المعرض،
بيروت،
العدد 32،
30/5/1931
عندما أفكر في الجهود العظيمة التي تبذل لتحقيق فكرة الطمأنينة والسلام العالميين، والمساواة البشرية في الأغراض الإنسانية السامية، تخطر في بالي العقبة الكأداء التي تعترض هذا السبيل، ألا وهي: التاريخ المملوء بالنزعات القومية والعنصرية والإقليمية. وأعتقد أنّ شقة البعد بين الشرق والغرب قد وسعها كثيراً خلو الشرق من التواريخ المشبعة بالنزعات المشار إليها.
أريد بهذه المناسبة أن أذهب مذهباً جريئاً قد يخفف عن الاقتصاديين بعض ما يعانون ولا يتفق بوجه من الوجوه مع حلول السياسيين المكتسبين، وهو أنّ تجريد التاريخ من النزعات والفلسفات المملوء بها يغني عن ألف ألف مؤتمر لتحديد السلاح وألف ألف معاهدة لمنع الحرب.
يحملني على الذهاب هذا المذهب استقصاءاتي العديدة، وبحثي في أساليب إعداد التاريخ للمدارس، وطرق تدريسه، وفي التواريخ الموضوعة للرأي العام. فقد توصلت إلى نتيجة مؤلمة لكل المتمثلين الإنسانية السعيدة والمتفائلين بمستقبل سلام العالم، جعلتني أعتقد أنّ نصف ويلات البشرية، على الأقل، يعود إلى سيطرة النزعات على التواريخ الموضوعة بين أيدي الناس، وحشو هذه التواريخ بالفلسفات المتغرضة والشروح الموضوعة عمداً لمقاصد معينة.
من ذلك تاريخ كل صدام يحدث بين الغرب والشرق بأنه صدام بين المدنية والهمجية، وتعريف الأمم الآسيوية بأنها منحطة متوحشة. ولم يقف الكثيرون من مؤرخي الغرب عند هذا الحد من تشويه الحقائق، بل قاموا بتشويه الحقائق التي ليس لها علاقة بالشرق. فليس في استطاعتك، مثلاً، أن تثق بتاريخ وضعه مؤرخ فرنسي عن ألمانية، أو بتاريخ وضعه ألماني عن فرنسة، بل ليس من الحكمة في شيء أن تثق بكل ما يقوله مؤرخ غربي حتى عن بلاده.
وقد استغربت جداً أن أجد نفس الروح المغرضة في التواريخ الأوروبية قد هاجرت إلى الأميركتين في جملة ما انتقل إليهما، وبدلاً من أن أجد فيهما روحاً منعتقة من عبودية الأغراض الضيقة النطاق، مستعدة لإقرار الحقائق العلمية، كما هي بدون تشويهها بفلسفة النزعات المتضاربة، وجدت فيهما نفس الأسلوب الأوروبي العتيق الذي لا يصلح لإعداد سلام العالم ومستقبل سعادة البشرية. يظهر هذا الأسلوب فيهما، أحياناً بصورة سمجة تفوق سماجة الصورة الأوروبية.
خذ مثلاً البرازيل فهي بلاد أميركية جديدة لا تزال قوميتها في بدء نشوئها من المزيج الغريب المتولد من مهاجرة أقوام عديدة مختلفة التقاليد متباينة الأغراض، أكثر الأحيان، وفي جملة هذه الأقوام السوريون واللبنانيون والفلسطينيون الذين يؤلفون الآن حزباً قوياً نشيطاً من مجموع الشعب البرازيلي. كان من المنتظر أنّ بلاداً هذه حال قوميتها تكون غير صالحة لنمو النزعات العنصرية التي لا طائل تحتها ولا فائدة منها، خصوصاً والبلاد غير محاطة بعناصر معادية تخشى شرها، وشعبها مجموع عناصر عدة كما قدّمت، وتكون في مقدمة البلدان التي تُنزه علومها التاريخية عن الفلسفات المتغرضة. ولكن دهشتي كانت عظيمة جداً حين دعتني دائرة المعارف القومية البرازيلية وانتخبتني لعضوية بعض اللجان الاختصاصية الفاحصة، لما وقفت عليه في عنايتي بالاطلاع على كتب التدريس التاريخية، أثناء قيامي بالمهام التي انتدبت إليها. فإن بعض هذه الكتب، المعوّل عليها في تعليم التاريخ العام، تظهر فيه مجاراة الأسلوب العتيق الذي كان مشكوراً حين كانت المثل العليا للأمم قصيرة المدى، ضيقة النطاق، أما أنا فأريد أن أطلق عليه اللقب الذي يستحقه في هذا العصر، أعني: الأسلوب المسمم العقول.
بين كتب التاريخ العام المدرسية، في البرازيل، كتاب نال واضعه شهرة واسعة في تلك البلاد المترامية الأطراف وحاز مكانة عالية بين كبار مؤرخي البرازيل وأدبائها، والكتاب المذكور هو أحد الكتب المعوّل عليها في التدريس. يرى الباحث في هذا الكتاب، وفي أماكن معينة منه، شروحاً إضافية للحقائق التاريخية الواردة فيه لا أريد هنا أن أدخل في جدال طويل يتناول فسادها من الوجهتين الفلسفية والمنطقية، أو صحتها، ولكني أريد أن آتي على بعضها مما له علاقة بنظرياتي المتقدمة في علم التاريخ وتأثيره في تطور العالم الاجتماعي والعمراني.
في المقدمة الإضافية لحروب قرطجنة ورمة وظهور هنيبال وأسدروبال، القائدين الحربيين الفينقيين الخالدين، تجد فقرة هذه ترجمتها الحرفية:
«حين أعلنت الحرب (بين قرطجنة ورمة) كانت (قرطجنة) أكبر وأغنى من رومة في تماثيلها ومراكبها وكنوزها. بيد أنّ شعبها الذي هو من عنصر آسيوي سامي، كان أحط في التمدن من الرومانيين الذين تثقفوا في جوار اليونانيين وعرفوا فنونهم وثقافتهم، محسّنين الفيلق الحربي بتقسيمه إلى فيالق وشراذم».
يجد الباحث في هذه الفقرة الصغيرة، نوعاً من أنواع الفلسفة المتغرضة تظهر فيه روح رديئة سيئة القصد فضلاً عن أنّ الرأي الذي تضمنه لا علاقة له بالتاريخ من حيث هو علم. فالرأي ما كان قط علماً. والمفهوم من كلام المؤرخ المتقدم أنّ القارة (آسية) والعنصر (السامي) هما الفارق في الارتقاء المدني، وأنّ كل شعب آسيوي سامي هو، طبعاً، أحط من كل شعب آخر أوروبي هندي آري، وأنّ تقسيم الفيلق الحربي البري هو مقياس الرقي الوحيد. ونحن إذا سلمنا جدلاً بهذه النظرية فإننا لا بدّ نحار في تعليل كيف أنّ الرومانيين انكسروا شر كسرة في أرقى مظاهرهم المدنية في (الجيش) أمام قوات هنيبال. وإذا كان السر في القارة والعنصر فلماذا كان النبوغ الفينيقي أعظم من كل نبوغ روماني في ذلك العهد؟ ولماذا ينسى المؤرخ المشار إليه أنّ الخوف من النبوغ الفينيقي الآسيوي حمل الرومانيين على حرق قرطجنة بعد الخطب الرنانة التي كان كاتون يلقيها في مجلس شيوخ رومة.
قلت في ما تقدم إني لا أريد أن أدخل في جدال يتناول صحة آراء المؤرخ المشار إليه أو فسادها. وأنا ما قصدت من إيراد بعض النقط الجدلية إلا تأييد نظريتي في أنّ الفلسفة المتغرضة كانت ولا تزال آفة التاريخ والعقبة التي تعترض سبيل التفاهم البشري. ولا يجب أن يستنتج من كلامي المتقدم أني أحاول الانتصار للعنصر الذي أنا منه بإظهار فساد نظرية المؤرخ المذكور، فالحقيقة أني لم أحاول إظهار فساد النظرية المشار إليها قط، ولكنني أردت تبيان الصيغة المشبعة بروح ا لتغرض التي تظهر في الفقرة التي أتيت عليها. وفي الوقت نفسه أعلن أنه لا يجب أن يستفاد من مجمل كلامي أني ألقي على المؤرخ المذكور تهمة تعمد التغرض، فهذه مسألة خارجة عن بحثي تماماً.
ولما كنت أريد إثبات وجود التغرض والنزعات بصورة لا تقبل الدحض أراني مضطراً إلى تعزيز استشهادي المتقدم باستشهاد آخر من نفس المؤلف. أتى المؤرخ على التحسينات التي أوجدها العرب في تطور المدنية، واعترف بها، ولكنه ما لبث أن ختم كلامه على الأتراك وسقوط القسطنطينية بالفقرة الآتية:
«من المحتمل أنّ عهداً جديداً يبتدىء، حين تزول من أوروبة الامبراطورية التركية التي هي الآن في حالة النزع، كما أنّ العهد العصري ابتدأ منذ طرد البقية العربية من إسبانية».
في الكتاب شواهد أخرى كثيرة أضرب عنها صفحاً لعدم الحاجة إليها بعد إيراد شاهدين يعزز الواحد منهما الآخر تعزيزاً كبيراً. مما تقدم تظهر للمطالع بكل جلاء نتيجة وجود النزعات في التاريخ، فالتلاميذ الذين يتعلمون التاريخ العام في المؤلف المذكور يخرجون إلى الحياة العملية رجالاً ونساءً حاملين في قلوبهم الكره والاحتقار للشعوب الآسيوية إجمالاً وللعنصر السامي الفينيقيين والعرب بوجه خاص. والغريب في الأمر أنّ التاريخ الذي استشهدت به وضع لشعب يترك السوريون فيه ذرية كبيرة قد أصبحت من صلبه، والسوريون هم خلفاء الفينيقيين وشركاء العرب.
إذا أضفنا النتيجة المتقدمة المؤسفة إلى أنّ الشروح التاريخية التي هي من نوع الفقرتين المتقدمتين ليست حقائق علمية، اتضح لنا عظم الجريمة التي يرتكبها المؤرخون، بقصد أو بغير قصد، بتشويه علم التاريخ بما يحشونه به من نظريات فلسفية ليست، في الأكثر، في جانب الخير العام وسلام العالم، ولا في جانب الحقيقة والحق.
خلاصة واقتراح:
قد يكون في استطاعتنا أن نتجاوز النظر في النتائج السيئة التي تؤدي إليها النظريات المحشو بها التاريخ، من الوجهة العلمية دون أن نرتكب خطأً كبيراً فاضحاً.
أجل، لا يمكننا أن نمزج الفلسفة التاريخية بالتاريخ، ونطلق على هذا لقب علم ثابت خالص دون أن نعرّض معارفنا للتشوش الذي يحول دون بلوغنا الفائدة التي نتوخاها.
يرى المطالع مما تقدم أننا تجاه قضية خطيرة تهدد كياننا العلمي بالفشل، فضلاً عن أنها تهدد كياننا الإنساني بالبغض والنفور وإيغار الصدور وسائر العوامل التي تحمل أخيراً على إثارة الحروب، وصدّ المساعي والجهود التي يبذلها المفكرون الإنسانيون في سبيل تحقيق السلام العام.
تجاه هذه الحقيقة الراهنة يخطر لي أن أقترح على المعاهد العلمية السورية أن تأخذ هذه النظرية بعين الاهتمام وتقرر في ما بينها إرسال نداء حار إلى معاهد العلم في العالم كله تدعوها فيه إلى عقد مؤتمر عام يقوم بمهمة التحقيق في مؤلفات التاريخ المعوّل عليها في التدريس عند جميع الأمم، وتوحيد علم التاريخ العام، ونشر المعلومات التي تبطل تأثير التواريخ الخارجة عن دائرة العلم.
أكرر في ختام هذه العجالة رأيــي المتقدم في أنّ تجريد التاريخ من النزعات والنظريات الفلسفية يأتي بفائدة لا تأتي بها جميع المؤتمرات التي عقدت، والتي ستعقد، لتحديد السلاح، ولا جميع المعاهدات التي تعلن إبطال الحرب. وإني أعتقد يقيناً أنّ سلام العالم يتوقف على تنزيه معارفنا في ما يتعلق بأنفسنا وجيراننا والبعيدين عنا أكثر كثيراً مما يتوقف على المؤتمرات والمعاهدات السياسية.
دمشق
أنطون سعاده