اليوم،
دمشق،
العدد 79/27،
12/11/1931
وعدنا القرّاء في مقال سابق أن نعود إلى ذكر شريعة منرو ودروسها، لنعلم ماهية الموقف الشرعي الذي تقفه الولايات المتحدة تجاه أوروبة من جهة وتجاه الدول الأميركية من جهة أخرى، خصوصاً ما كان له علاقة بدول أميركة الجنوبية.
في أميركة الجنوبية، اليوم تيار من الأفكار الثائرة المشبعة بروح القوميات الحديثة التائقة إلى الظهور بمظهر القوة والاعتماد على النفس والمساواة لأكبر الأمم القوية. ويسير هذا التيار في وجهة الانتقاض على ما يسمونه «سلطة الولايات المتحدة الامبراطورية» وفي عداد الأمم التي يظهر فيها هذا التيار بوضوح البرازيل.
فلما حدثت ثورة نيكاراغوا، حيث تريد الولايات المتحدة إنشاء مضيق لها فيه مصلحة بحرية كبيرة، وتداخلت الولايات المتحدة في أمر إعادة الأمن إلى تلك الجمهورية الصغيرة بالقوة المسلحة، ابتدأت صحف أميركة الجنوبية، وفي مقدمتها صحف الأرجنتين والبرازيل، حملة منظمة على سلطة الولايات المتحدة المستمدة من تصريح منرو الذي أصبح يدعى «شريعة منرو»، لأن الولايات المتحدة اتخذته شريعة لها لا تقوم بعمل سياسي في الخارج إلا وتستند إليه، إلى أن شذّت حكومة ولسن عن هذه الخطة وكان من وراء ذلك دخول الولايات المتحدة في الحرب الكبرى الأخيرة. ولشذوذ حكومة ولسن مبررات لا حاجة لنا إلى ذكرها هنا.
في أثناء الحملة الصحافية المشار إليها جرى ذكر تصريح منرو على كل شفة ولسان وأصبح حديث الأندية والمجتمعات العامة واجتماع المقاهي: والجدير بالذكر هنا أنّ أكثر الذين تحدثوا عن تصريح منرو لم يكونوا يعرفون شيئاً حقيقياً راسخاً عن ماهية ذلك التصريح. بل إنّ كثيرين من الصحافيين والسياسيين في أميركة وأوروبة لا يعرفون حقيقة التصريح المذكور، وقليل منهم يعرف هذه العبارة المقتضية «أميركة للأميركيين». ومع أنّ في هذه العبارة حقيقة أكيدة، فهي لا تكفي لتعريف شريعة منرو التي تتمسك بها الولايات المتحدة، وتطبق بموجبها سياسة واسعة النطاق، تجعلها الحارس الأمين ا لذي ظل قرناً ونيفاً حامياً أميركة اللاتينية ضد المطامع الأوروبية.
أوضح الرئيس منرو شريعته المشار إليها في خطاب وجّهه إلى المؤتمر البرلماني سنة 1827، وهو خطاب طويل تناول فيه الرئيس جميع المسائل الخطيرة التي تهمّ الولايات المتحدة، وعيّن المبادىء التي تسير عليها هذه الدولة في سياستها الخارجية. أما النقط التي تتضمن شريعته فهي الأربعة البنود الآتية:
1 ــــ «منذ الآن فصاعداً تعتبر القارة الأميركية غير قابلة الاستعمار من أية دولة أوروبية كانت، يعني ضمناً: أننا نحن نمنع وقوع ذلك».
2 ــــ «كل مجهود تبذله أية دولة أوروبية لتمديد الأنظمة الملكية إلى محيطنا يعدّ خطراً على سلامنا وراحتنا؛ وأوضح ضمناً أننا نعدّه عملاً عدائياً لنا».
3 ــــ «في حالة حروب أو خصومات بين الدول الأوروبية، نبقى بعيدين عن التداخل ولا يتفق مع سياستنا أن نتداخل. إنّ عدم التداخل يكون قاعدة سياستنا تجاه أوروبة».
4 ــــ «نعتقد أنه من الضروري ترك دول أميركة الأخرى تحلّ قضاياها الخاصة بنفسها، واثقين من أنها تتبع القواعد التي نتمشى عليها».
البنود الأربعة المتقدمة تتضمن شريعة منرو. وقد كثرت المقالات والدروس والتصريحات التي شرحت هذه الشريعة على مختلف الوجوه. ومن الشرّاح من قال إنها تقتصر على الولايات المتحدة فقط ولا تتناول أميركة الوسطى أو الجنوبية أيضاً؛ كما جاء في شرح شبهرد.
أما في أميركة الجنوبية فقد قام المخالفون لسياسة الولايات المتحدة ينددون بفحوى هذه الشريعة، ويقولون إنّ معناها يمس معنى استقلال الدول الأميركية الأخرى، وإنّ الأميركةن قد استعملوها لمصلحة بلادهم فقط. وقد أكثر هؤلاء المنتقدون درس الزمن الذي وضعت فيه الشريعة المذكورة، وهو الزمن الذي سقط فيه نابليون وأعاد فيه مترنيخ والمحالفة المقدسة عهد القرون الوسطى في أسوأ مظاهره، حين كان القصد إعادة الحقوق الإلهية ومبادىء السلطة المطلقة وكان في ذلك خطر على أميركة أيضاً.
الحقيقة هي أنّ الامتيازات الكثيرة التي اكتسبتها الولايات المتحدة في الأميركتين الوسطى الجنوبية لا تعود كلها إلى شريعة منرو، بل إلى نشاط تلك الدولة وأسبقيتها في العمران والقوة الحربية أيضاً. ولما كانت الولايات المتحدة في الماضي القوة الوحيدة التي كان في وسعها أن تحمي مصالحها والمصالح الأميركية الأخرى ضد مطامع الدول الأوروبية الكبرى، فمن البديهي أن تكون قد حصلت على مركز فريد لا ينازعها فيه منازع وعلى امتيازات كثيرة يمكنها أن تستثمرها لمصلحتها.
ولكن مما لا شك فيه أنّ ذلك المركز وتلك الامتيازات آخذة في الضعف بالنسبة إلى نمو دول أميركة الجنوبية الكبرى كالأرجنتين والبرازيل. والمنتظر أن تحل الجامعة الأميركية محل شريعة منرو فيما يتعلق بالمصالح الأميركية العامة. ولا يعقل أن تبقى الولايات المتحدة متحملة مسؤوليات دول أخرى لها الآن أهمية في السياسة العالمية.
والظاهر أنّ الانتقاد الشديد الذي وجه مؤخراً إلى شريعة منرو في صحف أميركة الجنوبية لا يعود إلى المصالح الدولية فحسب، بل تشترك في إثارته النعرات العنصرية أيضاً. فأميركة الجنوبية كلها لاتينية العصنر والولايات المتحدة أنغلوسكسونية.
ونذكر بهذه المناسبة أنّ إحدى دول أميركة اللاتينية وجهت، منذ بضع سنين، سؤالاً إلى جامعة الأمم تطلب فيه إبداء رأيها في معنى شريعة منرو. فأجابت جامعة الأمم على ذلك بصورة عامة لا يتناول الشريعة المذكورة نفسها بما قد يؤدي إلى تضارب في الرأي مع الولايات المتحدة.
أنطون سعاده