قصتان
عيد سيدة صيدنايا
فاجعة حب
طبعة أولى ــــ بيروت ــــ دار صادر، 1932
طبعة ثانية ــــ بيروت ــــ منشورات دار الفكر، 1948
نظرة المؤلف في القصتين
إنّ الغرض الذي وضعته نصب عيني والقصد الذي رميت إليه حين شعرت بدافع داخلي يدفعني إلى تأليف القصص كانا: تصوير حياتنا الشعبية واستخراج دروس قومية واجتماعية منها. بل إني شعرت بدافع يدفعني إلى هذا الغرض وهذا القصد كالدافع الفني الذي حدا بي إلى إنشاء قصتَيْ «عيد سيدة صيدنايا وفاجعة حب»، أي أنّ الغرض والقصد المذكورين لم يكونا هما الدافع الذي حملني على مكابدة الأدب القصصي، ولو كان الأمر كذلك لما وجدت مبرراً للإقدام على هذا العمل الشاق واتخاذ هذه الخطوة الخطرة.
بنيت القصة الأولى على مشاهداتي الشخصية في عيد سيدة صيدنايا المشهور الذي حضرته للمرة الأولى سنة 1930، فجاءت قصة بسيطة الموضوع الحيوي إلا أنها دقيقة الموضوع الفني، غنية بمظاهر الحياة الشعبية. ويرى القارىء أني قد انتخبت لبطولة هذه القصة شخصاً نادراً جهزته الطبيعة بمزاج قوي وتركّبٍ فيه خلق خاص فهو رجل وحده، مستقل بذاته استقلالاً نفسياً يفرده عنا حتى إننا كثيراً ما نسيء اختباره وفهمه، ولكني لم أجتهد أن أجعله رجلاً خارقاً خارجاً عن حدود الرجال الطبيعية أو شخصاً خيالياً يستحيل أن يوجد في عالمنا هذا أو في محيطنا القومي، بل إني اجتهدت كثيراً في انتقائه من بيئتنا فهو شخص منا وحيّ من أحيائنا، وقد عنيت عناية خاصة بوصف المكان والزمان اللذين حدثت فيهما القصة وتصوير المظاهر الشعبية التي رافقت حوادثها، فالدروس التي تتضمنها قصة «عيد سيدة صيدنايا» هي دروس في شخصية أحد أفراد الشعب وفي مظاهر الشعب العادية لا في المواضيع النظرية والفلسفية.
أما القصة الثانية فهي ذات موضوع حيوي دقيق له علاقة كبيرة بحياتنا الاجتماعية وآدابنا القومية. ويتناول موضوعها كبرى قضايا حياتنا الاجتماعية والقومية العصرية: الصراع بين عهد الخمول وعهد التنبه والنهوض، العراك بين الأنانية والخير العام، بين المادية الحقيرة والنفسية السامية، بين الحيوانية والإنسانية، بين الرذيلة والفضيلة، وبطلها «سليم» شخص ذو نفس فنية شعرية حساسة إلى الدرجة القصوى، كما بيّنت ذلك في بداءة القصة.
ضمَّنْت «فاجعة حب» انتقاد بعض عاداتنا وتقاليدنا القديمة ونظرة في بعض نواحي حياتنا الاجتماعية العصرية وبعض المسائل النفسية والمثالية. وقد تناولت فيها، عدا البطل، أشخاصاً آخرين كالسيدة «ك» والسيدة «و» والسيد «ج» وزوجه والشاب ميخائيل والآنسة دعد، واعتنيت كثيراً في انتقاء هؤلاء الأشخاص من مجتمعنا حتى ظهروا بصفات طبيعية لا تكلّف ولا خيال فيها. أما الحديث الموسيقي الذي أثبتّه في صدر القصة فهو درس خاص قصدت أن أشرح فيه خلاصة النظرية العصرية الراقية في الموسيقى وأغراضها، وعسى أن أكون توفقت في ذلك. وأعتقد أنّ نفسية سليم ودعد تمثّل ظاهرة نفسية جديدة في حياتنا الاجتماعية مختلفة كل الاختلاف عن النفسية البادية في جميع الأشخاص المحيطين بهما.
وقصدي الأول من هذه القصة أن أوضح الحالة المادية المسيطرة على عقولنا ونفوسنا حتى أننا نجبن عن مواجهة الحياة الفنّية ونفضل الخمول على المجازفة ببعض راحتنا، ونخاف كثيراً من الوقوع في صعوبات الحياة ومجابهتها، ولا نشعر أنّ للإنسان قيمة غير قيمته المادية. بل إننا دائماً مستعدون لقتل العواطف الحية من أجل تأمين راحة الجسد. ورأيت أن أبين فيها إغراق مجموعنا في إهمال فضائل كثيرة ضرورية لارتقاء نفسيتنا وعقليتنا ولو أدى إهمالها إلى القضاء على كل أمل لنا بحياة حرة راقية وكل مطلب أعلى تتجه نحوه بصائرنا.
ولا أكتم القارىء خشيتي من أن ينحى بعض الكتّاب الانتقاديين باللائمة عليَّ لجعلي القصة فاجعة انتصرت فيها الحيوانية على الإنسانية والرذيلة على الفضيلة، فعاكست بذلك المبدأ الذي اتبعه شكسبير في قصته الشعرية التي صدَّرْت «فاجعة حب» ببيت منها وهو: المبدأ القائل بضرورة تأييد الفضيلة وجعلها دائماً وأبداً منتصرة. والحقيقة أني أنا نفسي ترددت كثيراً في بادىء الأمر حتى كدت أتبع المبدأ المشار إليه ولكنني عدت فرجحت النظرية التي عملت بها وهي: أنّ انتصار الفضيلة الدائم في الأدب قد يقلل من أهمية الدعوة إلى نصرتها في الحياة. ولما أنعمت النظر في ظروف القصة وجدت الأسباب الروائية الخاصة بها والأمانة للواقع توجب جعل الختام على الوجه الذي وضعته، خصوصاً بعد أن درست حالة البطل سليم ووجدت أنه سابق زمانه بعقد أو عقدين من السنين على الأقل، فضلاً عن أنّ ظروف المحيط والبيئة تجعل النتيجة التي اخترتها أكثر انطباقاً على الواقع.
أرجو أن أكون قد أحسنت انتقاء الغاية وأصبت اختيار السبيل إليها.
المؤلف
»عيد سيدة صيدنايا«
Meine Laura! Nenne mir den Wirbel, Der an Koerper Koerper maechtig reisst! Neenne, meine Laura, mir den Zauber, Der zum Geist gewzltig zwingt den Geist!
Schiller
صيدنايا بلدة صغيرة بالقرب من دمشق، كل منازلها تقريباً أكواخاً بالمعنى الصحيح. وليس فيها بناء كبير يستحق الذكر سوى ديرها المشهور. وهو بناءً على شيء من الفخامة، مبني على ذروة تل تشرف على جميع الجهات التي حول البلدة القائمة في السفح. وليس في كل تلك الجهات موقع أجمل من موقعه (إنّ احتلال الأديرة أجمل مواقع البلاد لأمر بديهي عندنا. فالأديرة في بلادنا تقوم مقام قصور الأمراء والأشراف في البلدان الغربية). ويتألف دير صيدنايا من بناء صغير قديم جداً أضيفت أبنية جديدة إليه تدريجياً. والمعروف أنّ جزءاً هاماً منه أقامه بناؤون شويريون كانوا مشهورين بالهندسة والبناء.
ليست أكواخ صيدنايا على شيء من الرواء والرونق، فلا شجر ولا نبات يكتنفها، ولكن في السهل المنبسط عند أسفل التل بستان كبير فيه أغراس زيتون عديدة وأشجار جوز باسقة الأغصان وارفة الظلال، يرويه ماء نبع غزير، وتقوم فوق هضبة لا تبعد عن التل القائم عليه الدير، في أعلاها وسفحها كروم عنب وتين قليلة، وفي سفح هذه الهضبة مغارة تسمى مغارة «أم بزاز» (ذات الأثدي) ويعتقد أهل تلك النواحي أنها مقدسة ويعدّون الحج إليها من جملة الفرائض.
أما «أم بزاز» التي أطلق اسمها على هذه المغارة فهي قديسة قديمة ــــ هكذا يقولون ــــ أو هي سيدة صيدنايا. والقرويون يتناقلون عنها حكايات غريبة تدل على قوَّتها العجائبية ويوقدون لها الشموع ويوفون نذورهم لها على مذبح محفور في جانب المغارة إلى يمين المدخل. ولا يزال هؤلاء القرويون البسطاء يستدلون على صحة حكايات القديسة وعجائبها بوجود مكان معيَّن في قبة المغارة يرشح منه ماء، قطرة كل ثلاث دقائق تقريباً، يجدون في انتظام رشح الماء على الوصف المتقدم رمزاً لقوة أم بزاز السحرية. ومع أنّ تعليل رشح الماء سهل جداً نظراً لوجود الماء على الهضبة فإن القرويين يرون في رشحه من مكان معيّن سراً مختصاً بالسيدة أم بزاز، وهم يتبركون بقطرات الماء حتى أنهم وضعوا تحت المكان الذي ترشح منه حجراً يقعد عليه من أراد التبرك ويتقبل قطرة الماء على جبينه.
يؤم صيدنايا في عيد السيدة خلق كثير من أنحاء كثيرة من القطر السوري: من دمشق العاصمة، أقدم مدينة موجودة في العالم؛ ومن حلب وإنطاكيا والإسكندرونة وحمص الغنيات بآثارهن التاريخية؛ ومن جبيل أو بيبلوس القديمة، مدينة الإله أدونيس؛ ومن بيروت عروس المتوسط مدينة عشتروت القديمة ومنارة العلم في الشرق الأدنى قديماً وحديثاً؛ ومن صيدا وصور المدينتين الخالدتي الأثر في تاريخ المدنية والعمران؛ من حيفا ويافا والقدس منائر الجنوب؛ ومن قرى لبنان الجبل الجميل الفخم؛ وبقية البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. فيجتمع في العيد المذكور خلق كثير لا من المسيحيين فقط بل من المحمديين أيضاً لأن عيد صيدنايا يتخذ صفة عيد شعبي لسكان تلك المنطقة، فيبتهج فيه الشعب على اختلاف نحله، الأمر الذي ينبهنا إلى الفائدة الاجتماعية الجليلة التي يجنيها الشعب السوري كله من جعل الأعياد الدينية المحمدية والمسيحية الكبرى أعياداً شعبية يوحد فيها السرور والابتهاج عواطف جميع السوريين ويجعلهم يشعرون بوحدتهم القومية والاجتماعية.
يبتدىء القوم يتقاطرون إلى صيدنايا، قبل العيد بأيام، ثم تفد جموعهم في اليوم السابق للعيد ويوم العيد الأول (مدة عيد سيدة صيدنايا ثلاثة أيام) وهم يستخدمون وسائل النقل العصرية كالسيارات والدراجات النارية بدلاً من العربات والخيل والحمير وغيرها التي كانت تستعمل قبلاً حتى عهد قريب. وطريق صيدنايا سهلة غير أنه لا يزال قسم منها غير معبّد فكلما مرت سيارة أثارت غباراً، ولكن القادمين قلّما يبالون بالغبار فلا ينتصف نهار العيد الأول إلا وغرف الدير وكنيسته وساحاته الداخلية وسطوحه قد غصّت بالجموع ولم يعد فيها متسع للجموع الأخرى التي لا تنقطع وفودها كل ذلك النهار، فيحدث هرج ومرج عظيمان تضطرب لهما البلدة الصغيرة. وبينما الجماهير في غدوّ ورواح إذا بالشبان يؤلفون فرق «العراضات» التي تتجول في كل مكان ويملأ هتافها كل تلك الناحية. أما أهل البلدة فبعضهم ينصرفون إلى إعداد بيوتهم لنزول القادمين الذين يضيق بهم الدير على رحبه، والبعض الآخرون يعدّون المآكل من لحم مشوي وبيض مسلوق وخبز وجبن وزيتون أو يجيئون بالعنب والتين وأنواع البزور إلى الدير ليبيعوها للزائرين. ويدور في الدير رقص «الدبكة» فيؤلف الرجال حلقاتهم وتؤلف النساء حلقاتهن. ولا يخلو الأمر من جاهل أو أحمق لا يعرف آداب السلوك والمعاشرة أو هو يعرفها ولا يعرف أن يحافظ عليها فيكون سبباً في تشويه العيد على القوم وعلى نفسه.
وأهم ما يسترعي انتباه الزائر القادم إلى العيد لأول مرة من شؤون الخلق المزدحمين هناك، ملابس القرويات وحللهن الخاصة بالأعياد. فللقرويات السوريةت حلل زاهية الألوان، بديعة المنظر حتى أنه يحق لهن أن يباهين بها قرويات العالم في سلامة الذوق وجمال المنظر. وملابس قروياتنا إجمالاً جميلة ولها رونق الزيّ القومي، بيد أنّ قرويات معلولا يمتزن بزي خاص هو من أجمل أزيائنا القروية القومية وبقية زيّ القرويات السوريةت القديم الأصلي.
قلت إنه لا يخلو الأمر في الحوادث الشعبية، مثل عيد سيدة صيدنايا، من جاهل أو أحمق يعكر بسوء تصرفه صفو الأفراح. والظاهر أنّ الجهال والحمقى لا يتركون فرصة تمر دون أن يغتنموها لإظهار جهلهم وحماقتهم، فاجتمع منهم في عيد سيدة صيدنايا سنة 1930 عدد غير يسير، إلا أنّ واحداً منهم امتاز عنهم بجرأته وإقدامه وجعل للحادث التالي أهمية روائية ما كان ليكتسبها لولا الأعمال المسرحية والأدوار التمثيلية التي أتاها:
كان بين القادمين إلى دير صيدنايا في عيد السنة المذكورة شاب من لبنان ربعة إلى الطول، مرير القوى، مسمور الجسم، في قامته استقامة الرمح، ذو صدر يشبه بارتفاعه برجاً حصيناً، وهو مستوي الوقفة، معتدل الخطوة ولعينيه بريق تظهر فيه قوة روحه، وهيئته إجمالاً تدل على أنه غير ميال كثيراً إلى الهزل. بيد أنه كان يحب مشاهدة الألعاب ويسر بها سرور الطفل، والناظر إليه يدرك لأول وهلة أنه ليس من الذين ذهبت أخلاقهم وفسدت طباعهم من شبان هذا العصر الذين لم يحصلوا حين نشأتهم على تربية عائلية اجتماعية صحيحة، ولا من الذين أنشبت مخالبها بهم المشارب القديمة الفاسدة التي لا تجرّ على من يتمسك بها في القرن الحاضر إلا الوبال. كانت نفسه بسيطة وكان في مقتبل العمر، وأسميه إبراهيم ــــ لا أريد أن أدعوه باسمه الحقيقي ولا أن أذكر إسم البلدة التي جاء منها لكيلا تتحول الحكاية إلى أمر شخصي وتفقد صفة الواقعة الروائية المقصودة. ومن المؤكد أنّ إبراهيم لم يأتِ إلى صيدنايا للقيام بفروض كنسية لأنه كان يحب الله والطبيعة حباً خالياً من الرهبة التي تدعو إلى السجود وتقديم القرابين، ويهرب من الطقوس، ورغبته الوحيدة كانت أن يشترك في العيد ويرى مظاهر جديدة من مظاهر قومه الشعبية، لذلك كان إعجابه بالمشاهد الكثيرة التي وقعت عليها عيناه المتقدتان شديداً، بل كان ابتهاج الطفل يبدو على وجهه كلما رأى حلل القرويات المزركشة الزاهية.
لإبراهيم في بلدته سيرة بطولة مشهورة يعرفها كل الذين يهتمون بتناقل سِيَر الأبطال، وكان الشبان الذين يعرفونه ينظرون إليه نظرهم إلى مثال فخم لقوة الجسد والروح، حتى أنه إذا وُجد بينهم وخطر لهم أن يدخلوا على الأسود في عرائنها، أو أن يتصدوا لمحاربة جيش مسلح ولا سلاح لهم إلا العصي، أقدموا موقنين بالفوز. وفيما سوى ذلك كان هذا الشاب مشهوراً بغرابة الأطوار، من ذلك أنه كان يكره الظهور ويأنف من عرض قوته البدنية العظيمة على الناس فخالف بذلك عادة الفتيان الذين لا يكادون يطمئنون إلى شيء من القوة في عضلاتهم حتى يعمدوا إلى إظهاره والمفاخرة به. وكان يبتعد عن مخالطة الناس خصوصاً الجنس اللطيف، فكان يفارق كل مجلس يضم سيدات أو آنسات، ويعرض عن الحسان اللواتي كن يخفين في صدورهن شوقاً لاعجاً للاجتماع به، مثيراً كوامن غيظهن بعدم مبالاته وعبثه حتى أخذن يتناقلن عنه حكايات مختلفة، القصد منها الحط من شأنه. وشاركهن في غيظهن كل الشبان الذين كانوا يحسدونه لعلوه عن مستواهم في القوة البدنية وقوة الإرادة، فجعلوا يذيعون عنه حكايات قصدوا منها أن يطعنوه في رجولته، أما هو فكان يترفع عنهم ويمر بأقاصيصهم مرور الكرام، ومع ذلك لم يرَ بداً من تأديب واحد أو اثنين ممن بلغت بهم الوقاحة حداً حملهم على الاقتناع بما كانوا يختلقونه عنه.
مما يجب ألا يغفل ذكره هنا أمر له علاقة كبيرة بنهاية هذه القصة، وهو أنّ إبراهيم سُئل مرة كيف يجب أن تكون امرأته فيما لو أراد أن يتزوج؟ وكان السائل صديقاً حميماً لإبراهيم فأجابه أنه يرى انتخاب امرأة صحيحة الجسم، قوية البنية، مليئة، مكتنزة، مورّدة الخدين، وافرة العقل، حسنة المدارك، تعرف كيف تدير شؤون بيتها ويكون من صحتها صحة لأولادها.
دخل إبراهيم الدير وأخذ يتجول في باحاته وأروقته ويتنقل على سطوحه. ثم إنه أشرف على أحد السطوح ليراقب ما يجري في الباحة الكبيرة التي أمامه. فوقعت عينه على حلقة «دبكة» في وسطها، مؤلفة من فتيات قرويات والجمع يحدق بها من جميع النواحي حتى صارت حلقة ضمن حلقات. وبينما هو يتمتع بمرأى حلقة الرقص إذا بإحدى الراقصات تنفرد عن رفيقاتها وتدخل وسط الحلقة وتأخذ في رقص فردي مبتكر، بينما رفيقاتها يتابعن الدبكة حولها. وكانت الفتاة معتدلة القد هيفاء القوام، تلعاء الجيد، أسيلة الخد، ذلفاء الأنف، حوراء العينين، وطفاء الأهداب. وكانت لابسة حلة أرجواني، شادّة وسطها بنطاق مذهب، معلقة في أذنيها الصغيرتين قرطين كبيرين تتدلى منهما قطع نقود ذهبية صغيرة، لافة شعرها بمنديل تتعلق به قطع نقود فضية ومن فوقه وشاح أبيض مسدل على ظهرها. لم يكن إبراهيم قد رأى من قبل راقصة مثل هذه ولا فتاة شبيهة بها، فأعجب مبرآها أيما إعجاب وأخذ يتأمل قدّها الجميل وهيأتها اللطيفة ويراقبها في خطوها وتنقلها وسرعة دورانها ورشاقتها في انحنائها وتمايلها، صفات تتجلى فيها قوة عاطفتها وشدة إحساسها. وكانت بين حين آخر ترفع رأسها بشمم واعتزاز وتلقي على ما حولها ومن حولها نظرات فيها كل معاني عدم المبالاة.
وقف صاحبنا ينظر إلى هذه الراقصة برغبة عظيمة وارتياح تام، ولأول مرة في حياته شعر بخفقان في قلبه وأحس حرارة شديدة تغشى سطح بدنه دون أن ينتبه إلى هذه الحالة الجديدة التي صار إليها. ولو رآه على هذه الحالة من يعرفه جيداً لعجب كثيراً من استئناسه بمرأى الفتيات وإعجابه بمظهر الراقصة الحسناء، وهو الذي كان يهرب من النساء ومن كل مجتمع نسائي هرباً، ولا يرغب في أن يرى منهن إلا من كانت ممتلئة البدن.
لا شك في أنه لو انتبه إبراهيم إلى نفسه في هذه الآونة ورأى الحالة التي هو عليها، لكان أخلى مكانه بغاية السرعة وهرب جرياً على عادته، وهزأ من نفسه كيف أطاق أن يطيل النظر إلى حلقة من النساء، ويبتهج بمرأى فتاة غريبة جداً عن نوع الجمال الذي كان يملأ تصوراته، ولكنه لا ينتبه قط لأن الراقصة كانت آية في الذوق والإبداع ولها مدلولات نفسية تثير كوامن الشعور. لم يكن هو الوحيد الذي ترك كل شيء آخر وأقبل لمشاهدة الراقصة الأنيقة، بل إنّ الباحة التي كانت ترقص فيها كانت كلها أعناقاً متطاولة نحوها.
أخيراً أتمّت الراقصة رقصها الفردي فأقبلت عليها رفيقاتها يهنئنها وسط عاصفة من التصفيق توردت لها وجنتاها. أما إبراهيم فبقي في مكانه لا يصفق ولا يهتف ولكن عينيه كانتا تراقبان ما يجري في الأسفل باضطراب وقلق. فإن فريقاً من الجمهور المزدحم في الباحة، مؤلفاً من أولئك البلهاء الذين يظنون الفطنة كل الفطنة في انتهاز مثل هذه الفرصة للتلذذ بأتفه الملذات وأحقرها كملامسة أجساد الفتيات والنظر إلى وجوههن عن كثب بوقاحة وصلابة جبين تظهر فيهما الغريزة الحيوانية بوضوح تام، أطبق على الراقصات وضرب حولهن نطاقاً ضيقاً أصبح اختراقه من الصعب عليهن، إذا لم يكن من المستحيل، فتضايقن جداً وعبثاً نظرن إلى من حولهن نظرات ملؤها التضرع. وكان بين الجمع شاب أخذ يشق طريقه نحو الفتيات وعليه دلائل الجذل الممزوج بالخبث. فاغتاظ إبراهيم جداً من هذه الحال، خصوصاً من الشاب الذي كان يتقدم نحو الفتيات وليس في هيئته ما يدل على أنه يقصد الإفراج عنهن، ولم يتمالك أن انحدر إلى الساحة وطلب من جمهور الرجال الواقفين هناك أن يفسحوا له مجالاً للتقدم، ولما رأى أهم قابلوا طلبه بعدم الاكتراث ابتدأ يجذب بعضهم ويدفع آخرين بقوّته المكارتية حتى شقَّ لنفسه بين الجمع طريقاً عريضة كافية لمرور شخص واحد دون انزعاج. فلما بلغ المكان الذي انحصرت فيه الفتيات كان الشاب الذي انسل بين الجمع قدامه وقد سبقه وجعل يحادث الراقصة الحسناء بتودد. أما هي فامتعضت من وجوده وازدادت اضطراباً لما رأت مضايقة القوم لها ولرفيقاتها، فلما رأت إبراهيم مقبلاً والرجال تتطاير من يديه ذات اليمين وذات اليسار، دهشت دهشاً عظيماً ثم إنها لم تلبث أن أدركت أنه آتٍ للإفراج عنها وعن رفيقاتها فأكبرت نخوته وشجاعته. فتقدم إبراهيم إلى هذه الفتاة ووقف لحظة يبادلها النظر وهو لا يدري ماذا يفعل، وكأن الفتاة أيضاً لم تكن تدري ماذا تفعل، ثم خاطبها قائلاً: «أيتها الآنسة، إنّ الطريق مفتوحة لك ولرفيقاتك»، فأجابته بصوت خريد، وقد تضرج خداها: «إني أشكرك من كل قلبي فإنك قد أنقذتنا وحدك»، وعلى الأثر غضت نظرها وانطلقت في الممر الذي افتتحه إبراهيم وسارت رفيقاتها في أثرها.
أما إبراهيم فإنه بقي في مكانه مبهوتاً حائراً وكان قد همّ أولاً بالإجابة على شكر الفتاة ولكن عواطفه كانت أقوى من آداب المجاملات فلم يُسْعِدْهُ النطق ولم يعد يعرف كيف يتصرف لأن هذه اللقاء ربَّك رأيه تربيكاً.
بيد أنّ حيرة إبراهيم لم تستمر طويلاً، لأن الشاب الآخر الذي ظل لحظة واقفاً يحرق الأرم على إبراهيم لقطعه عليه ما كان آخذاً فيه، تحرك بغتة من موقفه وهمَّ باللحاق بالفتاة التي لما تكن قد توارت عن النظر، فنبّه تحركه إبراهيم فمدّ إليه يده القوية بسرعة البرق وجذبه إلى الوراء وصاح بها بغضب: «إذا كنت لا تترك مطاردة الفتيات فقد تقع في ورطة يعسر عليك الخروج منها». وكانت صيحته قوية إلى حد أنّ الفتاة سمعتها فالتفتت إلى ورائها ورأته قابضاً على عضد الشاب فكرّت عائدة ملهوفة وخاطبته بتضرع قائلة: «سامح هذا الشاب واخلِ سبيله لأنه لا يدري ما يفعل!» فتركه إبراهيم وقد دهش لتصرف الفتاة التي لم تكد ترى يده رجعت حتى أخذت بساعد الشاب وحاولت أن تجرّه وهي تقول «تعال! عجّل!» ولكن هذا بدلاً من أن يتبعها نظر إلى إبراهيم شزراً وقال له: «سنلتقي مرة أخرى في هذا المساء وحينئذٍ أريك كيف تكون نتيجة تعرضك لما لا يعنيك» وأفلت على الأثر من الفتاة وسار منفرداً. وكان كلما بعد عن المكان ازداد رأسه التهاباً وقلبه حقداً.
حينئذٍ نكست الفتاة رأسها ورجعت مسرعة من حيث أتت كمن يريد الهرب من شيء يخشاه. وبقي إبراهيم في مكانه وهو ما كاد يستفيق من ذهول حتى عاجله ذهول أشد منه، ولكن لغط الناس حوله نبهه فرفع رأسه ونظر إلى الجمع بعينين ضاقت الدنيا بهما ثم سدد خطاه نحو الممر المؤدي إلى الخارج وسار والناس تتراجع من طريقه كما من أمام جبار أو أمير.
لم يكن قد بقي لغيوب الشمس سوى ساعة أو أكثر قليلاً. ولم يكن إبراهيم يدري لِمَ أراد الخروج من الدير ولا إلى أين يتوجه، ولكنه لما صار في الخارج استرسل إلى إحساسه وهام على وجهه بين الهضاب التي بجانب الدير ورأسه مثقل بالألغاز والأحاجي وكل ما مرَّ به كان يبدو له معميات: من تكون تلك القروية الحسناء؟ ومن يكون ذلك الشاب وما شأنه معها؟ ولكن لماذا يقلقني ذلك وما يعنيني أنا من أمر الإثنين، ولماذا يجب أن أفكر دائماً بتلك الفتاة؟ وكان كلما حاول أن يضعف من شؤون هذه المسائل ازداد قلقه لها وشعر أنها مسيطرة على شعوره حتى أيقن أنه لا يمكنه أن ينساها مهما بدت له عادية أو تافهة، فحاول أن يسري همه بالانتباه إلى طبيعة الأرض التي يمر بها، وإذا به يرى نفسه تجاه كهف محفور في منحدر الهضبة، وشاهد ناساً واقفين عند مدخله وآخرين في داخله. فاقترب من صبي كان آتياً من جهة الكهف وسأله عن شأن الناس المجتمعين هناك فأجابه الصبي: «هذه مغارة القديسة أم بزاز والناس يأتون لزيارتها».
ولم يكد إبراهيم يسمع ذلك حتى شعر برغبة شديدة في دخول الكهف والوقوف على ما فيه. ولم يتردد لحظة واحدة في تحقيق هذه الرغبة. فلما صار في داخله لم يجد فيه شيئاً غير عادي عن الكهوف التي تكثر في مناطق البلاد الجبلية سوى المذبح الصغير في جانبه الأيمن. وكان في الكهف بعض النساء ينتظرن فتاة قعدت تحت مرشح الماء تتوقع حلول بركة القديسة عليها، وشاهد إبراهيم قطرة الماء تسقط على جبينها وكيف أنّ النساء ابتهجن لذلك. فاكتفى بما شاهد واقتلع من سقف الكهف حجرين صغيرين للذكرى وتحول إلى المخرج ولكن امرأة كانت واقفة هناك استوقفته قائلة: «تبرَّك أولاً ثم أخرج لأنه لا يحسن أن يزور إنسان هذا المكان ويعود بدون بركة القديسة»، ولكن إبراهيم انحاز عنها وقفز إلى الخارج وعاد في طريق الدير.
وفيما هو في الطريق عاد يفكر: «إنّ ذلك الشاب قال لي إننا سنلتقي في هذا المساء، فكيف يعلم أننا سنلتقي؟ قد يخطر لي أن أغادر صيدنايا الآن ومن ثم لا نعود نلتقي. ولكن لِمَ أبرح هذه البلدة؟ أيوجد ما يضطرني إلى ذلك؟ ثم ماذا سيحدث في هذه العشية؟ أهو شيء جديد، غريب يعرض لي لأول مرة؟ ــــ أفٍّ لهذه الوساوس. وهل يمكن أن أكون قد أمسيت عرضة لها؟».
لما بلغ إبراهيم الدير كانت الشمس قد توارت منذ بضع دقائق وأخذ الليل يرخي سدوله، فإنه كان ليلاً داجياً.
وكانت ساحات الدير الداخلية قد أنيرت بقناديل البترول والجموع لا تزال على حالها من الازدحام والهرج والمرج، إلا القروية الحسناء فإنها لم تعد تظهر لهم. فسار إبراهيم في ذلك المحيط الخضم على غير هدى ودخل أحد الأروقة وكانت قاعة الطعام في آخره، فرأته إحدى الراهبات ودعته إلى العشاء، ولكنه لم يكن يشعر بميل للأكل فشكر واعتذر، وتحوّل إلى ممر قريب قامت في وسطه غرفة صغيرة كان بابها مفتوحاً قليلاً، وفيما هو يجتاز هذا الباب سمع من داخل الغرفة صوتاً رخيماً أدرك حالاً أنه صوت الراقصة القروية فتوقف عن غير عمد وطرقت مسامعه الكلمات الآتية: «لا تكن عنيداً يا جرجس، فيكفيني أن أكون قد تدخلت من أجلك أصيل هذا النهار. لا تنسَ أنّ أمك مريضة وأنه يجب عليك أن لا تجعلني سبباً للشر. وأنت قد توعدت شاباً كريم الأخلاق دافع عنا وأخرجنا من المأزق الحرج الذي كنا فيه، وهو شاب قوي يُخشى منه ولا يُخشى عليه فلا تتعرض له».
فأجابها المخاطَب: «إذا كان الشاب قوياً فإن ضربة سيفي لا ترد. وسترين صدق قولي».
فأسرع إبراهيم بالابتعاد، موبخاً نفسه على وقوفه عند الباب كمن يتعمد استراق السمع، وصعد إلى أحد السطوح وقد خطر له أن يغادر صيدنايا في الحال، ولكنه عاد ففكر: «لماذا يجب أن أغادر صيدنايا، وهل من عادتي أن أهرب؟ ولكن ما هذا القلق المستولي عليّ ولم أعهد في نفسي شيئاً من ذلك من قبل؟» وبعد أن هدأ روعه قال في سره: «من تكون هذه الفتاة؟ إنها تقول إني أُخشى ولا يُخشى عليَّ». عند هذا الخاطر ابتسم ولم يشأ أن يطيل التفكير فأخذ يجول ويتنقل من سطح إلى ساحة ومن ساحة إلى سطح لعله يزيل ما به من حيرة.
وبينما هو في جولاته إذا بفتى لا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره ، جميل الطلعة، حسن الهندام، معتدل القامة، شديد الأسر قبض على ساعده في إحدى الساحات وصاح به: «ما الذي جاء بك إلى هنا يا إبراهيم؟ إنها والله لصدفة تستحق التسجيل»، فالتفت إبراهيم ليرى من ذا الذي أمسكه ومرت عليه بضع ثوانٍ قبل أن يتمكن من استرداد أفكاره الشاردة، ثم ظهرت عليه علائم البِشْر وقال: «آه. هذا أنت، يا رشيد! مرحباً، مرحباً. لقد جئت أنا لحضور العيد وأنت ما الذي جاء بك؟».
ــــ «وأنا أيضاً جئت لحضور العيد ولكني جئت على ميعاد وأرجو أن يكون مواعدي قد حضر. وإني أشكر التقادير التي جمعتني بك الآن لتكون شاهداً على ما سيجري».
ــــ «ماذا سيجري؟» وتسارعت الخواطر في دماغ إبراهيم.
ــــ «سيجري ضراب بالسيف، مبارزة حكمية أنا أحد المتنازلين فيها. ويسرني كثيراً وجودك هنا، فقد لا يكون هنا أحد غيرك صديقاً وخبيراً بهذه اللعبة الخطرة».
ــــ «من خصمك؟».
ــــ «أرجو أن ألتقي به قريباً فهل لك أن تصحبني؟».
ــــ «بطيبة خاطر، ولكن ما هذا الميعاد الغريب للمبارزة؟».
ــــ «إنّ لذلك حكاية لا مجال لقصها عليك لآن، وقد تأتي فرصة أخرى لذلك، هلمَّ نصعد إلى السطح».
فصعد الإثنان إلى أحد السطوح وجعلا يتسامران وكان رشيد لا يغفل عن مراقبة الساحة التي تحت، وبغتة توقف وأمسك رفيقه وهزّه قائلاً: «أنظر إلى ذلك الشاب الذي يخوض عباب الجمع هناك! هذا هو خصمي، إنه ولا شك يبحث عني فهلم بنا نلاقه».
فنظر إبراهيم ورأى شاباً ما عتم أن عرف أنه نفس الشاب الذي توعده في النهار. فبهت لهذه الصدفة المفاجئة وتبع رفيقه وهو يتمتم لنفسه: «إنه من لاعبي الحكم ويبارز في الليل على ميعاد، وأمه مريضة ولكنه لا يعبأ بها ويوجد فتاة تتدخل من أجله وتنصحه من أجل أمه ومع ذلك يظل على عناده».
عندما لاقى رشيد خصمه ابتدره قائلاً: «لقد كدت أتأخر عن المجيء لأسباب، وأرجو أن لا يكون الميعاد قد فات».
فأجابه ذلك وهو ينظر إلى إبراهيم متعجباً من وجوده: «لما يفت الوقت، بل لا يزال أمامنا نحو نصف ساعة يمكننا أثناءها أن ندرس المكان ونعين الحكم».
فقال رشيد: «إسمح لي أن أقدم صديقي إبراهيم إليك فهو غير مشهور في عالم الحكم ولكنه أبرع من انتضى سيفاً»، والتفت إلى إبراهيم وقال له: «أقدم إليك السيد جرجس أحد البارعين بضرب السيف».
فانحنى إبراهيم وانحنى الشاب ولكنهما لم يتصافحا. وسار الثلاثة يبحثون عن مكان موافق للمبارزة إلى أن اهتدوا إلى باحة صغيرة منعزلة واقعة في القسم الخلفي من الدير، معلق في وسطها قنديل غازي نوره كافٍ لإنارة المكان. ثم إنّ جرجس قدَّم رجلاً عارفاً بأبواب الحكم ورشحه للقضاء بينه وبين خصمه فقبله رشيد، وزاد جرجس أن يكون لإبراهيم الحق في مراقبة المبارزة بما أنه ممن يحسنون الحكم. بعد ذلك افترق الخصمان فذهب جرجس مع الرجل الذي رشحه هو ليكون حكماً وانصرف رشيد برفقة إبراهيم. فقال إبراهيم: «إنها المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها مثل هذه الألغاز».
فأجابه رشيد: «سترى أنّ للألغاز لذتها. بل أنت تعلم ذلك لأن حياتك كلها ألغاز بألغاز. ألم تقم مرات كثيرة بأعمال غريبة كان يعدّها الناس ألغازاً، ولكنك أنت كنت تعدّها شيئاً طبيعياً بديهياً؟ إني أقتبس من نورك وأقتفي خطاك، وأعلم أنّ الغازي ليست شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى ألغازك، وأرى أنّ ألغاز حياتك المقبلة ستكون أعظم من ألغاز حياتك الماضية».
لم يجب إبراهيم على كلام صديقه، إما لأنه وجده مصيباً أو لسبب آخر لم يرد إظهاره. وصمت رشيد أيضاً لأنه كان عليه أن يستعد للمبارزة. ودخل الإثنان إحدى الغرف حيث نزع رشيد ثيابه المدنية ولبس بدلاً منها ثوباً بسيطاً تسهل معه حركة جسمه واحتذى نعلاً خفيفة، ثم أخرج من حقيبة مستطيلة كان يحملها معه سيفاً وترساً، يبدو حالاً من مظهرهما أنهما خصوصيان فجرّد السيف وجعل يمتحن حده وأداره في الهواء عدة مرات لتمرين ذراعه، وأعاده على الأثر إلى غمده وتأبطه وحمل الترس و التفت إلى صديقه وقال:
«ها أنا حاضر للقتال فكيف تراني؟».
ــــ «أراك نشيطاً وفي حالة حسنة، ولكنك لم تقل لي إلى أي حد من الخطر ستبلغ المبارزة؟».
ــــ «إلى الحد الأخير».
ــــ «وهل هذا التصميم نهائي لا رجوع عنه؟».
ــــ «إنه نهائي إلى النهاية». ونظر إلى ساعته وقال: «هيا بنا فقد حان الميعاد». وخرج من الغرفة وتبعه إبراهيم صامتاً.
ولما بلغا الساحة المعينة وجدا أنهما الأولان للقدوم ولم يكن هنالك جمع غفير، فجعلا يتمشيان ذهاباً وإياباً ويتكلمان عن أشياء تافهة وأمور لا محل لها، قتلاً للوقت، إلى أن قَدِم الإثنان الآخران فاستقبلاهما وتفاهموا على بعض النقط المتعلقة بالأصول المتبعة في الجلاد بالسيف، ثم اتخذ كل من الخصمين مركزه مقابل الآخر، و اتخذ الحكم موقفه، ووقف إبراهيم في طرف الساحة عند متوسطها، وأعطى الحكم الإشارة فتناول المتنازلان سيفيهما وترسيهما وشرعا يتجاولان من بعيد تمهيداً لالتحام.
ما كاد سيفا المتبارزين يلمعان على ضوء القنديل ويقبقبان على الترسين حتى أقبل الجمع وضربوا نطاقاً عند مدار الساحة وشعر القوم على السطوح بما يجري فأشرفوا من كل مكان مناسب. واشرأبت الأعناق وأمسى المتضاربان قبلة الأنظار وكان الناس يظنون أنهما يلعبان السيف من قبيل اللهو.
تجاول الخصمان حتى سبر كل منهما غور الآخر ثم تقاربا والتحما وسمع لسيفيهما طرق متكرر على الترسين، ولكن لم ينل أحدهما من الآخر منالاً فأشار الحكم بالتراجع فتراجعا ثم عادا إلى التجالد بين كر وفر، وفي هذه الأثناء أصاب سيف جرجس صدر رشيد فجرحه. ولاحظ إبراهيم أنّ جرجس يستعمل في التسايف ضروباً لا يستعملها من عنده شيء من كرامة وآداب السيف، بعكس رشيد الذي كان نزيهاً في كل أبوابه، يجيب على ضربات الغش المسددة نحوه بضربات صريحة، فصبر على هذه الضربة الأولى. ولكن لم يطل الوقت حتى عاد جرجس فجرح رشيداً في كتفه جرحاً بالغاً مستعملاً نفس الضروب المعيبة لرجال السيف، فلم يطق إبراهيم صبراً على ذلك، خصوصاً بعد أن رأى الحكم لا يتدخل وصديقه أشرف على حالة حرجة فقفز إلى وسط الساحة وحال بين الخصمين في الوقت المناسب لمنع ضربة أخرى قوية كان جرجس يهيئها، وصاح بهذا: «ليس هكذا يستعمل أهل السيف سيوفهم».
فاستاء جرجس جداً من حؤول إبراهيم بينه وبين خصمه وأجابه: «إذا كنت تدّعي معرفة استعمال السيف أحسن مني فجرب نفسك!».
فأجابه إبراهيم وقد نسي أفكاره السابقة: «حذار يا هذا فإنك تعرّض نفسك للإهانة».
ــــ «إنّ من يعرّض نفسه للإهانة هو أنت فكن على حذر». قال جرجس هذا وهز حسامه وتراجع بضع خطوات إلى الوراء داعياً مخاطبه إلى المبارزة. فثار ثائر إبراهيم الذي لم يتفق له فيما مضى أن يصبر على وقاحة وقح إلى هذا الحد، فأخذ رشيداً إلى جانب وهو في حالة: نزف شديد وأخذ حسامه منه وأقبل على جرجس بغير ترس وعيناه تقدحان شرراً من شدة الغضب. ثم إنه لاعب سيفه مرسلاً منه بريقاً كوميض البرق وحمل على خصمه والتحم معه توّاً فدافع هذا عن نفسه بالترس وحاول أن يرد الضربة ضربة ولكن سرعة دوران سيف إبراهيم عرقلت حركة سيفه وأبطلت أبواب خداعه. وافترق الخصمان وقد أصيب جرجس في كتفه الأيسر وجرح جرحاً غير بالغ. وفيما إبراهيم يجول ليعيد الكرّة على منازله إذ حانت منه التفاتة إلى جانب ووقع نظره على الراقصة التي شغلت قلبه وسلبت لبه وكانت تراقب ما يجري بوجه يدل على مبلغ جزعها. والتحم المتضاربان مرة أخرى وسمع لسيفيهما صليل وقبقبة وحانت لإبراهيم فرصة يدرك كل من يعرفه أنها قاضية له، ولكنه بدلاً من أن يهوي بسيفه على منكشف منازله تباطأ كمن يشعر بارتخاء ساعده، وكان جرجس قد سدد ضربة شديدة إلى عنقه فمال عنها واعترضها بكتفه فجرحته جرحاً بالغاً، وقبل أن يتمكن الإثنان من العودة إلى الالتحام ركضت الراقصة ووقفت بينهما وأسرع الناس وكفوهما عن القتال. وأقبلت إحدى راهبات الدير لترى ما الخبر فلما رأت إبراهيم ورشيداً والدم يسيل منهما قادتهما إلى غرفة وأحضرت راهبتين أخريين ساعدتاها على ضمد جراحهما. ورأت ما حلّ بإبراهيم بعض النساء اللواتي التقين به في مغارة «أم بزاز» وحالاً سرى بين القوم الاعتقاد بأن القديسة أم بزاز قد اقتصت لنفسها من هذا المتكبر الذي لم يشأ أن يطلب بركتها.
واتصل الخبر حالاً برجال الدرك المرسلين خصيصاً لحفظ الأمن أثناء العيد، فأسرع إثنان منهم للوقوف على جلية الأمر، وكانا أرمنيين لا يحسنان التكلم بالعربية. فأقبلاً على الجريحين المضطجعين في سريرين قدمتهما لهما راهبات الدير، واقترب أحدهما من إبراهيم، الذي جعل ينظر إليهما باستياء شديد، وسأله: «مين بيضرب إنتِ؟» وتقدم الآخر إلى رشيد وسأله: «مين بيضربِك إنتِ؟» فنسي إبراهيم جرحه واستغرق في الضحك. ولم يتما لك رشيد عن متابعته، ولكن لما أعاد الدركيان سؤاليهما نفذ صبر إبراهيم فصاح بهما بصوت دوت له الغرفة: «أخرجا حالاً من هنا! وإلا...» وحاول النهوض. ولكن ما كاد الدركيان يسمعان صيحته الشديدة حتى أسرعا بالخروج وعادا إلى المركز، حيث قدّما إلى الرئيس السوري تقريراً لم فهم منه شيئاً ولكنه أظهر اكتفاءه به.
بعيد ذلك جاءت رئيسة الدير فتفقدت حالهما وأوصت بالعناية بهما وقبل أن تترك الغرفة ابتهلت إلى الله أن يرد عنهما الخطر.
أخيراً خلت غرفة الجريحين من الناس فالتفت كل منهما إلى الآخر وهو يبتسم وقال رشيد: «منذ هنيهة قلت لي يا إبراهيم إنّ ما قد قمت به لغز. وأنا نفسي كنت أعتقد أنه أعظم لغز ولكني وجدته لا يستحق الذكر بالنسبة إلى ما قد فعلته أنت، فقد كدت تترك الرجل يقضي عليك، في حين أنّ الضربة كانت لك لا له. وهذا أغرب ما رأيته منك».
فأجابه إبراهيم: «أوَلم تقل لي إنّ للألغاز لذتها، فهل ابتدأت تشعر بها كما أشعر أنا بها الآن؟».
قبل أن يتمكن رشيد من الإجابة فتح الباب ودخلت منه القروية الراقصة واقتربت ببطء من سريري الجريحين ووقفت عند مضجع إبراهيم، وكان إبراهيم ينظر إليها ساكناً متعجباً، لأنه لم يكن ينتظر مجيئها، فنظرت في عينيه وقالت بصوت خافت: «قد رأيت وفهمت... كيف جرحك؟».
ــــ «إنه با لغ ولكنه ليس خطراً» أجاب إبراهيم وهو لا يزال ينظر في عينيها كأنه يرى فيهما لغزاً يريد أن يستجليه.
ــــ «أشكرك وأتمنى لك شفاءً سريعاً» قالت ذلك وتحولت إلى رشيد وسألته: «وأنت أيها السيد كيف جراحك؟».
ــــ «لا أظن أنها ذات بال، شكراً لك».
ــــ «شفاك الله عاجلاً». ثم نظرت إلى إبراهيم طويلاً وعادت أدراجها مسرعة. فشيَّعها الإثنان بأنظارهما إلى أن توارت وراء الباب ولم يعودا ينبسان ببنت شفة.
بعد قليل كان رشيد قد نام، أما إبراهيم فأصيب بأرق شديد وهواجس منعته من النوم، فاستلقى وأطلق فكره في مجال التصورات وكان، بين حين وآخر، يستعيد ما مرّ به في العشية وسائل نفسه: «أما كان يجب عليَّ أن أضربه لينال جزاءه؟ ولو فعلت ذلك فبأي عينين كان تنظر إليّ الفتاة؟» وطال به الأمر حتى نبا جنبه عن الفراش فنهض وخرج من الغرفة ومشى الهويناء في الرواق المؤدي إلى غرفة الطعام وهو لا يدري إلى أين يذهب، حتى إذا بلغها أراد أن يعود ليصعد إلى السطح. وكان إلى جانب باب قاعة الطعام مربع منكشف اتخذه بعض القرويين محلاً لهم وكان مناراً بقنديل ضئيل النور. فاقترب إبراهيم من ذلك المربع وجعل يتأمل النيام وأكثرهم من النساء والفتيات ولا فرش تحتهم سوى بسط وأغطيتهم شراشف خفيفة، ونظر تحت ضوء القنديل رأس فتاة تدلى منه شعر مسود ستر بعض وجهها الأسيل وعنقها الجيداء، وللحال عرف الراقصة القروية وكانت نائمة بين أترابها. فخفق فؤاده لهذه المفاجأة وتقدم من حافة المربع المرتفعة وقعد عليه يتأمل وجه الفتاة وعينيها الساحرتين فتململت الفتاة تحت نظره ولكنها لم تستيقظ، لأن النوم كان مثقلها.
وبقي إبراهيم في مكانه ساهراً يكلأ الفتاة ويسامر نجواه حتى انقطعت ضوضاء القوم في الخارج وهدأت الرِّجل. وفيما هو كذلك لاحظ أشباحاً تقترب نحوه ثم تعود أدراجها وبدا له أنّ لهذه الأشباح قصداً وأنه يرى بينها قامة جرجس وطريقة خطوه فما برح مكانه حتى طلع الفجر وقامت الراهبات إلى صلواتهن.
في ذلك الصباح برحت الراقصة وزمرة من رفيقاتها الدير عائدة إلى قريتها وغادر إبراهيم ورشيد صيدنايا إلى دمشق حيث أسعفا بالعلاج ورجعا بعد ذلك إلى بلدتهما في لبنان، وبعد مدة قصيرة شفيت جراحهما شفاءً تاماً.
منذ ذلك الحادث طرأ على حياة إبراهيم تغيُّر كبير لم يخفَ على أحد من الذين كانت لهم به صلة، فتبدلت أطواره من النشاط والانشراح إلى الفتور والتأمل وانقطع عن التحدث إلى رفقائه، كما كان يفعل من قبل، وصار يفضل الصمت وأخذت علائم الكآبة تظهر على محياه. فلاحظ أصحابه ذلك منه، وعبثاً حاولوا أن يعيدوه إلى سابق عهده، وانتقل رشيد إلى بيروت لمتابعة دروسه فلم يعد إبراهيم يراه وظل وحده في البلدة يستعيد حوادث صيدنايا ويحاول أن يستجلي غوامضها. ثم ابتدأ يشعر بسأم مما هو فيه، فجرب أن يصرف صيدنايا عن فكره ولكن عبثاً، ففي الشتاء في لبنان، لا يستطيع ذو العاطفة أن يبعد فكره عن التصورات، لأن تساقط الثلج في الخارج وتوهج نار الموقد في الداخل والسكون الذي يشمل الطبيعة، كل هذه العوامل تطلق للفكر مجال التصور وتفتح إلى النفس طريقاً للمؤثرات. فرأى أن يسلو بالمطالعة وكاد ينجح لولا صور كانت تنتصب أمامه فتقاطع مطالعاته أو أفكاره الأخرى وتجلب معها كل الذكريات التي اكتنفتها، ألا وهي صور الفتاة الراقصة في صيدنايا حين كانت ترقص وحين زارته بعد جرحه وزودته نظرة لم يفقه معناها في الحال ولكنه أخذ يشعر بتأثيرها أكثر فأكثر مع مرور الزمان وابتدأت معانيها تنجلي له مع تعاقب الأيام حتى صار يشعر لأول مرة في حياته بذلك الشعور السري العجيب الذي يدفع الوعل إلى الهيام على وجهه في أيام الربيع، حاكاً بقرونه الجديدة سوق الأشجار وأغصانها حتى إذا التقى بوعل آخر حاله كحاله التحم وإياه بمعركة فاصلة تشتبك فيها قرونهما اشتباكاً يقضي على كليهما بالهلاك. بل إنه أبصر في الحلم وعلاً عظيماً وقف على قنة جبل عالٍ وقد اعلولت قرونه إلى الجو. ثم رآه ينقضّ على وعل آخر عظيم مثله. فسرّه ذلك وأقلقه معاً.
ظلت الحال بإبراهيم على هذا المنوال إلى أن حسر الثلج عن وجه الأرض وأورق الشجر ونوّر الزهر واكتست الأرض حلة سندسية، فلها إبراهيم قليلاً بمناظر الطبيعة، فكان يخرج للتفرج كل صباح وكل مساء ولكنه لم يعد إلى مرحه السابق. وزال هذا الفصل وجاء الصيف وعاد رشيد من المدرسة، إلا أنّ الصديقين لم يجتمعا إلا نادراً إلى أن لم يبقَ لعيد سيدة صيدنايا سوى أيام معدودة، ففي صباح يوم جميل أقبل رشيد على إبراهيم عند الفجر ودعاه إلى النزهة، لأن له ما يريد أن يحدثه به. فلبى إبراهيم الدعوة وسار الإثنان إلى إحدى الغابات البعيدة ليكون انفرادهما تاماً وهناك اضطجعا تحت أشجار الصنوبر، فقال رشيد:
«هل تذكر ذلك الشاب الذي بارزناه في صيدنايا في العام الماضي؟».
ــــ «أذكر».
ــــ «كنت وعدتك بأن أحدثك في الأمر الذي دعاني إلى مبارزة ذلك الشاب وقد رأيت أن أفي بوعدي الآن: أنت لا بدّ تذكر الفتاة التي دخلت إلى غرفتنا ونحن جريحان وتفقدت حالنا» فخفق قلب إبراهيم خفقاناً شديداً ولكنه ظل صامتاً ينتظر تتمة حديث صديقه الذي تابع: «إعلم أنّ هذه الفتاة رصيفة التلمذة وكانت تأتي كل سنة إلى مدرسة البنات القومية في بيروت، وذلك الشاب الذي بارزته من بلدتها ومن عائلة لها نفوذ كبير فيها وأظنك لم تنسَ أنه يدعى جرجس. ففي ذات يوم جاء جرجس إلى بيروت وذهب إلى مدرسة البنات حيث قابل الفتاة بحجة أنه يحمل إليها كتاباً من أبيها. وفي اليوم التالي قام بزيارة أخرى للفتاة، وكنت أنا هناك في زيارة لنسيبة لي هي صديقة حميمة للفتاة، فجرى له معها حديث حاد انتهى بأن الشابّ حاول اختطافها فأسرعت وحُلْتُ بينه وبين تنفيذ ما عقد العزيمة عليه. فحقد عليَّ جرجس منذ ذلك اليوم وصار كلما رآني تهددني وتوعدني إلى أن كان ذات يوم اتفقنا فيه على المبارزة فاقترحت أن يكون ذلك في دير صيدنايا فقبل وهكذا كان كما تعلم. أما الفتاة فلم تكن تعلم شيئاً من أمري ولكني وقفت من نسيبتي على الكثير من أمرها. فعلمت أنّ الفتاة تدعى نجلا وأنها مضطرة إلى مجاملة جرجس، لأن أمه كانت قد اعتنت بها في صغرها بعد وفاة أمها وهي كانت ترجو منها أن تفعل ذلك من أجلها والظاهر أنّ أم جرجس كانت تأمل أن تولِّد هذه المجاملة حباً ينتهي بزواج الإثنين لأنها أحبَّت صفات نجلا وأخلاقها، وكانت الفتاة تحب الأم وتفعل ما يرضيها ولكن البون الشاسع بين نفسها ونفس جرجس يجعل مبادلتها إياه الحب أمراً مستحيلاً. وعلمت أيضاً أنّ أم نجلا كانت قد نذرت عن ابنتها زيارتين لدير صيدنايا وأنّ الإبنة تريد أن توفي نذر أمها وهو ما جعلني أقترح على جرجس أن تكون المبارزة هناك، لأني كنت موقناً أنه سيتبعها إلى هناك. ولقد ماتت أم جرجس منذ بضعة أشهر وزال ما كان يدعو نجلا إلى مجاملة إبنها فكتبت إلى صديقتها نسيبتي تقول إنّ جرجس يلاحقها الآن ملاحقة شديدة تتألم منها، وذكرت لها في آخر الكتاب أنها ذاهبة إلى صيدنايا في عيد العذراء لكي تقوم بالزيارة الثانية من أجل أمها، ويقيني أنّ جرجس سيتبعها إلى هناك هذه المرة كما في المرة السابقة ويحاول اختطافها هناك لأنه قد لا يجد فرصة أوفق من هذه للقيام بذلك».
عند هذا الحد انتهى حديث رشيد. أما إبراهيم فإنه كان يصغي إلى الحديث المتقدم بصمت وإمعان، ثم إنه استرسل في تأملات عميقة واستغرق فيها استغراقاً لم يعد يعي معه على شيء. فقام رشيد وانصرف على مهل دون أن يتنبه إبراهيم إلى انصرافه، أخيراً انتبه ووجد نفسه وحيداً فتعجب من حاله ونهض وعاد إلى البيت وقد نسي كل القصة التي حدّثه بها رشيد، ولكن أمراً واحداً رسخ في ذهنه ورسا رسوّ الجبال فلم يعد شيء في العالم يتمكن من زحزحته: نجلا ــــ صيدنايا؟
في تلك الليلة حلم إبراهيم كثيراً. ومرة أخرى أبصر في حلمه وعلاً عظيماً على قمة جبل عالٍ، رافعاً رأسه مطاولاً بقرونه السحاب. وحدّق إبراهيم في قرونه فوجدها محددة كرؤوس الحراب، ثم نظر إلى عينيه فوجدها ترسلان أشعة تشبه الأشعة التي ترسلها الشمس من خلال الغيوم فهي مستقيمة وحادة. وكان منظره وهو يتنشق الهواء بلهفة، لعله يجد فيه رائحة مخصوصة يرتاح إليها، منظراً رائعاً يأخذ بمجامع القلب. أخيراً رآه يتنشق الهواء بسرعة بمنخريه اللذين كانا يهتزان للشم ويحوّل رأسه نحو جهة معلومة وينطلق كالسهم! فتململ إبراهيم في فراشه واستيقظ وإذا الفجر قد لاح، ولكنه لم ينهض حالاً بل ظل مستلقياً يتأمل في حلمه والوعل العظيم الذي رآه.
ظل إبراهيم منفرداً خالياً نفسه، متحاشياً الاجتماع بأي كان من أصدقائه ومعارفه كل الأيام القليلة الباقية لمجيء عيد سيدة صيدنايا. وكان صامتاً هادئاً وفي هدوئه دلائل انصباب الفكر على مسألة معيّنة هامّة. كان ذلك الهدوء أشبه شيء بستار المسرح المسدل الذي يدل على الاستعدادات المتخذة وراءه. فبعث تصرّفه هذا على استغراب معارفه أمره استغراباً شديداً، فمن جميع تصرفاته الغريبة لم يستغربوا أكثر من تصرّفه الجديد الذي وقفا حياله حيارى لا يدرون ما يبدون ولا ما يعيدون، وهم الذين كانوا يعدّون أنفسهم صحبه وتلاميذه ويدافعون عن كل تصرفاته السابقة ويردّون التّهم التي كان جماعة يحاولون إلصاقها به لمجرّد أنهم لم يكونوا يستطيعون فهم أطواره وشذوذه عن أساليب تفكيرهم وطرائق فهمهم. وابتدأ ضعاف الثقة منهم يشكّون في مصير هذا البطل الذي كان آية في القوة والبطش ومثالاً للشجاعة والإقدام وقدوة صالحة في الاعتماد على النفس، وأخذ بعضهم يتكهن بأفول نجمه وتداعي بنائه الفخم، فوقع ذلك عند الفريق الذي ظل يوده ويحترمه ويؤمن به وقعاً أثار أسفهم الشديد وكاد يؤدي إلى الشقاق بينهم وبين أولئك المتكهنين.
وقع عيد سيدة صيدنايا هذه المرة في يوم أحد، فلما كان الصباح استيقظ إبراهيم باكراً ونهض إلى تمريناته وحمامه البارد، وكان نشيطاً في قوّته، رائق النفس، مرتاح البال. ثم بادر إلى لوازم سفره فجمعها في حقيبة يدوية صغيرة وودع أهل بيته بعبارات مقتضبة، وتوجه إلى صديق له عنده سيارة وقال له: «هلم نسافر معاً يا أنيس».
ــــ «ماذا؟ هذا أنت يا إبراهيم؟ وإلى أين نسافر؟».
ــــ «إلى صيدنايا، فإن لي نذراً يجب عليَّ أن أوفيه هناك في هذا العيد».
فاكتفى أنيس بهذا الجواب لأنه كان يعرف مزاج إبراهيم الذي لم يكن يطيق كثرة الأسئلة والكلام في مهماته ومشاريعه، فبادر إلى إعداد سيارته، وبعد نصف ساعة خرجا بها وحدهما ولم يعلم أمرهما أحد في البلدة. وفي طريقهما عرجا على دمشق حيث تغديا معاً وشاهدا بعض أسواقها القديمة. ثم تابعا مسيرهما إلى صيدنايا فبلغاها عند العصر، وكان الدير قد امتلأ بالخلق وسيارات القادمين لا تزال تتوافد بكثرة. ولاحظ إبراهيم أنّ الإقبال على العيد هذه السنة يربي على الإقبال في السنة الماضية فطاف وصديقه نواحي البلدة ودخلا الدير وطافا به حتى المساء.
عندما دخل إبراهيم الدير وجده غاصاً بالخلق كما في المرة الأولى، والقوم في هرج ومرج عظيمين. ففي ساحاته وعلى سطوحه اجتمعت جماهير غفيرة، وكانت الدبكة في الساحات آخذة مجراها كالسابق: حلقات للرجال وحلقات للنساء والجماعات المحيطة بها تصفق وتصيح مثيرة الحماسة في الراقصين. فلما شاهد إبراهيم هذه الحلقات خفق قلبه خفقاناً شديداً وثارت في نفسه عاصفة من الانفعال لم تلبث أن تلاشت وعاد إليه هدوءه ورباطة جأشه، فجعل يجيل نظره في الناس بسرعة ولكنه لم يجد من يستقر عليه. وبينا هو كذلك رأته بعض النساء وجعلن يتهامسن قائلات: «أتطرن! هذا هو الرجل الذي جازته القديسة أم بزاز في السنة الفائتة بأن جرح من خصمه في البراز بالحكم» وبأسرع من البرق تنوقلت هذه العبارة وتجاوزت النساء إلى الرجال. أما إبراهيم فإنه لم يسمع شيئاً قط وهو لو سمع شيئاً لما كان أعاره اهتمامه فقد كان له من شواغل نفسه ما غنيه عن شواغل الناس.
بعد أن أجال إبراهيم نظره في تلك الجموع طويلاً دون أن يحظى بما يستوقفه، ترك مكانه وشرع يتنقل من مكان إلى مكان على غير هدى من أمره، وأنيس يرافقه صامتاً متعجباً حتى أشرفت الشمس على المغرب. وكان أنيس قد لاحظ قلق إبراهيم الداخلي وشرود فكره، فقرر أن يبقى في الساحة الكبرى ينتظره ويراقب ما يجري، وتابع إبراهيم تجواله دون أن ينتبه إلى تخلّف صديقه عنه. ثم إنه عاد فمرّ في الساحة الكبرى حيث كان أنيس دون أن يراه أو يفتقده، وجاوزها إلى ممر يؤدي إلى جناح الدير الأيسر من المدخل فمشى فيه إلى آخره وإذا هناك مدخل صغير فدخل فيه ووجد نفسه في غرفة صغيرة خاوية، وفي مؤخرها باب يؤدي إلى غرفة أخرى فولج هذا الباب ووقف قريباً منه، لأن الغرفة كانت مظلمة لمن يأتي من الخارج فهي أشبه شيء بكهف عميق ولا ينفذ إليها نور النهار إلا من كوة صغيرة في أعلاها لا تطل على الفضاء الرحب بل على حائط من حيطان الدير.
بعد قليل ابتدأ إبراهيم يتبين ما في هذه الغرفة على نور شمعات قليلة متفرقة في جوانبها، فرأى أنّ جدرانها مبطنة بصُوَر القديسين، فتزحزح من موقفه وأخذ يطوف بالمكان ويدقق النظر في الأطر المعلقة، حتى بلغ صورة كبيرة قائمة في وسط الغرفة مضاءة أمامها شمعتان أكبر قليلاً من بقية الشموع. فلم يشك في أنّ الصورة هي صورة العذراء التي تخشى راهبات الدير أن يخرجنها من ذلك المكان المظلم ويعرّضن قداستها للنور وخطر الضياع، فاقترب من إحدى الشمعتين ليتمكن من رؤية الصورة عن كثب. وما أن فعل حتى استلفت نظره شخص امرأة كانت واقفة أمام الصورة بين الشمعتين وهي كأنها تتأملها أو تناجيها. فبهت إبراهيم لهذه المفاجأة وتعجب من أنه لم يتنبه إلى وجود إنسان آخر في هذا المكان من قبل وهمّ بالتراجع، ولكن المرأة كانت قد شعرت بوجوده قربها وحوَّلت وجهها إليه لترى من هو. وكم كانت دهشته عظيمة حين تبيّن على نور الشمعة الضئيل التي بينهما وجه نجلا: الراقصة القروية التي ظلّت صورتها مطبوعة على مخيلته بوضوح تام حتى كأنه رآها أمس لا منذ سنة! ولم تكن دهشة الفتاة أقلّ من دهشته حين رأت قامته عرفت وجهه. فوقف الإثنان ينظر كل منهما إلى الآخر نظر من هو على يقين من أنّ ما يراه حقيقة لا حلم.
لا يحاول الراوي التعبير عن العواطف التي استولت على قلبي هذين الإثنين في هذه الدقيقة، لأنه يعلم أنّ لبعض العواطف البشرية لغة لا يمكن الاستعاضة عنها بلغة النطق، وهو لا يريد إفساد الأصل بالترجمة بل يفضل متابعة سرد القصة:
ــــ «أنت هنا؟» قالت الفتاة بصوت خافت يقارب الهمس. فطرق هذا السؤال مسامع إبراهيم بشكل مخصوص فهم منه: «أعَنْ قصد مجيئك؟».
فأجابها بصوت لا يعلو كثيراً عن صوتها ولهجة توكيدية ثابتة: «نعم. أنا هنا!».
عند هذا الجواب لمعت عينا الفتاة الكسيفتان وقالت: «لق كنت أفكر منذ هنيهة وأسائل نفسي: ــــ هل يجيء؟».
ــــ «هل شككت في مجيئي؟».
ــــ «أرجوك أن لا تحملني على الإباحة بجميع الهواجس التي انتابتني بين عيد سيدة صيدنايا الأخير وهذا اليوم».
فأخذ إبراهيم يدها بين يديه وقال: «لقد جئت وفي نيّتي أننا إذا التقينا فلا فراق، فما هي نيّتك أنتِ؟».
ــــ «أنت الشخص الوحيد الذي تمنيت من كل قلبي أن يبقى إلى جانبي دائماً، فقد أرعبني الكثيرون وملأوا نفسي اشمئزازاً وخوفاً!».
فضمها إبراهيم إلى صدره بلهفة وطبع على شفتيها قبلة حارة وأجابها: «إننا لن نفترق ولن يخيفوك بعد الآن!» وخرج وإياها من الحجرة وهو يطوقها بيمينه القوية.
كان الليل قد غشي تلك النواحي ولكن القمر كان قد طلع وأضاء نوره هذه البقعة. فاجتاز إبراهيم ونجلا الممر المؤدي إلى الساحة الكبرى وهما على الحالة التي كانا عليها حين خرجا من غرفة العذراء، ولم يلتفتا إلى أحد من الأشخاص الذين كانوا واقفين أو مارين فيه. أما هؤلاء فإنهم حالما رأوهما شغلوا بهما عما كانوا فيه وجعلوا يتبعونهما بأعينهم مشرئبي الأعناق نحوهما، مستغربين مظهرهما الذي لم يكونوا قد رأوا مثله من قبل. فلما بلغا الساحة وجدا ما لم يكن في حسبانهما: ففي وسطها وقف جرجس البطل المبارز في السنة الماضية نفسه وهو يحمل بيده اليمنى سيفاً مصلتاً وباليسرى ترساً وذراعاه متقاطعتان على صدره ومن حوله رفيف من الرجال هم مزيج من أهل القرى وأهل المدن وأمامه على الأرض سيف وترس آخران كان الرجال المحيطون به يتشوقون ليروا من ذا الذي سيلتقطهما. فلما رأى إبراهيم هذا المشهد ضم الفتاة إلى صدره ووقف يحدق إلى جرجس ولفيفه تحديق النسر. حينئذٍ أدرك أولئك الرجال والجمع الذي وراءهم أنّ شيئاً غير اعتيادي سيأخذ مجراه، وكما بسحر ساحر انقلبت سحن الرجال الذين يحفون بجرجس من الهيئة الهزلية التي كانت عليها إلى هيئة جدية جعلت وجوههم تشبه تماثيل الشبه.
ولم يشأ إبراهيم أن يبقى واقفاً في مكانه فمشى برفيقته بعض خطوات محاولاً أن يتابع سيره فاعترضه جرجس وهو لا يزال على الشكل المتقدم وصفه وقال له: «إنّ ذاك السيف الذي تراه على الأرض ينتظرك لإنهاء البراز الذي بدأناه السنة الماضية في مثل هذا اليوم».
ما كاد جرجس ينتهي من عبارته هذه حتى أحسَّ إبراهيم أنّ نجلا ارتعشت مع أنّ ذراعه اليمنى مطوقتها، فالتفت إلى من حوله وإذا أنيس واقف إلى جانبه وفي يده عصاه الكبيرة التي لا تفارقه فقال له: «أعطني عصاك وخذ هذه الفتاة إلى السيارة وأنا أكون هناك بعد دقيقة»، وتناول العصا وتقدم أنيس من الفتاة ليقودها ولكنها أبت الذهاب وقالت لإبراهيم: «إما أن نبقى معاً وإما أن نذهب معاً» فنظر إليها إبراهيم بحنان وقال لأنيس: «إذن إبقَ إلى جانبها إلى أن أعود» ثم تحول إلى جرجس وقال له: «لا حاجة إلى ذاك السيف فإن هذه العصا تكفي لتأديبك فخذ مكانك سريعاً!».
فأراد جرجس أن يمتنع ولكن إبراهيم أمسكه من عضده وضغط عليه بأصابعه الفولاذية وهزه بشدة وقال له: «إذا لم تقبل اضطررت إلى ضربك كما يُضرب الأولاد الصغار الطائشون فأدرك جرجس من قوة خصمه ولهجته الثابتة أنْ لا مناص له من الإذعان، فالتفت إلى رفقائه وقال لهم: «إشهدوا أني بريء مما سيحدث» ثم تراجع إلى متوسط الساحة وتقدم إبراهيم أيضاً بضع خطوات وقبض على عصاه من طرفها الدقيق وأدار رأسها الضخم في الهواء».
أخذ جرجس أولاً في اللعب بسيفه وضربه على ترسه وما كاد ينتهي من ذلك ويتحول إلى المجاولة، حتى أقبل إبراهيم نحوه بخفة الأسد وثباته وجاوله مرة واحدة فقط أطبق بعدها عليه مديراً عصاه بسرعة ومهارة عظيمتين، ثم فرّ منه وعاد فكرّ عليه كرّة لم يكن ذاك يتوقعها وباغته مباغتة خبلته حتى لم يعد يحسن الدفاع، وحانت الفرصة فأهوى عليه بضربة شديدة أصابته في قمة رأسه وألقته على الأرض صريعاً. وبينما الناس في دهشة عظيمة مما حدث ذهب إبراهيم إلى رفيقيه وأحاط نجلا بذراعه اليمنى كما في الأول واجتاز بها الممر المؤدي إلى الخارج وتبعهما أنيس يحمل عصاه التي استعادها.
في هذه الأثناء كان رجال جرجس قد تغلبوا على دهشتهم فخرج أربعة منهم في أثر إبراهيم، فتصدى أنيس بعصاه لاثنين منهم، وكرَّ إبراهيم على الإثنين الآخرين فأمسكهما من عنقيهما ودق رأسيهما الواحد بالآخر دقاً أفقدهما الصواب وألقاهما برفق على الأرض. فلما رأى الإثنان الباقيان ما حلَّ برفيقيهما فرّا هاربين ودخلا الدير وهما يقولان: «إنّ الشيطان يحميه!» فأجابتهما إحدى النساء المشاهدات «بل العذراء تحميه!» وسمع جوابها بعض القرويين فعدّوا هذا الحادث من عجائب سيدة صيدنايا الكلية القداسة وهم لا يزالون يروونه من هذا القبيل.
أما إبراهيم ونجلا وأنيس فتابعوا سيرهم إلى السيارة وركبوها وساق إنس في طريق قرية ن... حيث تقطن نجلا، فبلغوها بعد سير ساعتين تقريباً وترجلوا أمام بيت قروي معتدل، وطرقت نجلا الباب وبعد هنيهة فتح الباب ودخلوا البيت ولم يكن فيه أحد سوى والد نجلا الشيخ.
في صباح اليوم التالي جرى عرس بسيط جداً جمع الفرح والرضى ولم يجمع شيئاً من الضوضاء. وأصبح إبراهيم ونجلا زوجين.
لا يستطيع من لم يشهد الحادث بنفسه أن يتصور مبلغ دهشة أهل بيت إبراهيم عندما عاد مصطحباً نجلا وقدمها إليهم بصفة كونها امرأته، ولا شدة وقع ذلك عند معارفه والذين كانوا يعرفون عنه، خلا رشيداً فإنه كان قد قدّر الحادث وأخذ ينتظره منذ علم أنّ إبراهيم برح البلدة يوم العيد. وأقبل كثيرون يريدون تهنئته ولكنه كان حالما يشعر بقدوم أحد لزيارته يأخذ نجلا ويخرج وإياها من الباب الخلفي ويذهب الإثنان يتنزهان في الغابات. فأدرك أهل البلدة الحيلة وأخذوا يرصدونهما وهم يكادون يذوبون شوقاً إلى رؤية الفتاة التي أصبحت امرأته. ولم يكن بينهم من لم يتوقع أن يراها امرأة بدينة رجراجة. فلما أتيح لهم أن يلحظوها ووجدوها فتاة ضامرة الحشى، لطيفة الجوانح بهتوا وانصرفوا وهم يشكّون فيما رأوا.
أخيراً أجمع الناس الذين يجعلون أنفسهم دائماً المثل الطبيعية للأطوار البشرية، على أنّ الحادث أمر غير طبيعي. ولم يعدم الشبان الذين كانوا يحسدون إبراهيم والشابات اللواتي كان يغيظهن بتصرفه السابق، شيئاً جديداً يضيفونه إلى اختلاقاتهم الماضية.
أما إبراهيم ونجلا فلا يزالان يعيشان سعيدين جداً، وكلما عاد إبراهيم إلى نفسه تذكر صديقه رشيداً وتلك الحكاية التي قصّها عليه في الغابة والوعل العظيم الذي أبصره في الحلم. أما صور الجمال التي كانت أفكاره السابقة تحوم حولها فقد نسيها بتاتاً.
»فاجعة حب«
Some rise by sin, and some by virtue fall.
Shakespeare
شهِدْتُ فيما مضى حوادث كثيرة لست أذكر الآن منها إلا حادثة واحدة ليس إلى نسيانها من سبيل، فلا مرور الزمان وتقادم العهد ولا شواغل الفكر واضطرابات الحياة تمكنت أو تتمكن من محوها من نفسي. مع ذلك فالواقعة بسيطة خالية من الشؤون الغريبة الباهرة التي تبدو في هذه الحياة شؤونها غير عادية. ولكن من يدري، فلعلها ليست بسيطة بهذا المقدار، أو لعل في بساطتها شيئاً غير عادي جعلها ترسخ في نفسي، ويدفعني الآن إلى روايتها وفي نفسي ألم وأسى لأنها انتهت بفقد صديق حميم لي على كيفية تجعل قلب كل إنسان رقيق الإحساس يتفطر حزناً.
كان صديقي سليم مولعاً بدراسة الموسيقى. وكنت أنتظر أن يخرج ناظماً موسيقياً مجيداً لما كنت أعهده فيه من شدة العواطف وسلامة الذوق وقوة الشعور، وما كان هو عليه من سمو الإدراك وتعمق في الفهم. كانت نفسه كبيرة حتى كأنها تسع الكون، وكان يحب أن يرى شعبه آخذاً قسطه من الموسيقى العالية، أي أنه كان يريد أن يرى في شعبه موسيقى سامية تستطيع أن تعبّر حقاً عما في القلب من شعور وما في العقل من تأملات أدبية وفلسفية. ولا أزال أذكر حديثاً له حين كان قلبه طافحاً بالعواطف القوية ونفسه مترعة بالآمال الكبيرة، وهو حديث لا يكاد يمثّل ما كان عليه سليم، ولكنه يجعل الذين يسمعونه أو يقرأونه يشعرون أنّ ما كان يجول في فكر المحدِّث شيء سام، لو أنه تحقق لانتشل حياة شعبه انتشالاً تاماً من الجمود والخمول اللذين لا يزالان يرافقانها. من أجل ذلك رأيت أن أثبته فيما يلي كما يحضرني وأظن أنه لا يكاد يفوتني شيء منه.
كنا مرة مجتمعين في حلقة من الأصحاب فأخذنا نتحدث في كل علم وفن حتى تطرّقنا أخيراً إلى الموسيقى. وكان بيننا من شبّ ولم يسمع سوى الألحان الشرقية الشائعة عندنا التي يسمونها خطأ «الألحان العربية» وإذا كان قد سمع بعض الأنغام الغربية فهو لم يعبأ بها ولم يحاول فهمها. وكان آخرون ممن سمعوا الألحان الشرقية والأنغام الغربية ووقفوا على ما في هذين النوعين من الموسيقى من فن وافتنان. فقدّم هؤلاء الأنغام الغربية على الألحان الشرقية، لرقيّ تلك وغناها في التعبير عن الحياة العاطفية، ولفقر هذه من هذه الوجهة ووقوفها عند حد التعبير عن الحالات الأولية. وتعصَّب أولئك ــــ ولعل تعصّبهم من باب الشعور القومي غير الناضج وغير الواضح، والتمسك بمبدأ المحافظة ــــ للألحان الشرقية. وهذا شيء طبيعي، فالذين يفهمون لحناً موسيقياً واحداً فقط يفضلونه على كل لحن ونغم غيره.
وكان من وراء ذلك أنّ الجدل في هذا الموضوع احتدم بين الفريقين وطال أمره حتى خشيت أن يؤول إلى تباغض وشحناء، كما جرت العادة عندنا نحن السوريين إلى هذا اليوم، فإننا قليلاً ما نتناقش في أمر بقصد التوسع في المعرفة والفهم، وتبيّن وجه الصواب ووجه الخطأ. إلا أننا لم نبلغ هذا الحد في هذه المرة، لأن الفريقين المتجادلين قررا أن يستفتيا سليماً في الأمر بصفة كونه خبيراً في نوعي الموسيقى، الشرقي والغربي، ومحباً للإنصاف والحقيقة، فسأل سليم أحد المتشبثين بأفضلية الموسيقى الشرقية المحافظة، واسمه بهيج، قائلاً:
«أتدري، يا صاحبي، لماذا وجدت الموسيقى؟».
فأجاب بهيج بلهجة الموقن: «أجل وجدت الموسيقى لتكون لغة العواطف».
قال سليم: «لو كنت خبيراً بالموسيقى لما جزمت بهذا التحديد الذي يجرّد الموسيقى من ثلثي مزاياها على الأقل».
فهتف الأربعة دفعة واحدة: «ثلثي مزاياها؟!».
سليم: «نعم. ثلثي مزاياها».
بهيج: «إذن، كيف تحددها أنت؟».
سليم: «إني أحددها بإطلاقها من كل تحديد، فإنك تستطيع أن تعرف الكثير من مزايا الموسيقى ولكنك لا تتمكن من حصرها. ليست الموسيقى لغة العواطف فحسب، بل هي لغة الفكر والفهم أيضاً. إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبو اطنها. وإن شئت فقل إن الموسيقى تتناول العواطف الأولية والحالات النفسية على أنواعها، والأصوات على اختلافها، والشعر والأدب والفلسفة. ومن هذه الوجهة لا يمكنك أن تقسم الموسيقى إلى قسمين: شرقي وغربي، وإنما يمكنك أن تميز بين الأساليب الشرقية والأساليب الغربية في التعبير عن المعاني النفسية المقصودة من الموسيقى، وبين أصناف هذه المعاني عينها. فمتى كانت الموسيقى الغربية تعبِّر عن العواطف والحالات النفسية التي تعبِّر عنها الموسيقى الشرقية عينها أمكنك فهمها بكل سهولة وإن اختلف أسلوبها. فيتضح لك مما تقدم أنّ وجه الفرق في ما تسمونه الموسيقى الشرقية أو العربية والموسيقى الغربية ليس في أساس الموسيقى، فلا يوجد نزاع قط من هذا القبيل، بل في المعاني التي يقصد التعبير عنها عند الشرقيين وعند الغربيين وفي الأساليب المتخذة لبلوغ هذا الغرض. وإنّ الفرق الذي تجده بين أساليب الموسيقى الشرقية ونظائرها الغربية ليس إلا مجرّد تنوع يتبع حالات نفسية خاصة. ويمكنك أن تجد البرهان القاطع على صحة هذه النظرية في العلوم الطبيعية والنفسية وفروعها، فإن هذه العلوم تثبت بما لا يقبل الرد أنّ الطبيعة البشرية واحدة في جميع العناصر والشعوب وإن تعددت الأمزجة. إنّ عواطف الحب والبغض والرقة والقساوة والسرور والحزن وبواعث الطرب والتأمل واللهو والتفكير والطموح والقناعة، وما ينتج عنها جميعها من ثورات وانفعالات وتصورات نفسية، تقصّر الكلمات عن وصفها، كل هذه واحدة في جميع الأمم في الشرق والغرب ولا فرق بينها إلا بمقدار تنبه النفوس وارتقائها وشدة شعورها أو خمولها وانحطاطها وعدم شعورها. فالقوم الذين لا تزال نفسيتهم في دورها الابتدائي أو كانت محجوزاً عليها بحكم العادات والتقاليد العتيقة، الناتجة عن تلك النفسية، كانت موسيقاهم إبتدائية أيضاً. وهي في هذه الحال لا تعبِّر إلا عن العواطف التي هي شيء مشترك بين الإنسان والحيوان كالشهوات الجنسية التي تمثل معظم عواطف هؤلاء القوم. وبعكس ذلك، القوم الذي تحررت نفسيتهم وارتقت فإن موسيقاهم تعبِّر عن عواطف تسمو على الشهوات الجنسية وتخيلات تعلو عن الأغراض الحيوانية الدانية، إذ لم يعد مطلبهم في الدنيا مقتصراً على «وصال الحبيب»، بل أصبح مطلباً أعلى يرفع الحب نفوسهم إليه ويشحذ عزائمهم لتحقيقه، مولّداً في نفوسهم من العواطف السامية والأفكار والتخيلات الكبيرة ما لا يستطيع فهمه من همّه وصال الحبيب وعلى الدنيا السلام. هذه هي العواطف والتصورات والأفكار التي تعَبِّر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن الذي بلغ في الفن الموسيقي حد الألوهية لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة. إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر حتى كأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس. وهذه هي صفة الموسيقي النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة. أنظر إلى ما تعبِّر عنه معزوفات هذا الموسيقي الخالد. خذ، مثلاً، سيمفونيته السابعة التي أجاب بها على مدافع السفاح نابوليون بتيار من الأنغام تحوَّل إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الحرية، الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جارياً وسيظل جارياً أبد الدهر! أنظر إلى معزوفاته الأخرى كسيمفونيته الخامسة المعبرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء ــــ بين الموت والحياة وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه ــــ ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين، فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب، إلى مراتب السمو، بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضاً. لا، يا صاحبي، لم توجد الموسيقى لتكون لغة العواطف الأولية التي وقفت عندها الموسيقى التقليدية الشائعة بيننا، بل لغة النفس بجميع ما فيها من عواطف وأفكار».
بينما كان سليم يتكلم كان الأصحاب جميعهم مصغين كل الإصغاء. فقد كانت هذه المرة الأولى التي يسمعون فيها حديثاً من هذا النوع. وبعد صمت ظهر في أثنائه أنّ الرفقاء كانوا يجتهدون في فهم خطاب سليم ويحاولون إدراك المدى البعيد الذي بلغه، قال بهيج: «ما رأيك إذن في موسيقانا؟».
سليم: «الحقيقة، يا صديقي، إنه ليس لنا موسيقى تعد نتاج نفسيتنا، نحن السوريين، من حيث إننا قوم لنا مزايا خاصة بنا. أما الألحان الشائعة بيننا فليست، باستثناء ألحان شعبية معينة، مما نشأ من نفستنا، بل هي مزيج من نفسيات أقوام مختلفة. وإذا كان فيها ما يعبِّر عن جزء يسير من عواطفنا ومزاجنا فهي تقصر تقصيراً كبيراً عن استيعاب ما في أعماق نفوسنا من شعور يستغرق ما في الكون من عوامل ومؤثرات نفسية وما في صميم عقولنا من تصورات وتأملات تظهر فيها حقيقة طبائعنا ومواهبنا. إنّ الألحان التي تسمعها كل يوم ليست خارجة من نفسيتنا، بل هي مما دخل على تقاليدنا وعاداتنا. إنها ألحان تقليدية فحسب».
بهيج: «إذن، أنت تفضل الموسيقى الغربية».
سليم: «قلت إنه لا تفضيل في الموسيقى. إنما إذا كنت تريد معرفة رأيــي في الفرق بين موقفنا من الموسيقى وموقف أهل الغرب منها فأني أصارحك أنّ شعوب الشرق، خلا الروسيين، إذا كانوا يحسبون شرقيين، قد عدلت عن الأسس الموسيقية إلى الألحان الموضوعة، أو هي قد اقتصرت، في الموسيقى، على طائفة من الألحان لا تجد عنها محيداً. وهذا كان شأن أهل الغرب أيضاً، إلا أنه لما ارتقت نفسيات البشر وعقلياتهم اضطرت الموسيقى إلى مجاراة هذا الارتقاء لكي تعطي المثل الصحيح للعواطف والأفكار الجديدة التي لم تعد الألحان الموضوعة تكفي للتعبير عنها. وقد سبق الغربيون أهل الشرق إلى إدراك ذلك فأحدثوا في الموسيقى تطوراً خطيراً، إذ إنهم عدلوا عن الألحان إلى الأصوات المفردة التي هي أساس الموسيقى فرتبوها وأدخلوا على الموسيقى الأدب والفلسفة، فضلاً عن الشعر، وهكذا استتب لهم إظهار مكنونات النفس الراقية بواسطتها. وهذا ما يجب أن يحدث في سورية وفي كل قطر فيه شعب حي في نفسيته وعقليته. إنّ التقاليد القديمة المستعارة قيّدت نفوسنا بألحان محدودة ابتدائية قد أصبحت حائلاً بيننا وبين الارتقاء النفسي. إنّ في فطرتنا ونفوسنا شيئاً أسمى مما تعبِّر عنه هذه الألحان الجامدة شيئاً أسمى من الشهوات أو العواطف الأولية. إنّ في أنفسنا فكراً عاطفياً وفهماً عاطفياً يتناولان التأملات العميقة في الحياة والرغبة الشديدة في تحسينها من وجوه متعددة: اجتماعي، قومي، روحي، إنساني، ويدفعاننا نحو مطلب أعلى أليق بوجودنا يحتاج تحقيقه إلى أنواع من الموسيقى غير الألحان المستعارة الموضوعة لحالة أو حالات نفسية، محدودة، معيّنة، كحالة الحزن أو حالة التدلّه في الغرام. فإن نغماً وضع لحالة من هذا النوع لا يصح أن يستعمل في حالة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف، كحالة غضب النفس وثورتها على الاستبداد والظلم، أو حالة الجذل والابتهاج، أو حالة التأمل، بل إنّ لحناً وضع لحالة نفسية منذ نحو ألفي سنة لا يمكنه أن يعبِّر عن هذه الحالة بعد مرور زمن طويل اكتسبت فيه النفس من الاختبارات ما رقّى شعورها وأكسب الحالة النفسية المقصودة معاني جديدة تحتاج إلى أنغام جديدة لوصفها. فإذا كنا نريد أن تحيا نفسيتنا حياة راقية تُقرّبنا من أكناف السعادة وجب علينا أن نحررها من ربقة الألحان التقليدية التي لا تغذي إلا العواطف الدنيا، وأن نعود إلى الأصوات نفسها فنسلّط عليها فكرنا العاطفي وفهمنا العاطفي، ونستخرج منها موسيقى تغذي كل عواطفنا وكل تصوراتنا، وتظهر بواسطتها قوة نفسيتنا وجمالها».
لما أتمَّ سليم عبارته التفتُّ إلى الرفقاء فوجدتُّ بهيجاً وأصحابه قد وقفوا عند أفكار جديدة لم يكونوا قد سمعوا مثلها من قبل ثم إنّ أحدهم نظر إليّ وخاطبني قائلاً: «ما رأيك يا سيد! في ما يقوله سليم؟».
قلت: «إني أوافق على جميع ما قال واتخذ من حكمه في الموسيقى حكماً في الأدب. أُنظر إلى شعرائنا كيف يحدون العيس في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلا مقلدين، لأن حدي العيس ليس من شؤون شعبهم ولا من مظاهر تمدنهم، وإلى كتّابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادهم جبلية خضراء، إنّ التقليد قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة، وإني لأعتقد أنه لا بدّ من القيام بجهود جبارة قبل أن تصبح النهضة الأدبية معبّرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيء اليوم الذي يتحقق فيه ذلك وتصير النفسية والعقلية السوريتان الغنيتان بمواهبهما الطبيعية معينين ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري».
وبعد صمت قصير انصرفنا، وقد رسخ حديث سليم في ذهني ولم تزده الأيام إلا رسوخاً.
إنّ الحديث المتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة صديقي سليم وأرادت أن تتناول عصراً وأمة. والذي أعلمه أنّ سليماً كان قد ابتدأ ينظم سيمفونية في انتهاء عهد الخمول وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري. والصدق يوجب عليَّ أن أروي أنّ سليماً كان يعتقد أنّ نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن، لأنه كان موقناً من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي من وراء ذلك إلى غرض سياسي، بل إلى ما هو أعظم شأناً وأكثر فائدة من الغرض السياسي. إنه كان يرى الفورة السياسية أمراً تافهاً إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد، سواءً أكان رجلاً أم امرأة، شاباً أم شابة، أدب حي وفن موسيقي يوحد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ولها إيمان اجتماعي واحد قائم على المحبة، المحبة التي إذا وُجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً. حينئذٍ يصبح الجهاد السياسي شيئاً قابل الإنتاج. وأما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة فهي شيء عقيم ولو أدت إلى الحرية السياسية.
هذه خلاصة نظرية سليم في تجديد حياة قومه وهي نظرية الرجل الفني الذي يريد أن يبتدىء في القلوب والأفهام. ولست أشك أنه على صواب، وأنّ نظريته قريبة جداً من نظرية الاجتماعيين الشعوبيين الذين ينظرون في حياة الشعب الداخلية، ولا يأبهون كثيراً للمجد السياسي، أو يعدّونه شيئاً لا يتقدم على الحياة الحرة في العقل والنفس، ويرون أنّ حرية النفس أساس كل الحريات. وهي من هذه الجهة لا تتضارب ونظرية السياسيين الشعوبيين، ولكن السياسيين كثيراً ما يقصّرون عن فهمها. لا تتضارب النظرية المتقدمة ونظرية السياسيين الذين يعملون للحرية ولكنها تختلف عن نظريتهم اختلافاً كبيرا. ففي حين أنها لا تنكر أهمية الحرية السياسية لا ترى أنّ الحياة السياسية أساس الحياة القومية أو أنها هي الوطنية الكاملة كما يدّعي السياسيون.
أمّا وقد شرحت شيئاً من خصال سليم وأفكاره في الفن والحياة فيجب عليَّ أن أذكر شيئاً من أطواره الفريدة لأقرّب شخصيته من مخيلة القارىء بقدر الإمكان. ولا شك عندي في أنّ أطواره نتيجة طبيعية لأخلاقه وعواطفه القوية وإحساسه الشديد. فهو إذا تأثر لشيء كان تأثره شديداً، عميقاً، تاماً لا يكاد يبدو منه شيء في الحال ولكنه لا يلبث أن يبدو أثره بعد مدة من الزمن. لذلك كان من الصعب تتبع حالاته النفسية وفهم عواطفه ومزاجه، ولا أظن أنّ أحداً غيري تمكن من فهمه ومعرفة كنه أمره، لأني كنت الصديق الوحيد الذي لازمه وصحبه في أكثر روحاته وغدواته ووقف على الحوادث التي كانت تنطبع في ذهنه وهو هادىء ساكن كأنه لا يشعر بشيء مما يجري. وكان سليم يدرك أني واقف على حاله فكان إذا نظر إليَّ تبسَّم تبسُّم الفاهم الخبير. ولكنه مع ذلك كله لم يكن يحدثني في حادثة واحدة قط، ولا أنا حاولت استطلاع رأيه وسبر غور عواطفه، بل قليلاً ما كنا نتبادل النظر في مجرى الحوادث كأن الواحد منا لم يكن يريد أن يظهر للآخر شعوراً يشابه شعوره
مع كل ذلك ومع عظم المودة التي كانت بيننا، كان سليم يخفي في نفسه حباً قوياً لفتاة كنت لا أعرفها لذلك الحين، ولكن الحظ أتاح لي التعرف إليها فيما بعد، فإذا بي أرى آنسة ذات نفس جمة اللطف وأخلاق وافرة. وكانت حين تعرفت إليها مكتئبة اكتئاباً داخلياً عميقاً. فكانت كآبتها ستاراً يحجب نفسيتها وأطوارها.
لم يطلعني سليم على أمر حبه ولكني كنت أشعر أنّ قوة خفية كانت تغذي عواطفه وتوحي إليه أنغامه الموسيقية. ومع كل التكتم الذي أحاط نفسه به فإن الناس ما لبثوا أن شرعوا يتهامسون بشأنه. ولقد دخلت عليه ذات يوم في غرفته فوجدته طافحاً جذلاً وحبوراً. فابتدرني بقوله:
«أظن أني قد قاربت أسعد أوقاتي وأعظمها شأناً في حياتي الخاصة وحياتي العملية العامة. تعال يا «أ» إسمع هذا النغم الذي أوحاه إليَّ شعوري. إنه عبارة عن قطعة صغيرة بسيطة».
وجلس إلى البيانو وجعل يوقع قطعة لم تستغرق أكثر من عشر دقائق. سمعت أنغاماً لطيفة تضاهي أرقّ الأنغام التي سمعتها في حياتي، ووجدت فيها شعوراً جديداً لم أجد في غيرها من الأنغام ما يفوقه قوة وجمالاً. فهنأت نفسي بهذا الصديق الذي جاء ليوجد لنا محلاً رفيعاً في عالم الموسيقى وأيقنت أنّ مجهوداته في هذا السبيل غير ذاهبة عبثاً.
فلما انتهى التفت إليَّ وقال: «كيف رأيت؟».
قلت: «إني أهنئك من صميم قلبي فإنك قد أجدت النظم والنثر والشعر والأدب».
وفيما نحن كذلك إذا بالباب يطرق ويدخل السيد «ك» فسلم وقال: «جئت أدعو السيد سليماً إلى مائدة شاي ولكن ما دمت أنت أيضاً يا سيد «أ» هنا فاسمح لي أن أدعوك إلى مشاركتنا». فقبلنا الدعوة وخرجنا معاً.
ولما بلغنا منزل السيد «ك» استقبلتنا ربته، فلاحظت أنها تهتم كثيراً لهذه الزيارة. بل بدا لي أنها تعلق عليها أهمية غير اعتيادية وأنّ لها من ورائها غاية. فرحبت بنا ترحيباً كثيراً وأظهرت سروراً وابتهاجاً زائدين.
لم يكن السيد «ك» وزوجه سوريين بل أجنبيين. وكان لهما معارف في دائرة معينة من المجتمع السوري. والسيدة «ك» تتكلم العربية بلهجة سورية وبدون تكلف، إلا إنّ أغلاطها غير قليلة ولفظها غير صحيح. وكان عندها في البيت ساعة مجيئنا زائرتان هما الآنسة السورية أسما والسيدة الأجنبية «و»، وهذه الأخيرة كانت متزوجة رجلاً سورية ولم يكن قد مضى على وجودها في سورية زمن طويل. فقامت السيدة «ك» بتقديمنا إلى هاتين الزائرتين ثم جلسنا وجعلنا نتحدث والحديث ذو شجون.
وكان من قسمتي أن أستقل والآنسة أسما بحديث طويل تناول البحث في شؤون المرأة العصرية ومركزها في محيطنا. وأخذت السيدة «ك» في مجادلة زوجها في بعض الشؤون جدالاً حاداً. وبقي سليم في مركز لا سبيل معه إلى الاختيار. ولاحظت أنه مرتبك قليلاً لأن السيدة «و» كانت تطيل النظر إليه وتنتظر أن يحدثها. وكانت إذا تحدث تميل إليه بكليتها وتظهر بصورة مخصوصة أنها تسمع كل نبرة من نبرات صوته.
أرى أنه لا غنى لي عن وصف هذه الأجنبية السيدة «و»، الرقيقة العود، اللدنة القوام، المعتدلة القامة والتي لها وجه صبيح وبشرة بيضاء ناعمة وحاجبان ظاهرة العناية في تزجيجهما حتى صارا كقوسين. ولها في قيامها وقعودها تأنق ودلال. ومع كل أوصاف هذه السيدة الجميلة لم يظهر لي أنّ سليماً شغف بها ولكنه كان مضطراً اضطراراً إلى مجالستها ومحادثتها.
ولقد علمت فيما بعد أنّ هذه السيدة كانت غير سعيدة مع زوجها. فهو كان ممن لا تزال تقاليد التربية القديمة. تجعل لتصرفه نوعاً من الخشونة والفظاظة مستتراً وراء حجاب التهذب والرجولة الذي اكتسبه في أثناء وجوده في أوروبة، فكان يختلف من هذا القبيل اختلافاً كبيراً عن زوجه التي كانت قد ربيت في محيط أوروبي ارتفعت فيه أساليب المودة وتكلف اللطافة إلى مستوى عالٍ.
إذن كانت السيدة «و» غير سعيدة وكانت تتوق إلى السعادة في هذا المحيط الجديد المتراوح بين ما هو عريق في التقاليد وما هو جديد في التمدن. ولكن هذه حقيقة لم أكن أدري بها في هذا الاجتماع. على أني كنت أشعر أنّ لهذه السيدة ميولاً غريزية قوية تملك قيادها وتتسلط على إرادتها.
وبعد مدة قصيرة فرغت السيدة «ك» من مناقشة زوجها والأصح أنها لم تفرغ قط ولكن زوجها كان يريد الذهاب لبعض أغراضه، فاعتذر إلينا واستأذن وانصرف. وما كاد يخرج من الباب حتى تحولت السيدة «ك» إليَّ وإلى الآنسة أسما ولم تلتفت إلى السيدة «و» وسليم. بل إنها تجاهلت وجودهما بالمرّة. فأيقظ عملها هذا فطنتي، ليس لأنه غريب فلا غرابة قط فيه، بل لأن سليماً لم يكن من الرجال الذين يميلون إلى التحدث. وكنت أعرف أنه يحتقر الأحاديث الاغتصابية التي لا تدور حول موضوع معيّن ينتظر الفراغ منه، فهو لم يكن يتحدث لمجرّد قتل الوقت بتجاذب الحديث.
وبينما فكري يتراوح بين هذه الظنون والأحاديث التي كانت دائرة بيني وبين الآنسة أسما، إذا بالسيدة «ك» تدعوني وهذه الآنسة لمشاهدة مجموعة الملونات التي عنيت بجمعها. وكنت مشغوفاً بالصور الملونة، حتى أني كنت أقف وقتاً طويلاً أمام الصورة الواحدة الهامّة، مطيلاً النظر إليها كأني أحاول طبع ما فيها من دلائل الحياة وعظمة الفن في ذهني بحيث لا تعود تبرحه. فتبعت السيدتين إلى الغرفة المجاورة حيث كانت مجموعة الصور فوجدتها مؤلفة من نحو عشرة أطر تتضمن كلها صوراً لملونين عصريين بينها ثلاث صور أعجبتني كثيراً: الأولى رأس قروي، والثانية برية جبلية، والثالثة منظر وردة على نور شمعة.
لا أدري كم دقيقة استغرق وجودنا في الغرفة المجاورة ولكني أدري أننا عدنا لنرى سليماً والسيدة «و» كما تركناهما. ورأت السيدة «ك» أن تغيِّر مجرى اجتماعنا فأدارت الغرامفون ولم يبقَ عن الرقص من محيد، لأن عدمه يعتبر إهانة لا سبيل إلى التفكير عنها عند السيدات المتأنقات. وأشارت إليَّ ربة البيت أن أدعو الآنسة أسما للرقص ففعلت. أما سليم فظل في مكانه لا يتحرك. فحضته السيدة «ك» على الرقص ولكنه اعتذر بأنه لا يحسنه فلم يلقَ اعتذاره القبول وتبرعت السيدة «و» بأن تعلّمه قليلاً وكان سليم خجولاً جداً فقبل، خوفاً، من أن يسيء التصرف. فجعلنا نرقص والتهت السيدة «ك» بتدبير بعض الشؤون.
ولم ينتهِ القرص الأول حتى وضعت السيدة «ك» قرصاً آخر موسوماً «إني أحبك» ولاحظت أثناء رقص هذا الدور أنّ السيدة «و» جعلت ذراعها حول عنق سليم بدلاً من أن تضع يدها على كتفه، وأنها كانت تضغط عنقه كلما صاح المغني «إني أحبك».
فلما انتهت هذه الرقصة رأيت سليماً قد تبدل كثيراً. رأيته منفعلاً أيّما انفعال وهو ما لبث أن التفت إليَّ وقال:
«هلمَّ نذهب يا صديقي. فإنهم ينتظروننا».
ولم ينتظر أن أجيبه بل إنه أسرع إلى السيدة «ك» فشكرها وودعها ثم تحول إلى السيدة «و» فودعها وودع الآنسة أسما وخرج تاركاً السيدة «و» مبهوتة جداً. وفعلت أنا مثل فعله وتبعته مهرولاً، وقطعنا الطريق كلها صامتين حتى بلغنا منزل سليم ودخلنا غرفته، فذهب سليم لتوّه إلى البيانو وشرع يوقع ألحان قطعته التي كان قد أسمعنيها، ولكنه أكسبها هذه المرّة قوة مؤثرة شديدة. وقد خيّل إليَّ أنه بدّل فيها أو زاد عليها. فاقتربت من البيانو ونظرت في وجهه فوجدت عينيه محمرتين والدموع تجول فيهما.
كانت المرّة هذه، الأولى التي لاحظت فيها ظاهرة غريبة من هذا النوع لم أكن أعهدها في صديقي سليم من قبل. وانتهت القصيدة الموسيقية، ولكن يديّ سليم ظلتا ضاغطتين على المواقع الأخيرة بينما كان هو يحدق في الأفق من النافذة. وكأني به سها عن وجودي معه في الغرفة، لشدة ما هو فيه، فرفع يديه عن مواقع البيانو وأخرج من جيبه محفظة فتحها وأخذ منها صورة وجعل يتأملها ويزيد التأمل كأنه يبحث فيها عن شيء جديد أو يتفقد شيئاً قديماً عزيزاً. وبعد أن أطال النظر إليها أدناها إلى شفتيه وطبع عليها قبلة طويلة. ثم أخرج من جيبه منديلاً مسح به الدموع التي أخذت تتدفق من عينيه تدفقاً.
في هذه اللحظة انكشف لي سر الانفعال الشديد الذي استولى عليه على أثر تطويق السيدة «و» عنقه بذراعها البضة وضمها إياه إلى صدرها أثناء الرقص، وتأكد لي أنّ حباً خالصاً قوياً يفعم نفسه، ورأيت أنّ سليماً في حاجة إلى الاختلاء وأنّ وجودي معه لا يخفف شيئاً مما به. فانسللت من الغرفة وعدت إلى منزلي وقد عقدت النية على أن أزوره في الغد. فلما زرته في اليوم التالي وجدته أميَل إلى الهدوء وإن كان في مظاهره ما ينم عن بقية جزع.
مرت على أثر ذلك أيام عاد بعدها إلى سليم صفوه وعاوده جذله ونشاطه فعكف على عمله الموسيقي بارتياح نفسي جليّ، وتفاءلت أنا خيراً إلى أن كان ذات يوم زرته فيه فوجدته جالساً إلى البيانو على عادته، وأمامه أوراق السلّم الموسيقية ينظم عليها أنغامه الجديدة، ويجربها ثم يمحو ويغيّر ويبدل حتى يستقيم له النغم الذي يريد. فجلست حذاءه وأخذت في مطالعة كتاب أدبي كان بيدي وتابع هو عمله. وبينا نحن كذلك إذ بالباب قد طرق ودخلت خادمة البيت وفي يدها كتاب دفعته إلى سليم ففتحه وقرأ وفكر قليلاً ثم دفعه إليَّ فتناولته وقرأت:
«عزيزي سليم
«لقد مرت الأيام وكادت تكرّ الأعوام على اجتماعنا في منزل السيدة «ك» وكنت كل هذه المدة أتردد إلى هذه السيدة معللة النفس بالحظوة بلقياك ولكن على غير طائل. قد تستغرب هذا الأمر مني ولكن هو الواقع الذي لم يبقَ لي سبيل إلى كتمانه عنك، فإنك قد وقعت من نفسي موقع الحبيب الذي أصبو إليه وأشتهي مرآه، بل إنّ حبك قد تملكني حتى لم يَعُد في قوس صبري منزع وأنا التي كنت من الهيام مناط الثريا، فلم يجرّب رجل أن يستهويني إلا كانت الخيبة نصيبه. ولكني وجدتك رجلاً لا كالرجال، بل لا أبالغ إذا قلت إنه ليس لك مثيل في هذه البلاد العجيبة الغريبة. وإني كلما رأيتك مرة في الشارع عدت إلى البيت وفي نفسي ثورة لا تستكن.
«إني ترددت كثيراً في كتابة هذه الرسالة إليك ولكن العاطفة كانت أقوى من الإرادة، وقد دفعني الحب فاندفعت. فإذا بلغتك هذه الرسالة فاعلم أني بانتظارك كل يوم بعد الظهر في منزل السيدة «ك» ولا أراك إلا ملبياً نداء الغرام. ولك مني الآن قبلة حارة أطبعها على توقيعي».
»و«
ولمّا فرغت من قراءة هذا الرقيم تبادلت وسليماً نظراً طويلاً ثم نهض سليم من مجلسه كمن تنبه لأمر خطير، وذهب إلى طاولة صغيرة واقفة في زاوية من زوايا الغرفة، وكان يتخذها مكتبة له، فجلس إليها وتناول ورقاً وقلماً وكتب رسالة إلى السيدة «و» أطلعني عليها فإذا هي كما يلي:
«أيتها السيدة العزيزة
«لقد جمعتنا الصدفة في بيت السيدة «ك» للمرة الأولى، وإنه ليؤسفني أن يكون ذاك الاجتماع قد أوجد في قلبك مثل العواطف القوية التي تتحدثين عنها. يؤسفني ذلك جداً لأني أشعر بما تعانين في حياتك من الآلام الداخلية دون أن يكون في إمكاني تخفيف شيء منها. وإني لو حاولت ذلك لكنت كاذباً في ما أقول أو أفعل وقلبي لا يطاوعني على الكذب وضميري لا يرتاح إلى الخيانة. فإن حباً حقيقياً يملأ نفسي، ومتى وُجد الحب الحقيقي فلا سبيل إلى التبديل، وكل محاولة من هذا القبيل تكون بلا شك محاولة فاسدة فاشلة. ولا أظنك ترضين الفشل لنفسك ولي. فتحمّلي آلامك بصبر فذلك فضيلة يندر مثلها ولا تدعي رجلاً ينغمس في الإثم. ثقي بأنني أشعر بالألم الذي تشعرين، ولكن لتكن آلامنا عبرة لا نكبة، وإذا كانت نكبة فمن الخير أن تبقى فينا، ومن الشر أن تنتقل إلى غيرنا.
«أشكر لكِ مدحكِ إياي، ولكنك أخطأت في وضعي فوق أبناء قومي فما أنا إلا واحد منهم. وأرجو أن تحملي كلامي هذا على محمل الإخلاص. وإذا كانت العواطف التي في قلبك حقيقية فهي ولا شك تعينك على فهم ما أغلق على الآخرين، والفهم يحوّلك على طلب العزاء الخاص، الذي قد يكون مصدراً للضرر، إلى طلب العزاء العام، فكلنا يحتاج إلى العزاء. وتكرمي بقبول سلامي واحترامي».
«سليم«
وكان هذا الكتاب آخر العهد بالسيدة «و».
ومرت بعد ذلك الأيام تباعاً. ومضى سليم في توقيعه وتأليفه، وكنت أجيء إليه كيوم أطَّلع على تقدمه في عمله، وأسمع ما يجريه من الأنغام الجديدة التي تمثّل عواطف قلبه القوية وأفكار دماغه السامية، وأبدي له ما يحدثه توقيعه فيَّ من التأثير العميق، ثم أعود وقد تولاني جذل لا مزيد عليه. وكان أني انقطعت عن زيارته خمسة أيام متوالية كنت فيها مشغولاً بالبحث عن العصر الذي عاش فيه الشاعر السوري الإكليريكي القديم، الذي ذكر تاريخ الأدب الألماني لمؤلفه ألفرد بيزى أنّ قصائده الإلهية ترجمت إلى اللاتينية، ومن هذه إلى الألمانية وغيرها، وأنها سببت نهضة شعرية في كل أوروبة. فلما زرته بعيدها لم أجده جالساً إلى البيانو كعادته بل ألفيته طريح الفراش في حال لا أخشى التصريح بأنها هالتني، فإن الأيام الخمسة الماضية كانت قد بدلته تبديلاً غريباً. فاصفر وجهه ونحل، وذبلت عيناه وهزل جسمه ومال إلى السقم، ونمَّت نظراته عن ألم نفسي عظيم. أثَّر بي منظره وهو على هذه الكيفية تأثيراً عميقاً، وشعرت عين شعور الملوِّن الفني الذي يعرف قيمة التلوين حين يرى ملونة بديعة جديرة بالخلود قد تمزقت أو متحفاً فنياً فخماً قد التهمته النيران، أو شعور الإنسان الذي يشاهد مدينة ضخمة عظيمة قد طغى عليها بركان هائل وأخذها على حين غرة. ولكن في الناس أنانيين شديدي التمسك بأنانيتهم، حتى أنهم لو شاهدوا تهدُّم مدينة عظيمة زاهرة أو تلاشي شعلة الشباب والحياة من جسد إنسان لما شعروا بغير ما يشعرون حين ينظرون إلى شمعة تذوب احتراقاً أو إلى زهرة تذوي لانقطاع الماء عن جذورها والطل عن أوراقها. وهل يشعر الأناني بشيء حين يرى ذوبان شمعة أو ذبول زهرة؟ أنّى للأناني أن يفقه شيئاً من هذه الرموز وهو منصرف بكلّيته إلى لذاته ومصالحه؟
وقفت عند السرير أتفقد حال صديقي بلهفة وجزع، ولكن سليماً أجابني على نظراتي بتبسّم وضح لي فيه معنى السخرية من كل شؤون الحياة. وكان وسط ما هو فيه من عواطف وزعازع داخلية يتمسك برباطة جأش نادرة المثال، فلم أتمالك عن الإعجاب به لهذه الخلّة إعجاباً فاق ما كنت أضمره له من الإعجاب بأخلاقه وفنه. ثم إنه لم يلبث أن خاطبني قائلاً:
«ما بالك واقفاً والكرسي إلى جانبك؟ إجلس لنتحدث قليلاً. أين كنت كل هذه المدة؟».
فجلست على الكرسي الذي أشار إليه. وقلت:
«كنت أنقب عن العصر الذي عاش فيه تاتيان العظيم».
ــــ «تاتيان؟ ومن تاتيان هذا؟».
ــــ «يذكر المؤرخ الأدبي الألماني ألفرد بيزى، أنّ تاتيان شاعر سوري إكليريكي مجيد نظم قصائد روحية كان لها تأثير عظيم في تطور الشعر الأوروبي عامة والشعر الألماني خاصة».
فزفر سليم ثم قال:
«هل توفقت في تنقيبك أو هل عثرت على شيء من قصائد هذا الشاعر؟».
ــــ «كلا. فالوقت لم يكن متسعاً بهذا المقدار ولا يخفى عليك أنّ آثارنا الأدبية مبعثرة تبعثراً لا مثيل له. وليس في البلاد معاهد أو مكاتب عامة، أو خاصة تهتم بجمع شتات الآثار الأدبية السورية. والمؤسف أن يكون جلُّ أدبائنا، إن لم يكن كلهم، جاهلين تاريخ أدبهم القومي جهلاً فاضحاً، حتى أنه لا يكاد يوجد بينهم من شعر بوجوب التوقف عن ثرثرته ولو فترة قصيرة لينظر في حياته الأدبية نظراً أعمق من النظر السطحي الذي تعوّد أن يلقيه على الأدب والحياة جميعاً. إنّ معظمهم يسيرون في مقدمة الأدب التقليدي».
وما كدت أنتهي إلى هذا الحد حتى رأيت وجه سليم قد جفَّ وتجهّم دليلاً على زيادة آلامه النفسية. فصمتُّ وكنت راغباً كل الرغبة في معرفة السبب الذي ألقاه في الفراش لغير مرض، ولكني أشفقت عليه وصبرت على مضض. وبعد هنيهة قال سليم:
«إنّ آلاماً عظيمة، آلاماً لم يسبق لها مثيل، تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا، إذ ليس على الواحد منا أن ينكر ذاته فحسب، بل عليه أن يسير وحيداً بلا أمل ولا عزاء، لأن حياتنا الاجتماعية والروحية فاسدة. فكيفما قلبت طرفك رأيت حولك نفوساً صغيرة متذمر من الظلمة التي هي فيها لكنها لا تجرؤ على الخروج إلى النور. وإذا وُجدتْ نفس تمدّ يدها إليك مريدة أن ترافقك في سيرك نحو النور وُجدتْ ألف يد أخرى قد امتدت إليها لتبقيها في الظلمة. ليس لابن النور صديق بين أبناء الظلمة، وبقدر ما يبذل لهم من المحبة يبذلون له من البغض». وزفر صديقي زفرة حارة وتابع ذلك بلهجة ساخرة: «ولأهل الظلمة مقاييس للأخلاق والشرف والخصال! والويل لمن يتخطى حدود هذه المقاييس! ولهم أيضاً حدود للعواطف البشرية من تجاوزها كان معرضاً للسخط والانتقاد الشديدين. فإذا وجدت فيك عواطف تحملك على ترك المطالب الأنانية والأغراض الهزيلة وترفعك نحو مطلب أعلى يسمو على الشؤون الدنية فأنت معذب عذاباً أليماً بين أبناء هذا الجيل في هذا الوطن السيّىء الطالع».
قلت: «إنك تتكلم الآن بمرارة نفس شديدة فهلا زدت ثقتك بي وأطلعتني على ما دهاك لعلّي أجد رأياً فيه الخير؟».
ــــ «لا حد لثقتي بك. ولكني أشفق أن تتحمل فوق ما أنت متحمل».
ــــ «لا تشفق. فليس العلم بالسوء أعظم وطأة من الشعور به».
فنظر إليَّ نظراً طويلاً ثم تناول من تحت وسادته كتاباً دفعه إليَّ فقرأت:
«صديقي العزيز
«أخشى أن يكون الليل الذي لا صبح بعده قد أقبل، فإني أكتب إليك هذه الكلمات القليلة لأسألك أن لا تأتي إلينا بعد اليوم وهذا خير لك ولي. ثق بأني قد فكّرت ملياً قبل أن أقدمت على هذا السؤال وإذا كان لي في قلبك شيء من الاحترام فاحسبني صديقة ميتة. لا تكتب ولا تجتهد في أن تراني واعلم أنّ أحد هذين الأمرين يسبب لي آلاماً شديدة.
«أستودعك الله وإياه أسأل أن يشجعك ويمدك بالصبر في حياتك».
«صديقتك«
أعدت قراءة هذا الكتاب باعتناء زائد، ثم رفعت رأسي وقد تجلّت لي خطورته وخطره. فقال سليم: «ليس هذا كل شيء. إقرأ هذا أيضاً» وناولني كتاباً آخر تاريخه بعد تاريخ الكتاب المتقدم وعبارته كما يلي:
«حضرة السيد الأكرم
«بعد السلام أبدي أنه بالنظر إلى الصداقة التي تربطني وامرأتي بعائلة الآنسة دعد، فإن أم هذه الآنسة قد كلفتني وامرأتي بمخاطبتكم في قضية إبنتها، تلك القضية التي طال أمرها تشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها. فإذا أحببتم فتفضلوا بزيارتنا في منزلنا الكائن في شارع «م» لنتباحث وإياكم بهذا الشأن إتماماً لرغبة السيدة الفاضلة سلمى ودمتم.
«ج«
«حاشية: إذا قبلتم الدعوة فأرجو أن يكون حضوركم الساعة الثامنة مساء الجمعة أو السبت القادم».
وما كدت أنتهي من تلاوة هذا الكتاب، حتى أدركت أنّ صراعاً شديداً يجري بين نفسيتين: الواحدة تنظر إلى مثال أعلى تريد تحقيقه والأخرى تنظر إلى المادة ولا تهمّها مطالب النفس. وقد استوقف نظري في هذا الكتاب عبارتان: أولاهما قول المرسل «تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها» ففي هذه العبارة خشونة هي أقرب شيء إلى الوقاحة، ناهيك باستعمال لفظة «قضية» استعمالاً قزَّت منه نفسي وأحسست أنّ الرجل يتكلم كلام من يريد القيام بمساومة تجارية مادية. أما العبارة الثانية فهي قوله «ودمتم»!
أثار فيَّ هذا الكتاب عاصفة شديدة من الغضب وأخذت الخواطر تتوالى على مخيلتي. فأعدت الكتابين إلى سليم ونهضت من مجلسي وشرعت أتمشى في الغرفة وأخاطب صديقي فقلت له:
«إني أفهم الكتاب الأول تمام الفهم، فإن عبارته المقتضبة تدلني على أنّ صاحبته كتبته في ساعة انفعال شديد. أما الكتاب الثاني ففيه ما ليس يشهد لصاحبه بصفاء السريرة، وأعترف أني لا أفهم السبب الذي حمله على تسمية الأمر «قضية». وقوله: «حتى لم يعد يحسن السكوت عنها» يدل على وقاحة وخروج عن التفويض الذي يزعمه، لا أدري كيف أعلله».
فتبسم سليم ببرودة وقال:
«أما أنا فلست أرى فيه شذوذاً عظيماً عن القاعدة المتبعة في هذا المحيط وهذا الزمان. أفلم تختبر كيف أنّ الناس هنا لا يتركون كبيرة ولا صغيرة مما لا يعنيهم إلا وتدخلوا فيها، فهم إذا اجتمعوا بأحد الناس لم يكفهم أن يتعرفوا إلى شخصيته، بل اندفعوا يبحثون عن جميع شؤونه العامة والخاصة. وهم لا يتوانون حتى يقفوا على كيفية معيشته بجميع دقائقها، كساعات أكله وشربه ونومه واستيقاظه ومقدار أرباحه وخسائره وكل ما له علاقة بحياته الخاصة. ولست أدري كيف اكتسب قومنا هذه الصفة اليهودية الذميمة، التي تجعل حياتهم منحطة انحطاطاً كبيراً يذهب باحترام النفس وسائر المزايا الشريفة التابعة له».
ــــ «وماذا أجبت السيد «ج»؟».
ــــ «لم أجبه بشيء، فغد الجمعة، وقد عزمت على الذهاب إليه غداً في الموعد المضروب».
ــــ «أعزمت حقيقة أن تذهب إليه؟».
ــــ «عزمت ولكن ليس من أجلي أنا نفسي»، ونظر إليَّ طويلاً ثم تابع، «ولا أرى مانعاً من ذهابك معي إذا أحببت».
فأطرقت هنيهة ثم قلت:
«قد قبلت اقتراحك».
فمد يده إليَّ وقال: «إذاً سأكون بانتظارك».
فصافحته بحرارة ووعدته بالمجيء، ثم ودعته وانطلقت وكلّي أفكار وهواجس، لأني أشفقت عليه من مقابلة الغد التي تطيّرت منها.
وفي اليوم التالي كنت عند سليم الساعة السابعة والنصف تماماً. وفي الساعة الثامنة تماماً نزلنا من العجلة أمام منزل السيد «ج» في شارع «م» فاستقبلنا الرجل في الباب وأدخلنا مسكنه الذي كان بسيطاً جداً وقادنا إلى غرفة داخلية كانت امرأته جالسة فيها، فقدَّمني سليم إلى السيد «ج» وامرأته وجلسنا. وزاد سليم على تعريفه إياي قوله: «إنّ السيد «أ» صديقي الحميم وموضع سري». فكأنه أراد بذلك أن يطمئن صاحب الدعوة وامرأته فلا يمتنعان عن التحدث في الغرض من الاجتماع.
فلما استقر بنا المقام أخذنا في حديث عام في بعض الشؤون السياسية والاجتماعية. وظهر أثناء الحديث أنّ السيد «ج» يتسرع في الفهم وفي الجزم بالأمور التي يتسع فيها مجال الدرس والاستقصاء. ولا بأس بأن أصفه وصفاً موجزاً فهو ليس من ذوي القامات الطويلة ولكنه يعلو عن متوسطيها قليلاً، أسمر البشرة، مستطيل الوجه، أنفه دقيق، متقلص الجانبين قليلاً، تعلوه نظارتان مشدودتان عليه، ورأسه كبير ولكنه أكثر بروزاً في القحف منه في الجبهة. وعلماء الحيوان يستدلون بمبروز القحف على قوة المراكز الغريزية الحيوانية، فهو على عكس بروز الجبهة وسعتها الدالين على قوة مراكز الذكاء والفهم. أما علماء التشريح فيضربون صفحاً عن كبر الرأس وشكله ويؤكدون أنّ دليل مقدار الذكاء والفهم والقوى المدركة يجب أن يكون في تعاريج الدماغ وتلافيفه. ولكن لما كان الوصول إلى معرفة مبلغ تعاريج الدماغ أمراً شاقاً لأنه يقتضي عملية جراحية خطرة، وجب علينا أن نكتفي بالبراهين التي يقدمها لنا علماء الحيوان والإنسان في حكمنا على الأشخاص الذين نتعرف إليهم. وليس في نظر السيد «ج» استقرار وإمعان يستدل منها على تعمق ونضج، ولا يوجد في وجهه تجعدات تنم عن اختبارات شاقة في الحياة وهموم تابعة لها. أما زوجه فكانت أقصر منه قليلاً مخروطة الوجه، دقيقة الشبح، بسيطة الهندام، وليس في مظهرها شيء غير عادي. والاثنان يتكلمان بلهجة الخبير المحنك.
وتطرقنا في الحديث إلى ذكر بعض شؤوننا القومية، فاندفع السيد «ج» في الكلام على «السوريين»! هذه الكلمة «السوريون» كم نلوكها وكم نمضغها في كل مجتمع وكل حديث! آه كم نحن مغرمون بالكلام على قوميتنا السورية، فكل واحد منا يتكلم عن السوريين يصير فيلسوفاً، وكل واحد منا يحاول أن يرقى إلى الفلسفة بنقد السوريين وإظهار مواطن ضعفهم. وقليلون هم الذين يعرفون قيمة الرصانة في هذا الموضوع، وأقل منهم الذين يدركون أنّ تحسين حياتهم وتقويم أخلاقهم أفضل كثيراً وأعظم نتيجة من الإكثار من نقد المجموع والإنحاء عليه باللائمة! ولعل القارىء تعب من كثرة ما سمع من الكلام في هذا الموضوع الدائم في حياته اليومية. ولكن لما كنت أريد أن أكون أميناً في روايتي لم أرَ بداً من تسجيل ما فاه به السيد «ج» بهذا الصدد، قال:
«السوريون فاسدون. فهم لا يقدمون على أمر إلا ظهر فيه فسادهم وعجزهم». ووضع لفافة التبغ في فيه وبعد أن دخّن حاجته تابع: «الدليل على فساد حياة السوريين أنهم خالون من الفنون الجميلة ولا يعرفون قيمة المبادىء. ولولا ذلك لما كانوا قصروا عن بلوغ المراتب التي بلغتها الأمم الأخرى. لقد قلت هذا الكلام في مواقف متعددة وجميع الذين سمعوني كانوا يقولون إنّ الحق معي» وعاد إلى تدخين لفافته وهو يبتسم ابتسام المسرور من نفسه لوقوعه على اكتشاف خطير وبريق عينيه يدل على ارتياحه الشديد إلى ما يقول.
قلت: «لا أعتقد أنّ شعبنا على ما تذكرون من الفساد. أجل، يوجد فينا عيوب تهذيبية كثيرة ولكن نهضة إصلاحية مخلصة تكفل إزالتها».
قال: «ومن أين يأتي الإصلاح؟ أين رجال الإصلاح؟ أين رجال الإخلاص؟ أين النوابغ؟ أين أهل العزيمة والإقدام؟ بل أين رجال التضحية؟ إنّ ما تقولون رأي جميل ولكن الأمر عبث، عبث».
فأدركت الدرك الذي تحوم حوله أفكار الرجل ورأيت أنّ عدم الكلام خير وأبقى. فصمتُّ وصبرت حتى بلغ السيد «ج» منتهى ارتياحه.
وأخيراً انتهى هذا الحديث التمهيدي الذي كنت قد ابتدأت أشعر بملل منه وجاء دور البحث في «القضية». فقال السيد «ج» يخاطب سليماً:
«بما أننا أصدقاء عائلة الآنسة دعد ويهمنا مصير هذه الفتاة، وبما أنّ والدها المتغيب في أميركة يعتمد علينا، فقد أحبّت أمها السيدة سلمى أن تستعين بنا في قضية العلاقات التي بينكم وبين إبنتها وكلفتني أنا وزوجي بمخابرتكم في هذا الصدد. وهذا هو القصد من دعوتكم إلى هذا الاجتماع كما تعلمون. فأرجوكم أن تكونوا صريحين معنا في الحديث الذي يدور بيننا لكي نصل إلى حل نهائي لهذه المسألة. ولا تسهوا عن أنّ السيدة سلمى تريد معرفة الحقيقة بكاملها لأن إبنتها عزيزة عليها جداً وهي حريصة جداً على مستقبلها وسعادتها».
فقلت في نفسي إنّ الرجل يتكلم بأسلوب وعناية. وقد بدا لي أنه يريد أن يظهر الآن بغير مظهره في كتابه حين ذكر «تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها».
أما سليم فأجابه:
«وحقيقة أي أمر تريد السيدة سلمى أن تعرف؟».
ــــ «إنها تريد أن تعرف مركزكم بالتمام ومقدرتكم المادية».
ــــ «إذاً الأمر بسيط وقريب المتناول. فالسيدة سلمى تعلم، وأنتم أيضاً تعلمون، أني موسيقي أشتغل في نظم الألحان وصوغ الأنغام، وعدا ذلك أعطي دروساً في الموسيقى، وموردي الحالي يكفي لمعيشة عائلة بسيطة، ولي أملاك قليلة في غير هذه المدينة، وآمل أن ينتج عملي الموسيقي خيراً في المستقبل. ولا أظن السيدة سلمى تجهل الغاية من علاقاتي بابنتها، فهي تعلم أمر حبنا ويمكنها أن تعلم الآن أني مستعد لعقد خطبتنا والتأهب للزواج».
فقالت السيدة «ج»:
«من يعرفكم في هذه المدينة؟».
فبادلني سليم النظر. ثم قال:
«لا يعرفني جيداً هنا سوى صديقي السيد «أ» وعائلة صديقي السيد حسني وعائلتان أخريان فلست هنا بين أهلي».
وقلت أنا: «إنّ عائلة السيد سليم مشهورة بخدمة العلم والفن ولأفرادها ذكر في التاريخ، وصديقي سليم يبذل من نفسه في سبيل فن جميل كبير الشأن في الهيئة الاجتماعية».
قالت تخاطب سليماً:
«لقد سألت الكثيرين عنكم فكان الجواب واحداً وهو أنهم لا يعرفونكم، ولكنهم يعرفون أنكم غريبو الأطوار!».
فقال سليم: «أيجوز لي أن أسأل من هم الذين تفضلت بسؤالهم؟».
ــــ «سألت عائلة السيد «ر» وعائلة السيد «ح» وعائلة السيد «س» وعدداً من الرجال الذين نعرفهم».
ــــ «ومن هم السادة المذكورون؟».
ــــ «السيد «ر» تاجر معروف في البلد، والسيد «ح» ماسك دفاتر في محل كبير ومركزه حسن، والسيد «س» تاجر آخر».
سليم: «إني أجهل هذه العائلات تمام الجهل، ومن البديهي أن لا تكون أهلاً لإعطاء معلومات عني. ولا أكتمك أيتها السيدة أنه بلغني أنّ الناس هنا يتقولون كثيراً عني وعن غرابة أطواري، فهم يرون في وجودي في هذه المدينة بعيداً عن أهلي حالة لا يمكنهم أن يعللوها إلا بالسوء. ولكن الإنسان الحكيم لا يأخذ بظنون الناس. والناس إذا ساءت فعالهم ساءت ظنونهم. أما أنا فلم أحفل ولن أحفل بهؤلاء الجماعة الذين يتحدثون عن غرابة أطواري لأني أعرف طباعهم وأعلم أنّ الناس في أكثر الأحيان أعداء لما جهلوا. وإني مرتاح إلى أنّ أطواري تخالف أطوار هؤلاء الجماعة والحياة التي أحياها تخالف الحياة التي تعوَّدوها».
ــــ «ولكن الناس يقولون إنه لم تكن بينكم وبين والديكم مراسلة في بادىء الأمر، وإنّ المراسلة بينكما قد ابتدأت منذ عهد قريب».
فنظر سليم إليَّ نظرة ذكرتني حديثه السابق الذي ذكر لي فيه تدخل القوم هنا في شؤون الفرد الخصوصية. ثم التفت إلى السيدة «ج» وقال:
«وما معنى ذلك؟» ورأيت أنّ صبره كاد ينفد.
قالت: «يجب أن لا تغضبوا لأننا أحببنا الاستقصاء لمعرفة حقيقة أمركم فالذي دفعنا إلى ذلك حرصنا نحن أيضاً على مستقبل دعد».
ــــ «إذن، حضرتك تعتمدين على كلام الناس».
ــــ «إننا لا نعرفكم كثيراً وللذلك نحن مضطرون إلى الاعتماد على ما نسمع».
ــــ «حتى ولو كانا ما تسمعينه مما لا يوثق به؟».
ورأيت أنّ الحال صائرة إلى ما لا تحمد عقباه، ولكن السيد «ج» تدارك الأمر وقال:
«الذي أراه يا سيد سليم، أنّ مركزكم لا يضمن مستقبل الفتاة التي تريدونها زوجاً لكم. ولما كانت السيدة سلمى تريد أن تضمن سعادة إبنتها الوحيدة فلا أعتقد أنها تسلم لكم بعقد الزواج. ولست أقول إنّ السيدة سلمى لا تفقه معنى العشق والغرام والهيام، إنها تعلم كل ذلك، ولكنها تريد الدليل على أنّ مركز من يتزوج إبنتها يكفي لإسعادها».
سليم: «ومن يضمن المستقبل؟ بل من يضمن أنّ السعادة مقرونة بالمراكز؟».
فقالت السيدة: «أما أنا فأرى أنّ الفن ليس عملاً ثابتاً كالوظيفة أو أكيداً كالتجارة».
فقال سليم: «أرى أنّ الحديث قد شطّ بنا عن الغاية ويحسن بنا أن نقف عند هذا الحد. وتكرموا بإبلاغ السيدة سلمى هذا الحديث وهي تتخذ الموقف الذي تراه أفضل».
وعلى أثر هذا الكلام ودّعنا الزوجين وانصرفنا. فلما صرنا خارج المنزل تنفس سليم الصعداء. أما أنا فأقبلت عليه ألومه على صراحته مع السيد «ج» وزوجه وأبديت له اعتقادي بأني لا أرى مبرراً لكثرة الكلام الذي قالاه. فقال:
«لا تزد على ما بي فقد كفاني ما لاقيته من هذه المساومة التجارية. وإذا كنت قد لبّيت دعوة السيد «ج» فالمسؤولية ليست واقعة عليَّ».
قلت: «أرى الأمور صائرة إلى شؤم».
ــــ «إني بريء مما يفعل الناس. فهذان الزوجان يريدان أن يقيسا العواطف وشؤون الحياة الجديدة بمقاييس التقاليد القديمة. أوَلم تسمع السيد «ج» يردد كلمات العشق والغرام والهيام، لأنه لا يفقه شيئاً من معاني الحب النفسي الذي يربط قلبين على طول الحياة من أجل ما هو أسمى من جميع ما يتصوره هو والذين في دائرته. إنه ينظر إلى الحب من وراء شهوات الجسد، لا من وراء عواطف النفس، ويفهمه بعقله الغريزي، لا بعقله الوجداني. أنظر إليه وإلى زوجه كيف يحكمان عليَّ، لأني بعيد عن والديّ أو لأنهما بعيدان عني. إنهما يريان فيَّ شذوذاً عن عادة الشبان المتربين على التقاليد العتيقة الذين يعيشون في أحضان والديهم، يرتكبون ضروب الخلاعة والموبقات في الخارج ثم يعودون إلى حمى عائلاتهم يتحصنون وراءه. فلو عاش هذان الشخصان الشريفان في سيرهما على التقاليد الرثة البالية في عصر الموسيقي الخالد شوبرت فبماذا كانا يحكمان عليه يا ترى؟».
ــــ «وما هي حكاية هذا الموسيقي الذي تخفق لأنغامه العذبة ملايين القلوب؟».
فاستجمع صديقي فكره وقال:
«كان شوبرت ابن رئيس مدرسة فخرّجه أبوه في العلوم الابتدائية والثانوية، ثم أرسله إلى الجامعة للتخصص في أحد فروع العلم. ولكن شوبرت الصغير كان يميل إلى الموسيقى ميلاً شديداً وكانت نفسه مملوءة عواطف قوية فلم يجد لنفسه مهرباً من هذا الفن. فتابع في الجامعة دروسه العلمية إكراماً لأبيه وعكف في نفس الوقت على دروسه الموسيقية، ثم عاد إلى أبيه الذي عيّنه أستاذاً في مدرسته ولم يشأ أن يكترث لميول إبنه الموسيقية، فنشأ عن ذلك أنّ الدروس التي كان يلقيها الأستاذ شوبرت الصغير كانت تتحول من دروس في العلم إلى دروس في الفن وصار يلقّن تلاميذه مبادىء الموسيقي بدلاً من مبادىء العلوم. فاغتاظ أبوه من تصرفه هذا وطرده من مدرسته وبيته وخرج شوبرت الصغير إلى ساحة الحياة وحيداً، ليس له من معين إلا فنه. وكان لذلك العهد خامل الذكر، مجهولاً بين أهل الفنون. وكان مضطراً إلى تحصيل قوته اليومي، فأخذ في بادىء أمره يشتغل ضارباً على البيانو في بعض الحانات، ومرت أيام مُرّة وصعوبات شاقة ذاق من العذاب ألواناً. ولكنه انتصر أخيراً بمنظوماته الموسيقية التي تحوّل القلوب الحجرية إلى قلوب من لحم ودم. وأصبح شوبرت الطريد شوبرت المحبوب الخالد. إنّ في حكاية شوبرت لعظة لقوم يعقلون. ولكن الناس الخاملين تعوّدوا أن يقيسوا غيرهم بمقياس خمولهم والنتيجة تكون دائماً وأبداً غير ما يتوقعون».
لما بلغ سليم هذا الحد من الكلام كنا قد بلغنا ساحة المدينة الكبرى وهي محاطة «بالكبريهات» التي يرقص في كل منها عدد من الراقصات اللواتي اتخذن الخلاعة، لا الرقص فناً. فقال لي سليم: «تعال معي» فتبعته ودخلنا أحد هذه الكبريهات، فإذا المكان مكتظ بالشبان المجتمعين حول موائد صفَّت عليها الأقداح والكؤوس، وجوّه مفعم بالدخان المتصاعد من لفافات التبغ العديدة وهواؤه فاسد سام. فقادني سليم إلى زاوية فيها مائدة غير مشغولة فجلسنا إليها وجعلنا نراقب ما يجري. وإذا بشاب قد وقف بين جماعة من رفقائه كانوا جالسين بالقرب منا، وهو يحمل بيده كأساً ملآنة خمراً وصاح برفقائه:
«يا رفقاء! اشربوا ولا تحسبوا! فأنتم اليوم مدعويّــي لأن الحسناء «غاري» ستكون لي الليلة!».
وتأملت الشاب فوجدته مضرج الخدين وعيناه محمرتان من تأثير الخمر والدخان ولباسه يدل على أن من الذين أحوالهم المادية حسنة. وكذلك كان رفقاؤه. ثم رأيته يأخذ ذراع فتاة كانت جالسة إلى جانبه ويقودها إلى ساحة الرقص التي في وسط المكان ووجهه يطفح حبوراً. فلما عاد من الرقص ملأ كأس الفتاة وكأسه وجلس يشرب ويسقيها. فقلت لسليم: «بئس الشباب شباباً هذا» فأجابني:
«لا يا صديقي، لا تجدّف! فإن هؤلاء جميعاً من القوم المعروفين في المدينة. سل من تشاء يجبك أنهم من أخيار الناس فلو كنت رفيقاً لهؤلاء في مثل هذه الليالي وعشيراً لهم لكانوا هم وعائلاتهم يشهدون لي لنيل رضى السيد «ج» وزوجه! هلمَّ نذهب فلست أطيق ضوضاء الجاز».
فرافقت سليماً إلى منزله حيث ودّعته وعدت إلى غرفتي فكتبت مذكراتي اليومية، وجلست أفكر في ما صار إليه صديقي من الضنى والنحول وما يكابده من الألم النفسي، ثم اضطجعت في سريري ونمت بعد هواجس جمة. وكنت في اليوم التالي مدعواً لحضور حفلة في بعض الأندية الاجتماعية، فزرت سليماً أولاً فألفيته أسوأ حالاً مما كان بالأمس، ولكنه كان هذه المرة جالسا إلى البيانو مكباً على عمله الموسيقي، فحادثته قليلاً وخلّيته وذهبت لحضور الاجتماع.
وكان النادي حافلاً بالعائلات، وأكثر المجتمعين من الشبان والفتيات. وكانت هؤلاء مقرطات مسوّرات يرفلن بحللهن المتنوعة الأزياء. ولكن كان في وجوههن وعيونهن جمود غير طبيعي، جمود صيّرهنّ شبيهات بالتماثيل الرخامية الباردة، الخالية من دلائل الحياة، وأكثرهن من اللائي ارتوت مفاصلهن وامتلأت أذرعهن وسوقهن واسترخت جسومهن وترهلت حتى انعدمت فيهن دلائل النشاط ورشاقة الحركة ولطافة الجلسة. أما الشبان «أبناء العائلات» فأكثرهم مما نال حظاً وافراً من السمن والبدانة وبطء الحركة وبلادة الفهم. وكانوا مقسمين إلى جماعات يتهامس أفرادها كثيراً وهم يحدجون الفتيات الفاترات العيون بأنظارهم المتقدة. وما لبثت أن تبينت بينهم ذلك الشاب الذي كان بالأمس يشرب نخب الراقصة الحسناء «غاري» في كبريه «...» وهو في ثياب المساء، وألحاظه متجهة نحو إحدى الفتيات اللواتي عليهن مسحة من الجمال، وكانت هذه جالسة في حلقة من أترابها تشعر بنظراته وتتكلف التّيه والدلال.
وما كدت أفرغ من تبيُّن وجوه الجماعة والاطِّلاع على أحوالهم حتى رأيت السيد «ج» وزوجه داخلين ورأيت أحد الشبان يسرع إلى ملاقاتهما. وكان هذا الشاب في العقد الثالث من العمر، بديناً، بطيناً، متداخل الخلق لا تقلّ قامته عن قامة السيد «ج» طولاً. ووقعت عين السيد «ج» عليَّ فلم يبقَ لي من محيد عن السلام فأقبلت عليه وصافحته وامرأته. وعرّفاني بالشاب الذي لاقاهما وهو يدعى السيد ميخائيل ثم جلسنا معاً فأخذ الشاب في محادثتي فقال:
«لقد سبق لي أن سمعت باسمكم وإذا لم تخني الذاكرة كنتم قادمين من أميركة».
ــــ «نعم».
ــــ «ماذا كنتم تعملون في أميركة؟» ثم أردف «ليس من شأني أن أوجه إليكم مثل هذا السؤال ولكن اسمحوا لي بذلك فإني أسألكم كما أسأل صديقاً لي».
فقلت في نفسي «إنّ الرجل يوليني نعمة زائدة» وكدت أجيبه بما تستحقه الوقاحة الظاهرة في سؤاله ولكني كظمت غيظي مراعاة للموقف وأجبته:
«كنت أبحث عن الألماس!»
ــــ «وهل وجدتم كثيراً منه؟».
ــــ «كثيراً».
ــــ «وماذا فعلتم به؟».
ــــ «أخزنه لحين الحاجة».
ــــ «ولماذا لا تبيعونه؟».
ــــ «لأني أنتظر ارتفاع ثمنه».
ــــ «أتعجّبُ كثيراً من أمركم! فلماذا عدتم إلى هذه الديار؟».
ــــ «إنّ في ذلك لسراً!».
ــــ «لا بدّ أن يكون الأمر كذلك إذ لا أجد مسوغاً لرجوعكم. وماذا تتعاطون هنا؟».
ــــ «أثقب اللؤلؤ وأجمع الفراش!».
على أثر هذا الجواب رأيت وجه هذا الرجل يحمر ثم يمتقع. وأخذ يجيل عينيه محملقاً كالحائر وظهر أنه ابتدأ يدرك عبثي به. والظاهر أنّ السيدة «ج» أدركت هي أيضاً معنى أجوبتي فتدخلت في الحديث وخاطبتني:
«ولكن الحقيقة يا سيد «أ» أنّ المرء ليحار في أمر وجودكم هنا، فلقد سئلت وسألت أنا بدوري عن سبب ذلك ولكن الحقيقة ظلت مجهولة. فهلا صدقتني وأطلعتني على ما حدا بك إلى ترك الأمصار الغنية الواسعة والتخلي عن كل ما فيها من أسباب الراحة والسرور والعودة إلى هذه البلاد المسكينة؟».
فوجدت في هذا السؤال سذاجة وبلادة يقف المرء أمامها حائراً مبهوتاً. ولكني تذكرت أنّ المرأة التي تلكمني هي إحدى بنات قومي فكان ذلك كافياً لحملي على احترامها. فتغلبت على سأمي من هذا الحديث الذي يمسّ كرامة الإنسان في حريته الشخصية وحياته النفسية ومبادئه الفكرية وأجبت السيدة بصراحة:
«إنّ هذه البلاد المسكينة هي بلادي وإنّ لي فيها مطلباً أعلى قد عدت لتحقيقه».
فصاحت السيدة «ج» وزوجها والشاب ميخائيل بصوت واحد: «آه؟ مطلباً أعلى؟!» وبعد أن تبادلوا فيما بينهم نظرات تدل على الاستغراب قالت السيدة بلهجة فاترة:
«أمن أجل مطلب أعلى عدتم؟!».
ــــ «نعم يا سيدتي من أجل مطلب أعلى».
وعاد الثلاثة إلى تبادل نظرات تنمّ عن الاستخفاف فندمت على صراحتي، وعقدت النية على أن أعود أدراجي في الحال. وزاد في مللي ذلك الجمود القسري الذي ألقى على الاجتماع ظلاً من البلادة ثقيلاً، فاستسنحت الفرصة وتركت القوم في لهوهم الممل ورجعت من حيث أتيت. فلما أمسيت في غرفتي، واستلقيت على سريري عادت الخواطر تزدحم في مخيلتي وفكرت ملياً في أحاديثي مع صديقي سليم وفي الآمال التي عقدناها معاً على نشوء روح جديدة في الأمة تجدد حياتها وتقوي حيويتها تنصرها على عوامل الخمول والجمود. وفيما أنا كذلك إذا بي أسمع ذلك الصوت النسائي الفاتر مقترباً متكرراً:
«أمن أجل مطلب أعلى عدتم؟».
فصممت أذنيّ لكيلا أسمع ولكن الكلمات ارتسمت أحرفاً بارزة أمام عيني، فأطبقتهما. وبعد عراك داخلي عنيف، استولى عليَّ الوسن، ولم أعد أعي شيئاً.
وعندما استيقظت في صبح اليوم التالي شعرت بصداع شديد لِما ساورني من الأحلام المقلقة أثناء هجوعي. ولكني ذكرت سليماً فجزعت عليه ورغبت في أن أعرف حاله. فنهضت وتحممت بالماء البارد، على جاري عادتي، وروقت ضيقة النفس بكوبة شاي وأسرعت بالذهاب إلى منزل صديقي. وكانت الساعة نحو الثامنة، فوجدته جالساً إلى طاولته الصغيرة وأمامه وريقات يكتب عليها. ولاحظت أنه في هذه المرة أكثر سكوناً وأشد نحولاً من ذي قبل، فحييته واقتربت منه ووضعت يدي على كتفه فلم تقع إلا على عظام. فوجف قلبي والتفتُّ إلى البيانو فوجدت الأوراق كما كانت منذ يومين. فقلت:
«هل تكتب رسائل الآن؟».
ــــ «لا».
ــــ «ماذا تكتب إذاً؟».
فقال: «لا أدري ماذا تسمي هذا النوع من الكتابة». وأشار إلى وريقتين أمامه. فتناولتهما فإذا عليهما شعر منثور هذا نصه:
«إذا انبثق الفجر وبزغت الغزالة
وفتَحْتِ عينيك للنور
ورأيتِ الأزهار تنشَقُّ عنها أكمامها
وتنشر في الفضاء عبق أريجها
فاذكري زمناً كان لنا ربيعه
إذ نركض ونقفز وفي قلوبنا اختلاج!»
«لقد مضى ذياك الربيع وهذا الربيع ليس لنا
فأزهاره غير أزهار ربيعنا
وفجره غير فجرنا.
أما المرح والددن فشيء كان
لا. لا تذكري شيئاً مما مضى!
لا تنّبهي الأحلام!»
«الحب وهم؟
هكذا يقولون
فإذا اضمحل الحب فماذا يبقى من الحقيقة؟
حب يذهب مع المساء وآخر يجيء مع الصباح،
فيجب أن لا يقام للحب عهد؟
كذا يقول الجاهلون
لأنهم لا يعرفون
أنّ:
في الحب الجديد
بقية مرّة
من حلاوة الحب القديم!
اللّهمّ،
إلا إذا كان القلب حجراً
والجسم طيناً
فحينذاك لا فرق
بين حب قديم
وحب جديد! «
هذا هو الحد الذي كان سليم قد بلغه قبل قدومي. ولعله كان يريد أن يسترسل في إنفاق عواطفه عن هذه الطريق بدلاً من طريق الموسيقى. فقمت إلى البيانو وأخذت عنه ورقة السلالم الموسيقية التي كان سليم قد سجل عليها بعض ما ابتكره من الأنغام ليضيفها إلى الأوراق الأخرى المفروغ منها تتمة للقصيدة الموسيقية التي كان عاكفاً على نظمها. وبعد أن تمعنت في الأنغام المسجلة عليها قلت:
«إنك في شعرك كثير الرقة والشجو. ولكنك في موسيقاك أرق وأشجى. فإذا عدلت الآن عن نظم الموسيقى إلى إنشاء الشعر فمن ذا يقوم بإنجاز ما بدأته؟ وماذا يكون شأن المطلب الأعلى الذي نظرنا إليه جميعاً؟».
فزفر زفرة كادت تكون زحيراً وقال:
«إنما أردت من هذه الكلمات التي كتبتها أن أجعلها أساساً أدبياً لشجوية موسيقية أروم نظمها لتعبّر عن العواطف التي تتضمنها».
قلت: «ولكني أراك نحيلاً جداً وأعتقد أنك تحتاج إلى الراحة واستبدال الإقليم».
قال: «وماذا يفيد استبدال المكان والانقطاع عن العمل، والمسألة ليست مسألة جسم بل مسألة نفس؟ فالنفس لا تحيا باعتدال الإقليم ولا بتبديل الأجواء ولا بإراحة الجسد. إنّ النفس تحيا بالعواطف فإذا قَتَلْتَ العواطف فكأنك قتلت النفس ذاتها، ولا يقتصر ذلك على الأفراد بل يتناول الأمم أيضاً، فإذا عَدَمَتْ الأمة الشعور الحي فكأنها عدمت وجودها. والشعب الذي يقتل شعور بنيه يقتلهم قتلاً. أنظر إلى هؤلاء الجماعة الذين يبحثون عن حياة الجسد ويهملون حياة النفس، وقل لي ماذا ترى في حياتهم؟ أترى شيئاً غير الخمول يفضلونه على تحمل مشقة النهوض، وغير الجبن يحتمون وراءه لكي يجابهوا مطالب الحياة العليا وما يصحبها من جهاد يضني الجسد؟ هل لا تراهم يقتلون أنفسهم خوفاً على أجسادهم؟ أوَ يعني الحب عندهم شيئاً يعلو على حاجة الجسد؟ جرِّدهم من كل كرامة أخلاقية ومن كل محبة نفسية ومن كل عاطفة سامية فذلك أهون عليهم من أن تهان جسومهم. آه كم تؤلمني هذه الحقيقة».
فأعدت ورقة السلالم الموسيقية إلى مكانها ولزمت الصمت، لأن عبارات صديقي كانت كأنها صدى أفكاري وشعوري. ورأيت أنه يحتاج إلى ما ينعش قوّته فقلت: «هل تأمر لي بكوبة شاي؟» فقال: «بطيبة خاطر» وأرسل يأتي بذلك. فلما جاء الشاي جلسنا نشرب وشرعت أحدّثه في أمور من شأنها أن تسرّي عنه. وبعد أن انتينا ودّعته وتركته ليعود إلى تأملاته التي تمليها عليه نفس شديدة الإحساس، عظيمة الشعور، وعدت إلى منزلي كسيف الوجه جزعاً.
وفيما أنا جالس في غرفتي أتأمل في حال صديقي، خطر لي أن أزور السيدة سلمى أم الفتاة دعد لأعرف موقفها من «القضية»، فانتظرت إلى المساء ثم ذهبت إلى منزل سليم أولاً ودخلت عليه فوجدته يبدل ثوباً بثوب ويستعد للخروج. فسألته إلى أين يقصد فقال: «إلى بيت دعد لأن أمها تريد محادثتي» فقلت: «ألا سبيل للذهاب معك؟» فقال: «نعم. لا سبيل إلى ذلك».
ــــ «إذاً أستحلفك أن تطلعني على ما تقوله الأم».
ــــ «سأفعل» وخرج على الأثر.
وفي اليوم التالي قصَّ عليَّ سليم ما قالته الأم، ومفاده أنها تريد سعادة إبنتها وأنها لهذا السبب، لا تقبل أن يكون زوج إبنتها موسيقياً ليس له منصب ثابت! وأنه إذا كان يريد إبنتها زوجاً له فعليه أن يتخلى عن عمله الموسيقي ويوجد لنفسه عملاً يزيد أرباحه.
قلت: «إنّ الأم تردد أقوال السيد «ج» وزوجه» فقال: «لا بدّ أنهم تشاوروا وقرروا «إسعاد» دعد كما يفهمون معنى السعادة. ولا بدّ أن يكون السيد «ج» وزوجه قد أظهرا للسيدة سلمى سخافة عقولنا، نحن معشر النفسيين ذوي المطالب العليا، وأطلعاها على حكمتهما البالغة القائلة إنّ الحب مجرّد عشق وغرام وإنّ العشق والغرام فورة عارضة تزول سريعاً، إلى آخر ما لهما من آراء تدل على مبلغ ما يعرفانه من الأهواء الجسدية ومبلغ ما يجهلانه من العواطف النفسية. وهذان هما الصديقان الوحيدان اللذان تعتمد عليهما أم دعد» ثم أردف «ولكن يجب أن لا يلوم المرء السيدة سلمى فهي تجهل نفسيتي ولا تعرف إلاّ ما يقوله لها صديقاها الوحيدان، وهي فوق ذلك أم، ومتى كان حولها قوم هم لحسبان الشر أولاً وحسبان الخير آخراً فقلبها لا يقوى على مقاومة سعايات الناس».
قلت: «ودعد؟».
فوجم وأطرق هنيهة ثم قال:
«أخشى أن أحمّلها فوق ما تحمل. ولا شك في أنها تتألم من جميع ما حدث لي ومن الكتاب الذي أرسلته طالبة إليَّ أن لا أعود إلى زيارتها، وما أطن أنها أرسلته إلا مرضاة لأمها التي هي وحيدتها، وإني لا يخامرني أدنى شك في محبتها وإخلاصها لي. وقد مضت كل هذه المدة دون أن أحظى بلقياها حتى صرت أخشى أن تكون مريضة أو أن تكون أرسلت إلى مدينة أخرى ظناً بأنها تسلو وتنسى. وهل تعلم أنّ شاباً يدعى ميخائيل يصبو إلى طلب يدها وأنّ السيد «ج» وزوجه يهرفان كثيراً به وبمركزه الحسن عند أمها؟».
فقلت: «نعم أدري» ولم أشأ أن أخبره بخبر الشاب ميخائيل وعائلة السيد «ج» في حفلة النادي لئلا أزيده ألماً على ألم. فتحول عني إلى البيانو، ورأيت أنه يريد أن يخلو بنفسه فودّعته وخرجت مسرعاً، وما كدت أبلغ الشارع حتى طرقت أذني أنغام موسيقية رقيقة خارجة من غرفته.
ومنذ ذلك اليوم صرت أجيء إليه كلما فرغت من عملي فأصرف عنده بضع دقائق أحادثه وأحاول تسليته. ولكني كنت كل مرة أتيته أجده أضنى جسماً من المرة السابقة، لأنه كان لا يطلب الطعام وإذا جيء به إليه تذوقه تذوقاً فقط. كان يذوي كما تذوي الزهرة [التي] منع عنها الماء. فبذلت أقصى جهدي لمعرفة مقر الآنسة دعد لأني كنت على يقين من أنّ كتاباً ترسله إليه يكفي لإحياء ميت آماله وإنعاش قلبه، ولكن محاولاتي ذهبت أدراج الرياح.
وحدث ذات يوم أني زرته فألفيته صريع حمى شديدة، فاستحضرت له نطس الأطباء الذين لم يألوا جهداً في معالجته، ولكنهم لم يوفقوا إلى شفائه. وبينما هو في غيبوبة، إذ ورد كتاب مرسل إليه، فأخذت الكتاب وقلبته بين يدي وتمعنت في خطه، فعلمت أنه خط نسواني وتبينت أنه آتٍ من مدينة «ب»، ورأيت أن أفتحه لأعلم ما فيه، لأني كنت الوحيد الباقي بقرب سليم والوحيد الذي يجوز له إتيان مثل هذا الأمر، ففتحت الكتاب وقرأت:
«عزيزي سليم
«أكتب إليك الآن من هذه المدينة التي أرسلت إليها بقصد إبعادي عنك، لكي أسألك الصفح عن الإساءة العظيمة التي وجهتها إليك في كتابي الأخير. فقد بلغني ما تكابده الآن رغم أنّ أهلي والدائرة المحيطة بي يحاولون جهدهم لمنعي من تنسم أخبارك ومعرفة ما هو جار لك. آه لو تدري كم عانيت من الآلام بسبب الكتاب الذي اضطررت إلى إرساله إليك وكم أعاني الآن من أجل ما أنت فيه.
«علمت أنك زرت السيد «ج» وأنا موقنة بأنك إنما فعلت ذلك من أجلي، ومن أجل المطلب الأعلى الذي جمع قلبينا ووحدهما في سبيل مبدأ يسمو على جميع ما يعتقدون وما يوقنون، ولكن تشجع! فإنهم لن يحولوا بين أعيننا والنور، فالنور لا تمنعه الظلمة. إنهم يريدوننا أن نكون مجرّد أجسام ــــ مادة لا تطلب إلا مادة. أما نحن فنشعر أنّ لنا أنفساً ونحسّ ما تصبو إليه نفسانا، فإذا اضمحل هذا الشيء الذي نشعر به، فما هي السعادة التي تبقى لنا؟ إنهم لا يدرون أنّ تعب النفس لأعظم كثيراً من تعب الجسد، لذلك يبحثون عن راحة جسدي أما راحة نفسي فلا يأبهون لها.
«سليمي العزيز، إصفح عني لما أكون قد سببته لك من الآلام وثق بأني لم أقصد شيئاً من ذلك، وأنّ كل قصدي كان أن أحول دون حدوث ما قد حدث وأن أتحمل الآلام وحدي، لأني أعلم كم تحتاج إلى راحة البال في عملك الشاق. تشجع! فقريباً أكون قريبة منك أما الآن فلك سلام محبتك».
«دعد«
كنت أقرأ وأنا أشعر بأني أكاد أطير فرحاً لورود هذا الكتاب الترياقي العبارة. ولكن لما فرغت منه وتحولت إلى السرير لإيصال البشرى إلى صديقي، انقبضت نفسي أيما انقباض، لأني وجدته قد زهف إلى التلف ولم يبقَ منه إلا رمق ضعيف وذماء قصير. فطويت الكتاب ووضعته في جيبي. وبعد قليل قضى سليم وانتهى ذلك العراك الهائل الذي كان ثائراً في داخله بين مثاله الأعلى وأغراض الناس الأولية المنحطة، بين مرامي نفس كبيرة ومرامي نفوس صغيرة، بين المطلب الإنساني الأعلى والمطلب الحيواني الأدنى.
فلما أعلنت وفاته أقبل نفر من الأصحاب الذين عرفوه واتصلوا به في حياته، وكانوا قلائل، وبعض تلاميذه الذين كانوا يدرسون الموسيقى عليه، في الوقت المعين لدفنه. وقبل أن نخرج به إلى الجبّانة جاءت فتاة ترتدي ثوباً أسود بسيطاً، وذهبت تواً إلى السرير وقفت تنظر إلى جثمانه بعينين مغرورقتين. ثم مدت يدها وأمرّتها على جبينه ووجهه وفاضت من عينيها دموع سخية. كانت هذه الفتاة دعد وكان الحاضرون أثناء هذا المشهد واقفين صامتين كأن على رؤوسهم الطير.
أخيراً هدأت دعد روعها ومسحت عينيها بمنديلها، وتحولت عن السرير وجعلت تجيل نظرها في الحضور حتى استقر أخيراً عليَّ، فتقدمت إليها وخرجنا من الغرفة. فقالت: «أصدقني كيف كانت أيامه الأخيرة وكيف مات؟».
ــــ «كانت أيامه الأخيرة أيام شؤم وعذاب أليم. إنّ الصدمة كانت عنيفة جداً لنفسه الرقيقة الشعور، فقد خيّل إليه أنّ مطلبه الأعلى قد اضمحل وكان تأثره عظيماً جداً. وزاد في عذابه أنّ بعض الناس هنا أضرموا جحيماً مادياً حول نفسه حتى ضاق ذرعاً، واستولت عليه من جراء ذلك حمى مطبقة قضت عليه».
ــــ «أوَلم يرده كتابي؟».
ــــ «كان ورود الكتاب ساعة دخوله في طور النزع. وهذا هو». ودفعت الكتاب إليها فتناولته وهطلت من عينيها دموع غزيرة مسحتها بمنديلها ووضعت الكتاب في حقيبتها.
وكان الجثمان قد وضع في التابوت فسرنا إلى الجبانة وواريناه التراب وسط صمت تام. ثمّ انفرط عقد الجماعة وتفرقوا. ولزمت أنا الآنسة دعد فقالت لي في الطريق: «هل يمكنني أن أعتمد عليك؟».
ــــ «بكل تأكيد».
ــــ «إذاً أريد أن أذهب برفقتك إلى غرفة سليم، لأني أريد أن أقف على ما ترك من آثار موسيقية».
فقلت: «كما تريدين» وذهبنا معاً إلى الغرفة وقدتها إلى البيانو. فوجدنا عليه أوراق سلالم موسيقية تتضمن شجوية صغيرة كاملة، وإلى جانبها ذلك الشعر المنثور الذي ذكرته فيما تقدم. فتناولت دعد المنظومة الموسيقية أولاً وفحصتها، وللحال أدركت رقة أنغامها وظهر عليها أثر انفعال نفسي شديد، ولكنها تجلّدت وتناولت الورقتين المكتوب عليهما الشعر، فما [إن] قرأته إلى آخره حتى تأثرت تأثراً لم تعد تقوى معه ركبتاها على الثبات، وكادت تهوي إلى الأرض لولا أني أسرعت إلى إسنادها واقتيادها إلى المقعد بجانب البيانو، فمددتها عليه وبادرت فأتيتها بكأس ماء بارد فسقيتها منها، ورششت الباقي على وجهها فساعدها ذلك على مقاومة الإغماء، ولما عادت إليها قواها نهضت وعادت إلى الأوراق فجمعتها، وفتحت درج الطاولة الصغيرة الذي كان سليم يحفظ منظوماته الموسيقية فيه، فأخذت دعد الأوراق التي كانت فيه وهي تشتمل على القسم الأول من منظومته الكبرى وجعلت الجميع رزمة واحدة وقالت: «سآخذ هذه الأوراق جميعها».
قلت: «لك ما تريدين فليس من يطالب أو يعتني بها».
قالت: «أشكرك كثيراً. والآن أودعك وقد نلتقي فيما بعد». فمددت يدي فصافحتني بشدة الممتن وشيعتها إلى الباب فانطلقت مسرعة لا تلوي على شيء. أما أنا فعدت إلى داخل المنزل وقلت لربة البيت أنه يمكنها أن تستولي على كل المقتنيات التي خلّفها الراحل لأنه ليس له وارث. ثم ألقيت نظرة أخيرة على الغرفة التي كان يشغلها صديقي والبيانو الذي كان يضرب عليه أنغامه وانصرفت من ذلك المكان ولم أعد إليه منذ ذلك اليوم.
رجعت، بطريقة آلية، تواً إلى غرفتي وانطرحت على سريري معيى، وأخذت أفكر في أيام صديقي الأخيرة والنهاية التي صار إليها ذكرت حديثه لي عن الموسيقى وشأنها في حياة الأمم والبشرية جمعاء، وحكاية شوبرت. واستعدت في ذهني جميع تصرفاته السابقة واللاحقة، منذ أول يوم عرفته إلى آخر يوم، فشعرت أني خسرت صديقاً يندر مثيله، وأنّ الأمة فقدت رجلاً تمثلت روحها في روحه، وجمعت عواطفه أدق وأجمل عواطفها. وهو لو عاش لأتمَّ فعل ما لم يفعله شخص آخر من أبناء هذه الأمة، ألا وهو إحياء نفسها.
وانتقل بي الفكر إلى دعد، تلك الفتاة الجميلة النفس الكبيرتها فقلت في نفسي: أترى يفقه السيد «ج» وزوجه شيئاً مما في نفسها العميقة؟!.
لقد مرت على وفاة صديقي سليم عدة سنوات وقد قضيت هذه المدة مغترباً في أوروبة وأميركة. وأول عمل قمت به بعيد عودتي أني نزلت مساء اليوم الأول لوصولي إلى العاصمة، إلى ساحة المدينة المركزية وأخذت أتنقل بين كبريهاتها لأرى هل طرأ تغيُّر على حياة القوم، فوجدتهم كأني لم أفارقهم إلا ليلة أمس، ولكني رأيت هذه المرة وجوهاً جديدة لم أكن قد رأيتها من قبل.
دخلت أحد هذه الكبريهات عند الساعة الحادية عشرة واتخذت لنفسي مجلساً منفرداً أستطيع أن أرى منه كل مكان وأراقب جميع ما يجري. وبينما أنا مهتم بمراقبة حركات بعض الشبان في إحدى الزوايا، إذا برهط من الرجال تقدموا إلى المكان الذي كنت فيه اتخذوا مائدة محاذية لمائدتي، فتفرست في أوجههم من حيث لا يشعرون. وكدت لعجبي لا أصدق ما أرى حين تبينت بينهم وجه ميخائيل صديق عائلة السيد «ج»، فوجدته قد تغيرت سحنته قليلاً وازداد سمناً. وكان من حسن حظي أنّ ميخائيل جلس منحرفاً قليلاً وصار من الصعب أن يلتفت نحوي ويرى وجهي، فأخذت أدرسه من حيث لا يدري. وكان يدفعني إلى العناية بدرسه رغبتي الشديدة في درس حالات الأشخاص النفسية وتطوراتهم العقلية وفي معرفة ما طرأ على هذا الرجل من التغيّرات الأخلاقية بعد غيابي عنه كل هذه المدة الطويلة.
دار حديث ميخائيل وزمرته حول الراقصات، وجمال كل واحدة منهن وصفاتها وتاريخ حياتها، فعدّوا لا أقل من عشرين راقصة في مدة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة!
فلما بلغوا الحادية والعشرين قال أحدهم لميخائيل:
«إنك كنت سعيد الجد يا ميخائيل، فلم ينل تلك الفتاة أحد سواك. وهي والحق يقال، كانت من أجمل الراقصات اللواتي أممن بلادنا. قل لي كم من الزمن صرفت معها؟».
فقال ميخائيل، وهو يتيه عجباً بنفسه ويلقي الكلام كمن يلقي على من حوله درراً ثمينة دون أن يكترث لها:
«ثلاث سنوات بكاملها. ولو أني قدرت أن أحتفظ بها أكثر لفعلت. إنّ برتا الفتاة الوحيدة التي أحببتها حقيقة. أوَتدري يا حسني أنّ برتا كلفتني خمسماية ليرة عثمانية ذهباً؟».
فقال ثالث: «ماذا أسمع؟ قل لي بأبيك يا ميخائيل، من أين جاءك الوحي الآن لتتكلم عن الحب؟».
فأجاب: «الصحيح أني عشقت برتا حتى إني قاومت بنفوذي دائرة التحري بأمها وأبيها، من أجلها»، قال ذلك بلهجة ملؤها الخيلاء والإعجاب بالنفس، وأردف: «أنتم لا تدرون، يا صحاب أنّ برتا لم تكن ككثيرات من هؤلاء الراقصات. إنها لم تكن قد أحبت أحداً قط، وأنا أول رجل أحبته»، ودق على صدرته توكيداً لما يقول، «إنها أحبتني كثيراً ولا تزال تحبني، فقد كتَبَتْ إليَّ مؤخراً تقول إنها لو تمكنت من جمع أجرة السفر لما تأخرت عن المجيء إليَّ، وقد شكت ما هي عليه بلادها من الفاقة وقلة العمل. ومما يدلني على حبها الشديد لي أنها أرسلت إليَّ في عيد ميلادي رزين من الذهب مرصعين بحجرين كريمين. فكم تكون اشتغلت وقتّرت على نفسها في مثل هذه الأحوال لتقدم لي هذا التذكار؟».
فقهقه رابع وقال: «طبعاً إنّ خمسماية ليرة عثمانية ذهباً تستحق حباً شديداً في مثل هذه الأيام ولا غرو أن تكن برتا مشتاقة جداً إلى العودة إليك!».
وقال خامس، وكان كل هذه المدة صامتاً هادئاً: «إذا كنت عشقت برتا وكان الأمر كما تقول فلماذا لم تتزوجها؟».
فأجاب ميخائيل بحدة: «أتزوجها؟ ها. ها. إسمعوا ولماذا أتزوجها؟».
ــــ «لأنك كنت أول من استولى على قلبها. وأنت تعترف بذلك والإنسان الشهم لا يستولي على قلب امرأة ليقذف بها إلى الحمأة».
ــــ «قد كنت أحسبك فتى عاقلاً، يا فريد، فما بالك تهذي هذا الهذيان، أتريد مني وأنا ابن عائلة معروفة في المدينة أن أتزوج برتا الراقصة؟ نعم إني أعترف بجريمتي فقد أجرمت وانتهى الأمر، ولكن من كان مثلي إبن عائلة لا يتزوج مثلها. ولا تنسَ أنّ لي أخوات في البيت».
ــــ «أعتقد أنّ وجود أخواتك سبب قوي يكفي لحملك على تزوج برتا. وما يدريك أنّ هذه الفتاة ليست إبنة عائلة أناخ عليها الدهر؟».
فحملق ميخائيل بعينيه كثيراً وأدار رأسه يميناً وشمالاً ثم استجمع ما له من حدة ذهن وأجاب:
«أنت لا تعرف مركزي جيداً فأنا إنما أشتغل لحسابي الخاص باسم عائلتي. فلو تزوجت برتا لنقم عليَّ أهلي وخسرت تأييدهم المعنوي، وخسارة هذا التأييد تعني خسارة ثقة مالية بي توازي ثلاثة آلاف ليرة عثمانية ذهباً، وفوق ذلك إعلم أنّ الحب غشاوة رقيقة لا تلبث أن تتخرق وتتبدد، فخير لي أن أتزوج إبنة عائلة معروفة هنا».
فرأيت الشاب المدعو فريداً يهمّ بالإجابة على خطاب ميخائيل، ولكن ضجة عظيمة علت في هذه اللحظة في الزاوية التي كنت أراقبها أولاً واستلفتت أنظار الحضور ومن جملتهم ميخائيل ورفقائه. فلما وجدت الحديث قد انقطع ولم تبقَ لي حاجة إلى زيادة، دفعت ثمن مشروبي وخرجت وأنا أفكر في إبن العائلة هذا وفي أبناء العائلات الذين على شاكلته.
أما دعد فقد التقيت بها بعد أيام فإذا هي لا تزال كما عرفتها أولاً: تسير في الشارع غير ملتفتة إلى أحد ولا ملوية على شيء. تقوم بعملها بكل دقة وترتيب، إلا أنها تتجنب الاجتماعات، وإذا اتفق أن حضرت بعضها فإنها تحضرها بوجه جاف وهيئة جدية فلم يرها أحد قط ابتسمت في اجتماع. والناس يقولون إنه لولا عبوستها وجفاف وجهها لكانت فازت بعروس!
وأما السيد «ج» وزوجه فقد علمت أنهما حنقا حنقاً عظيماً على دعد لأنهما لم يكونا يتوقعان منها هذه الأطوار الغريبة، التي خالفت نظريتهما في الحياة، وخيبت آمالهما والجهود الكبيرة التي بذلاها لحملها على قبول ميخائيل، التاجر المعروف، بعلاً لها ولأنها أنكرت جميلهما لاجتهادهما في إنقاذها من حب شاب موسيقي مات سريعاً على أثر إصابته بحمى مطبقة!
مبادىء الحزب السوري القومي
المبادىء الأساسية:
1 ــــ سورية للسوريين والسوريون أمة تامة.
2 ــــ القضية السورية قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.
3 ــــ القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري.
4 ــــ الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.
5 ــــ الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية وهي ذات حدود جغرافية تميّزها عما سواها، تمتد من جبال طوروس في الشمال إلى قناة السويس في الجنوب، شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب إلى الصحراء في الشرق حتى الالتقاء بدجلة.
6 ــــ الأمة السورية هيئة اجتماعية واحدة.
7 ــــ تستمد النهضة السورية القومية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها القومي والسياسي.
8 ــــ مصلحة سورية فوق كل مصلحة.
المبادىء الإصلاحية:
1 ــــ فصل الدين عن الدولة.
2 ــــ منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين.
3 ــــ إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب.
4 ــــ إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة.
5 ــــ إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن.
قسم الانتماء إلى الحزب السوري القومي
أنا...
أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أنني أنتمي إلى الحزب السوري القومي بكل إخلاص وكل عزيمة صادقة، وأن أتخذ مبادئه القومية إيماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي، وأن أحتفظ بأسراره فلا أبوح بها لا بالقول ولا بالكتابة ولا بالرسم ولا بالحفر ولا بأية وسيلة أو طريقة أخرى، لا تطوعاً ولا تحت أي نوع من أنواع الضغط، وأن أحفظ قوانينه ونظاماته وأخضع لها، وأن أحترم قراراته وأطيعها، وأن أنفذ جميع ما يعهد به إليّ بكل أمانة ودقة، وأن أسهر على مصلحته وأؤيّد زعيمه وسلطته، وأن لا أخون الحزب ولا أي فرع من فروعه ولا أفراده ولا واحداً منهم وأن أقدم كل مساعدة أتمكن منها إلى أي فرد عامل من أفراد الحزب متى كان محتاجاً إليها، وأن أفعل واجباتي نحو الحزب بالضبط، على كل هذا أقسم أنا...