اليوم،
دمشق،
العدد 84/31،
18/11/1931
الحقيقة التي لا مراء فيها أنّ روسية البلشفية قد أصبحت غولاً بالمعنى الحرفي لا تدري الدول الأوروبية كيف تتقي خطره.
ولقد استفحل خطر روسية الحمراء استفحالاً لا سبيل معه إلى إهماله. بل هو قد أصبح الشغل الشاغل لمعظم رجال السياسة الأوروبية والكتّاب السياسيين، حتى أنك لا تتناول صحيفة أوروبية إلا وترى فيها مقالاً واحداً على الأقل أو خبراً له قيمة المقال بشأن روسية وبلاشفتها.
ولا يتناول الخطر الروسي منحى واحداً من مناحي الحياة الأوروبية والحياة العالمية فحسب، بل أنه ظاهر بوضوح في أهم أسبابها، أي في الاقتصاد والسياسة والاستعداد للحرب.
وإذا حاولنا درس السبب الأول كان لا بدّ لنا من الإلماع، في الدرجة الأولى، إلى خطة السنين الخمس التي قام البلاشفة بتنفيذها منذ ثلاث سنوات ونيف. وهي خطة ظاهر فيها الإبداع لم تكد سنتها الثالثة تنتهي حتى شعر العالم بتأثيرها البالغ في اقتصاديات الأمم الصناعية والتجارية الكبرى، وكانت هذه الأمم تظن خطة السوفييت المشار إليها لعبة لا تقصد بها تلك الدولة أمراً جدياً ولا تبلغ بواسطتها شيئاً جسيماً.
درس البلاشفة خطة السنين الخمس المشار إليها درساً وافياً منذ نحو خمس سنين، ولما رأوا التأثير العظيم الذي يمكن أن يولده تحقيقها داخل البلاد وخارجها جزموا بتنفيذها حالاً وأعدوا الأهبة لها، حتى إذا تمَّ لهم ذلك اندفعوا في العمل اندفاعاً يكاد يكون جنونياً. والمعروف عن الروسيين أنهم شعب له صبر وجلد عظيمان.
وقد رمى البلاشفة، بالخطة المذكورة، إلى غرضين عظيمين: الأول منهما إيجاد نهضة صناعية داخل البلاد تتمكن من تجهيز الدولة بالمعدات والعدد اللازمة لها والتي لا ضمان لسلامة الدولة إلا باستقلالها فيها. و الثاني القيام بحملة اقتصادية عظيمة على دول أوروبة الرأسمالية والاستعمارية تقوم مقام الحملة الحربية التي لم تنجح في محاولة القيام بها يوم زحفت على بولونية ولما تسمح لها الظروف بالعودة إليها.
والآن، بعد مرور ثلاث سنين على ابتداء تنفيذ خطة الخمس سنين، يرى العالم أنّ الرياضيين البلشفيين لم يشذوا عن قواعد المنطق حين وضعوا جداول حساب الخطة المذكورة، وأنه قد تحقق منها حتى الآن ما يقل عن خمسين بالمئة، وأنه لن يأتي ختام السنين الخمس إلا ويكون البلاشفة قد حققوا لا أقل من ثمانين بالمئة من ذلك المشروع الخطير.
يعني ما تقدم، في الحساب الأوروبي، وجود دولة عظيمة المساحة، كبيرة الجيش، كثيرة الموارد، زائدة الإنتاج، مجهزة تجهيزاً صناعياً يكفل لها الاعتماد على نفسها في اتخاذ الأهبة لجيش لجب ويجعلها بلاداً مصدرة، تزاحم أكثر الدول إنتاجاً بعد أن فاقتها في المحاصيل الزراعية. ومتى كانت دولة هذا شأنها معادية للدول الأوروبية على خط مستقيم، كان من البديهي أن تتحول اللعبة التي ظنتها دول أوروبة في بادىء الأمر هزلية مضحكة إلى لعبة جدية خطرة.
تحاول أوروبة اليوم أن تقابل هذه المناورة الروسية الفعلية بمناورة لها صفة «أدبية». فالأدباء القوميون الأوروبيون يحاولون، بكل ما أوتوه من منطق وحجة، تحويل أنظار العالم عن استعدادات دولهم للحرب إلى الاستعدادات الروسية، رامين إلى وضع كل مسؤولية في حرب قريبة لا يشك بقرب وقوعها إلا القليلون، على روسية البلشفية.
فيرى الباحث في اختلافات الدول مكافحة عظيمة تجري منذ نحو إثنتي عشرة سنة بين روسية والدول الأوروبية، باستثناء ألمانية، وتخصيص فرنسة وبريطانية وإيطالية. والسبب في ذلك يعود إلى أنّ هذه الدول لعبت دوراً مع روسية يعدّه الروسيون غير شريف، وأنها الدول الأكثر استعماراً. والبلشفيون قد وجهوا عناية خاصة إلى محاربة الاستعمار في الشرق.
فبعد انقضاء الحرب ظهرت في الدول المذكورة رغبة واضحة في عدم حساب شأن روسية حين اجتمع مندوبوها ليقتسموا العالم اقتساماً شرعياً في مؤتمر الصلح. بل يوجد من ينسب إلى بريطانية وفرنسة خصيصاً، السرور والارتياح إلى سقوط روسية في الفوضى البلشفية، بحيث لا تعود إلى مطالبتهما بالقسطنطينية والاشتراك في تسوية شؤون الشرق الأدنى. وقد رأى الروسيون في ذلك نكراناً للجميل الذي صنعته روسية لفرنسة بالقيام بهجوم جنوني على الحدود الألمانية، أتى على مئات الألوف من الجيش الروسي بقصد إضعاف الهجوم الألماني على باريس، وكان ذلك العامل الأكبر في انتصار الحلفاء في معركة المارن الأولى ــــ لو صح الانتصار. والروسيون، بلشفيين كانوا أو غير بلشفيين، لا ينسون هذه الحقيقة.
تشتد المكافحة بين روسية والدول المذكورة، على طول خط المستعمرات، فلا يوجد في طول الشرق وعرضه مستعمرة كبيرة كانت أو صغيرة إلا وللبلاشفة عمال عديدون فيها يتلقون تعليماتهم من موسكو أو من برلين، وينتهزون الفرص السانحة لتحريض الشعوب الشرقية على مناهضة مستعمري بلدانها، وهم لا يلتمسون ذلك بالمناشير الشيوعية فقط بل بإثارة النعرات القومية أيضاً. وأعظم مساحات الكفاح المذكور الهند والصين حيث الأرض مترامية الأطراف والشعب غفير.
يقوم الغول الروسي الآن بكفاح صامت هائل بينما هو يعدّ الأهبة لكفاح شديد صارخ. وقد لا يمضي زمن قصير حتى نراه هاجماً مكشراً عن أنيابه يملأ ذكره الهضاب والبطاح.
أنطون سعاده