اليوم،
دمشق،
العدد 69/17،
1/11/1931
في مقالاتنا السياسية المتقدمة بحثنا في وضع أوروبة الشاذ الذي أوجدته معاهدة فرساي. وهي معاهدة وضعت في زمن كانت عواطف الانتقام وعوامل المطامع متغلبة فيه على العقل والمنطق فجاءت أحكامها قاضية على التفاؤل الذي أوجدته سياسة ولسن الأدبية الأخلاقية، ومخيبة رجاء العالم بسلام طويل العهد.
قلنا في المقالات المشار إليها آنفاً إنّ الأزمة السياسية التي تلت مؤتمر الصلح ومعاهدة فرساي أعظم مسبب للأزمة الاقتصادية العامة الآخذة بخناق العالم اليوم، وإنّ حل الأزمة الاقتصادية حلاً نهائياً يتوقف بالأكثر على حل الأزمة السياسية، ورجونا أن يكون الغرض من زيارة رئيس وزارة فرنسة لرئيس الولايات المتحدة الأميركية البحث في تسوية شؤون العالم الحاضرة على هذا الأساس.
وما قلناه منذ أسابيع أيَّده أحد أقطاب السياسة العالمية الأميركةنيين بتصريح خطيرة، فإن السناتور بوراه رئيس لجنة السياسة الخارجية في مجلس شيوخ الولايات المتحدة أدلى إلى الصحافيين بتصريح أبدى فيه رأيه في طريقة حل الأزمة العامة الحاضرة، جاء فيه: إنّ حل مشاكل أوروبة يتوقف على تحوير معاهدة فرساي، وإنه يجب زوال شكل بولونية الحالي لكي لا يبقى عقدة سياسية يقتضي حلها نشوب حرب جديدة.
وقع تصريح السناتور بوراه من نفس الصحافة الفرنسية والصحافة البولونية موقعاً عظيماً. وأحدث في أندية هذين السياسية اهتزازاً عنيفاً. والحقيقة هي أنه إذا كان في أوروبة بَلَدان يهمهما بقاء وضع أوروبة الشاذ على حاله الحاضرة، فهما: فرنسة وبولونية. لأن تحوير معاهدة فرساي تحويراً يعيد إلى بعض العناصر الأوروبية حريتها ومركزها السابقين يعني إطلاق ألمانية من عقالها وإعادة سيليسية العليا إليها. والأمر الأول يجعل السبعة والثلاثين مليون فرنسي في مركز أحط من مركز السبعين مليون ألماني، والأمر الثاني يفقد بولونية منطقة غنية بالمعادن استولت عليها بفضل نفوذ فرنسة في جامعة الأمم.
وإننا نرى الواجب يدعونا إلى التصريح أنّ السناتور بوراه لم يفه ما فاه به بسبب عدائه لفرنسة أو بولونية، فالرجل كان أثناء الحرب من الناقمين على ألمانية. ولكنه زار، بعد الحرب، أوروبة ووجّه عنايته لدرس أسباب الحرب، فاطلع على محفوظات الوثائق السياسية السرية التي أذاع حقيقتها البلاشفة، ووقف على مذكرات السياسي الروسي سازنوف، وتوصل إلى معرفة حقيقة شبكة الدسائس السرية التي حيكت قبل الحرب، وعاد إلى بلاده حيث وضع تقريراً إضافياً بمعلوماته الجديدة قدمه في خطاب ألقاه أمام البرلمان الأميركةني وسجّله في سجله. وإذا كان السناتور بوراه قد قال بانسحاب بلاده من أوروبة فلأنه لا يريد أن يراها توافق السياسة الفرنسية والإنكليزية على اقتسام العالم بين هاتين الأمتين.
ولما كان القسم الأول من تصريح السناتور بوراه يتناول قضية عالجناها في أعداد سابقة من هذه الجريدة، فإننا لا نرى حاجة للزيادة عليه، وما يعنينا أمره الآن هو القسم الثاني القائل بضرورة زوال دولة بولونية الحالية.
بولونية ويوغوسلافية ورومانية في صدر الدول الحديثة، المصطنعة اصطناعاً يبقى مثاراً للقلاقل الجنسية والعنصرية ما بقيت هذه الدول على وضعها الحاضر، ومرجعاً تعود إليه أسباب بعض الحروب المقبلة. ولعل بولونية أعظمها شأناً من هذا القبيل، خصوصاً وهي واقعة بين أمتين عظيمتين لا ترضيان بالتنازل لها عن مقاطعاتهما التي ضمتها بولونية إلى أملاكها، وملايين الأنفس التي أدخلتها بولونية في قوميتها وتعود أصولها إليهما.
تتألف الدولة البولونية الحديثة من أكثرية بولونية الجنس وأقليات أعظمها الأوكرانية (سلافية ــــ روسية) والعبرانية (اليهود) والألمانية والروسية وغيرها.
وقد اختلفت الإحصاءات العديدة في عدد الأقليات الجنسية الداخلة في الدولة البولونية. وبعض هذه الإحصاءات التي وضعها أخصائيون بولونيون والدكتور كريزنسكي في مجلة «سيرافي نارودفشيوفي» عدد أكتوبر/تشرين الأول 1929 يجعل عدد بعض الأقليات «الأوكرانية» فوق ما كان يتصوره الأجانب. ولكننا لا نريد الدخول الآن في بحث يتناول صحة الإحصاءات العديدة أو عدمها، لذلك نأخذ الإحصاء الذي يضع الأقليات في أقل عدد ممكن. فهو يكفي، على ما قد يكون فيه من النقص، لبيان خطورة مسألة الأقليات في بولونية.
يقول الإحصاء المشار إليه إنّ الدولة البولونية تتألف من أكثرية بولونية الجنس وعددها 18.814.000، «أي تسعة وستين بالمائة من مجموع الرعايا»، ومن أقليات أكثرها عدداً الأوكراية وتبلغ 3.898.000، «أي 14.3 بالمائة»، تأتي بعدها الأقلية العبرانية وعددها 2.110.000، «أي 7.8 بالمائة»، وثم الأقلية الروسية البيضاء وعددها 1.060.000، «أي 3.9 بالمائة»، فالأقلية الألمانية وعددها 1.059.000، «أي 3.9 بالمائة»، فأقليات مختلفة وعددها مجموعة 235.000، «أي 0.9 بالمائة».
يتضح لنا مما تقدم أن في بولونية نحو ثمانية ملايين ونصف من الأنفس، هي أقليات جنسية لا تزال محافظة على أخلاق قومياتها الأصلية وعاداتها وتربتيها. وقد ذهبت المحاولة العظيمة، التي قامت بها بولونية لدمج هذه الجنسيات المغايرة لها في قوميتها، أدراج الرياح. وصدى احتجاجات ألمانية على الخطة التي سارت عليها لدمج الأقلية الألمانية في قوميتها بالقوة لا يزال يرن في آذاننا إلى اليوم. وقد أرسلت جامعة الأمم لجنة إلى سيليسية العليا لتقف على صحة احتجاجات ألمانية، فوضعت تقريراً لنتيجة استقصاءاتها بينت فيه أنّ ألمانية لها حق في موقفها.
إنّ كل محاولة تقوم بها بولونية لتنفيذ برنامج قومي يزيل مسألة الأقليات من بلادها تقابل بالمقاومة من ألمانية من جهة ومن روسية من جهة أخرى. أضف إلى ذلك أنّ ألمانية التي تساهلت بالاعتراف بحدودها الغربية من جهة فرنسة، أبدت صلابة عظيمة فيما يتعلق بالحدود الشرقية من جهة بولونية وغيرها. ولا يخفى على اللبيب ما في هذه القضية من الصعوبات التي قد تثير حرباً ضروساً في المستقبل.
يجب على العالم الذي تعب كثيراً من الحرب أن لا يجعل الدعوة المتغرضة تعميه عن فهم حقيقة إنذار السناتور بوراه.