اليوم،
دمشق،
العدد 64/12،
26/10/1931
كان دخول الولايات المتحدة الحرب العظمى، خرقاً أكيداً لشريعة منرو الشهيرة القائلة ببقائها على الحياد في جميع ما يتعلق بالشؤون الأوروبية. ولكن الولايات [المتحدة] وجدت مبرراً لذلك الخرق في اعتداء الغواصات الألمانية على الباخرة الأميركةنية «لوزيتانيا»، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها وجاء ولسن أوروبة حاملاً بنوده الأربعة عشر: شريعة جديدة لإقرار سلام العالم، وكان من أمره في التداخل في شؤون أوروبة خصوصاً وشؤون العالم عموماً ما كان، خشي قسم كبير من الأميركةنيين عاقبة وضع الولايات المتحدة تحت مسؤولية كبيرة تجاه سياسة أوروبة التي تختلف كثيراً عن روح السياسة الأميركةنية، خصوصاً السياسة التي اتبعها ولسن وأدغم فيها الشرف والأخلاق، وقام هذا القسم بمعارضة سياسة ولسن وطلب العودة إلى شريعة منرو. فأدى ذلك إلى سقوط ولسن وانسحاب الولايات المتحدة من أوروبة. وكان انسحاباً يخالف أمنيات أمم كثيرة كانت ترى في الإبقاء على سياسته تأميناً لها، وفي عداد هذه الأمم سورية.
احتفظت الولايات المتحدة، بعد انسحابها من جمعية الأمم، بخطة عدم المداخلة في الشؤون الأوروبية، التي تنص عليها شريعة منرو، اللّهمّ إلا حيث وجدت مساساً مباشراً بمصالحها، وظلت محتفظة بهذه الخطة إلى هذه الساعة. ولهذا الموقف الذي اتخذته الولايات المتحدة أهمية كبيرة تتعلق بسوء الحالة السياسية والاقتصادية، فإن اعتزالها شؤون السياسة الأوروبية جعل أوروبة تعود إلى تخبطها السابق ومناوراتها السياسية القديمة فضلاً عن أنّ ذلك أدى إلى إبقاء انقسام المصالح العالمية انقساماً لا يعود بالخير العام.
إنّ من أكبر العوامل التي حدت بحكماء السياسة الأوروبية أن يحاولوا الوصول إلى نوع من الاتحاد الأوروبي وجود مصالح أميركية مستقلة تزاحم المصالح الأوروبية، مزاحمة شديدة لا تستطيع أوروبة التفوق فيها وهي منقسمة على نفسها.
ولو كان الأمر يقتصر على مجرّد المزاحمة الاقتصادية لهان مع فداحته، ولكن شؤون العالم الاقتصادية أصبحت اليوم مشتبكة بعضها ببعض اشتباكاً يجعل حالة قسم من العالم يؤثر في حالة قسم آخر مهما بعدت المسافة. ومتى كانت المسألة مسألة قسم مهم كأوروبة فإن تأثير يكون عظيماً بالغاً.
كانت الأزمة الاقتصادية الحاضرة في بدء أمرها أزمة اقتصادية أوروبية وكانت الولايات المتحدة تنفرج من بعيد، وأحياناً كانت تتلهى بإرسال بعض خبرائها الماليين والاقتصاديين للاشتراك في وضع خطط للتعويضات، كخطة داوز وخطة يونغ، وفي سوى ذلك لم يكن لها شأن فعال.
أخيراً ثقل كاهل أوروبة كثيراً فلم تعد ألمانية قادرة على دفع تعويضات باهظة، بينما الملايين من عمالها العاطلين يتضورون جوعاً، وامتدت أزمة البطالة في إنكلترة وزاد في طينها بلّة قيام الهند بمقاطعة أثَّرت في صناعتها تأثيراً بالغاً. وفرنسة التي ملأت صناديقها بالذهب لا تدفع فلساً من ديونها للولايات المتحدة، إلا مما يأتيها من التعويضات الألمانية، فاضطرت الولايات المتحدة، تجاه هذه الحال، إلى إعلان النسبة الحالية للديون التي لها على الدول الأوروبية بشرط أن تمدد الدول المذكورة النسيئة إلى التعويضات.
ولكن ظهر أخيراً أنّ نسيئة سنة ليست كل ما تحتاج إليه أوروبة للتخلص من أزمة عامة آخذة بخناقها، وأنّ بقاء الأحوال الأوروبية على ما هي عليه الآن زيادة التأثير على الولايات المتحدة نفسها لا في مسألة الديون فقط بل في مسألة المصالح العديدة التي لها في أوروبة، فإن الولايات المتحدة تصدّر من مصنوعاتها إلى أوروبة قسماً كبيراً لا يمكن الاستغناء عنه طويلاً.
تفاوض الولايات المتحدة الآن الدول الأوروبية لوضع تسوية عامة لمسألة ديون الحرب وتعويضاتها، فزارها مؤخراً رئيس الوزارة الفرنسية، ويزورها الآن وزير خارجية إيطالية، ومخابراتها مع لندن دائمة.
كل ذلك يدل على أنّ شريعة منرو القائلة بعدم المداخلة في شؤون أوروبة لم تعد تصلح من الوجهة الاقتصادية، وعما قليل تصبح غير صالحة من الوجهة السياسية، فهي شريعة أصبحت تحتاج الآن إلى الإلغاء أو التعديل. وسندرس شريعة منرو بإسهاب أكثر في عدد مقبل.