم الحنكة السياسية والدبلوماسية في التذكر والنسيان وإهمال المنطق!!
بيد أنّ هذا الحد، على بعده، قد قصر عن الحد الذي بلغتموه في قولكم «إنّ لليهودي المقيم في تل أبيب حقاً بالحماية كما للمسلم المقيم في كنبور. جعلتم لليهودي الغريب في فلسطين، وللمسلم الوطني في الهند منزلة واحدة ولم تجدوا في ذلك تناقضاً غريباً قط.
إنّ الغرابة التي لا غرابة بعدها هي أنكم خلطتم بين السياسة والشرف خلطاً فادحاً، وأدخلتم المصلحة السياسية في واجبات الشرف بطريقة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الخلط. فقد ضربتم صفحاً عن جميع الأمور والعهود التي يتوقف عليها شرف العلم البريطاني وجعلتموه يتوقف على حماية اليهودي في أرض دخلها قوم، يدعي هو ــــ وقد يكون ادعاؤه باطلاً ــــ أنهم أجداده منذ نحو 3 آلاف سنة بطريقة غير شرعية.
تتكلمون عن «فلاح العرب والمسيحيين» بسبب نجاح الحركة الصهيونية، أما الفلاح فسأعود إليه فيما يلي، وأما قولكم «العرب والمسيحيين» ففيه خطأ قد يعيّركم به باعة الجرائد عندنا لأنه لا يجد في فلسطين (عرب ومسيحيون) بل شعب هو جزء من الأمة السورية التي تحمل رسالة تنص في جملة موادها على إنهاض العالم العربي أجمع.
الحقيقة أنّ سوريــي فلسطين قد أفلحوا فلاحاً عظيماً ولكنه غير الفلاح الذي تعنونه. إنه الفلاح الذي لا تتمنونه، الفلاح في ضرب الطامعين في وطنهم ضربات كادت تكون قاضية لولا تدخل جنود بريطانية.
إنّ في الدماء التي أسالوها من اليهود الغرباء، في الدماء الزكية التي بذلوها، برهاناً قاطعاً يكذب ادعاءكم بأنه ليس في فلسطين أمة!
يمكنكم، يا سيدي، أن تغتبطوا أنتم وإخوانكم الصهيونيون «بزوال الشكوك التي قامت على أثر الورقة البيضاء البديعة»، لكن لا يمكنكم أن تغتبطوا بالحقيقة الراهنة التي تعرفونها وهي أنّ وجود ورقة ما، بيضاء كانت أو سوداء، أو عدم وجودها لا يغيّر شيئاً من إيمان أمة مصممة على الاحتفاظ بجميع حقوقها في وطنها وردّ الطامعين به مهما كلفها الأمر.
«لليهود دعوى خاصة بحقهم في أرض كنعان» ولكنها دعوى نحن نعرف والعالم كله يعرف مبلغها من الصحة.
إنكم تحاولون إثبات هذه الدعوى بالقول إنّ اليهود لم يجدوا وطناً لهم في مصر وفي بابل. فهل وجد اليهود وطناً لهم في فلسطين؟ إذا كنتم تعجزون عن إعطاء جواب يتفق والحقيقة فإن «سني السبي» وألف وتسعمائة سنة نفي تعطي الجواب الصحيح.
مولاي، إذا كان الواجب يدعوني إلى انتقاد مواطن خطئكم، فإن العدل يدعوني أيضاً إلى الاعتراف بأقوالكم المصيبة. قولاً واحداً مصيباً يستحق الذكر وجدت في خطابكم. أعني قولكم في الصهيونية «لم يحدث في تاريخ العالم محاولة كهذه المحاولة».
أجل، يا مولاي، إنّ التاريخ لم يسجل من قبل محاولة أثيمة كهذه المحاولة. وإذا كنتم تجدون في الإثم مدعاة للفخر فإني أهنئكم بهذه الحكمة التي أخفيت عن الحكماء والعقلاء وأعطيت للجهال.
إسمحوا لي، يا مولاي، أن أختم جوابي هذا بالموافقة على ختام خطابكم التاريخي الذي جاء فيه «... يحق لنا أن ننتظر من هذه التجربة أموراً عظيمة لا تقتصر على فلسطين بل تتناول العالم أجمع، ليس لأبناء إسرائيل فقط بل لجميع أبناء الإنسان». الحقيقة، يا مولاي، هي كما قلتم فإن أمور أعظيمة ــــ أموراً عظيمة جداً ــــ ستترتب على هذه المحاولة الأثيمة التي لم يعرف التاريخ محاولة أخرى تضاهيها في الإثم، وإني أطمئنكم بأن نتائجها لن تقتصر على فلسطين، بل ستتناول العالم أجمع، وأنّ عظتها البالغة لن تكون لبني إسرائيل فقط، بل لجميع بني الإنسان!
ومن يعش يرَ.
دمشق في 18 مايو/أيار 1931.
أنطون سعاده