المقالات العلمية: كتاب أيوب 1

«ترجيح أنه مترجم عن العربية«
المجلة،  
بيروت،  
المجلد 8،    
العدد 1، 1/3/1933    
العدد 2، 1/4/1933

إنّ سفر أيوب من الأسفار المهمة التي يدور حولها التحقيق العلمي لمعرفة مصدرها، فالذي كان عليه الاعتقاد القديم أنّ هذا الكتاب المعدود من الأقسام المهمة في ا لتوراة عبراني الأصل، لأن القدماء من أهل الدين وغيرهم كانوا يعتقدون أنّ الإسرائيليين واضعو التوراة كلها وأنّ جميع ما فيها يعود إلى حكمائهم وأهل الوحي منهم، ولكن الحرية الفكرية التي برزت إلى ميدان العمل بعد نهضة الإصلاح التي قام بها لوثر وسَّعت أبحاثها في الأصول التي تستند إليها المعتقدات الدينية توسيعاً تناول بالتحقيق جميع أقسام التوراة والإنجيل، وبلغ بُعد النهضة العلمية الحديثة حدّ البحث في صحة مرويات هذين المرجعين الدينيين عن الخلق والتكوين وجَبْلِ آدم وحواء وإسكانهما الجنة.
تشعب البحث من هذه الوجهة في الأصول الدينية تشعباً كان من ورائه تقسيم التحقيق إلى فروع اختصاصية يتناول كل فرع منها ناحية معيّنة، وتقسم كل ناحية بدورها إلى مواضيع معيّنة توجه إليها عناية خاصة. وسفر أيوب من جملة هذه المواضيع التي يعنى بدرسها نفر من العلماء اللاهوتيين وغير اللاهوتيين.
وقد عثرنا على بحث قيّم بصدد هذا السفر بقلم فرنك هــ. فستر من مدرسة أوبرلن اللاهوتية منشور في المجلة الأميركية للغات السامية رأينا أن ننقله لقرّاء المجلة لفائدته العلمية وهو كما يأتي:
«قادني الدرس الذي قمت به مؤخراً في كتاب أيوب إلى الظن أنّ الآثار العربية الظاهرة فيه ليست مجرّد خروج على الخطط العبرانية. إنّ امتلاء الكتاب بالمشاهد العربية والأوقاف العربية التي يشرحها الأستاذ بفيفر (R.H. Pfeiffer) لفت نظري إلى أنه قد يكون السبب في وجود هذه الدلائل العربية ناشئاً عن أنّ هذا السفر كتب بالعربية في الأصل. وقليل من المطالعة أظهر لي أنّ عدداً غير قليل من الكتَّاب كانوا يعتقدون بوجود مثل هذا الأصل، وقد ذهب بعضهم إلى أنّ السفر مترجم عن السريانية. وابن عزرا (110 ق.م) كان يعتقد أنه مترجم. واعتقد بعض علماء البروتستانية القدماء أنه منقول عن أصل عربي. وقد لفت نظري بنوع خاص ما كتبه شولتن (Schulten, Commentary) بشأن سفر أيوب، ومع أني وجدت في كتابته معارضة للزعم بوجود أصل عربي، فقد درست أقواله درساً مدققاً وعنه اقتبست قسماً كبيراً من حججي التي أقصد بها إثبات وجود أصل عربي، والحقيقة أنّ مثل هذا الافتراض كان مجهولا، على وجه الإجمال، في السنين الأخيرة، وإذا ذكر أحياناً فإنه كان مرفوضاً ومعدوداً أمراً مستحيلاً. ومن المحتمل أن لا يكون الوقت قد حان لدرسه درساً انتقادياً وافياً. ولكني أعتقد بوجوب الإفاضة في درسه درساً جديداً، إذ نحن اليوم في عصر يستند فيه نقد التوراة إلى العلم والنزاهة. وإني سأحتج في الأسطر الآتية ببعض أقوال السفر الذي نحن بصدده لتأييد أنه من أصل عربي. ولست أقصد من تقديم هذه الحجة أن تكون فصل الخطاب، بل أن تحض بعض العلماء الذين هم أقدر مني ومجهزون بما ينقصني، على التدقيق في كل الافتراضات المؤيدة أو الداحضة لهذا الرأي. وإذا تأيَّد رأي الأستاذ بفيفر القائل إنّ بين المواد التي يتألف منها سفر التكوين وثائق عيسوية وقوي الاعتقاد بأن سفر أيوب كتاب عربي، وإذا اتخذت الآثار السامية الخارجة عن الأصول اليهودية الحادثة بعد الخروج، الظاهرة في الزبور وأحياناً في الأنبياء، أدلة على تداول أدبي وديني كبير بين بلاد العرب وفلسطين، فلا بدّ من إدخال تغيير مهم في النظرية التقليدية المتعلقة بأصل ونجاح الدين في إسرائيل، والتوصل إلى اعتقاد أوسع مجالاً فيما يختص بالوحي الإلهي في الهداية الدينية للنوع البشري. وإنّ العلاقات القوية في هذا البحث ترفعه إلى رتبة قضية لاهوتية عظيمة الأهمية لذلك أود، في هذه المقالة، أن أضع أمام علماء الشرق هذا السؤال: ألا يجب أن نُعدَّ كتاب أيوب ترجمة عن أصل عربي؟
ــــ 1 ــــ
«أبدأ هنا بذكر التأثيرات التي تشير إلى اللهجة العربية والمحيط العربي للكتاب، وهما يؤلفان الأدلة الأولى في نظريتنا.
«وأول ما أقول به هنا إنّ الكتاب من نتاج الصحراء. فإن مؤلفه راقب وادي الصحراء، الذي يتحول أحياناً في الشتاء إلى سيل (38، 25)، وإمكانية تجمد الماء في أثناء الليل ولكن متى جاء الحر فجأة جف (6، 16) وهو قد رأى عواصف الصحراء الهائلة تهب برعودها وبروقها وزوابعها (21، 18، 27: 21) وسيولها (14: 19، 24: 8، 27: 21) وكان يعرف الرمال القاحلة والصخور الجرداء في القفر (12، 24) والبادية الموحشة التي «لا إنسان فيها» (38، 26) ولاحظ أيضاً مجيء المطر وإحياء الأرض «الموات» (14، 8) وظهور العشب والجمال تطلب الكلأ، ورأى قوافل الصحراء بل قد يكون قاد إحداها (31: 31، 32)، وخَبِرَ طلبها للماء يجذبها إليه استرواح الجمال (14، 9)، ومصيرها السيّىء إذا لم تجد ماء (6، 18)، وخَبِرَ أيضاً برد ليل الصحراء (24، 7)، وراقب تألق القبة الزرقاء في ذلك الجو الصافي (38، 31)، وقام بشؤون ضيافة الصحراء (31، 32). وهكذا نرى حياة الصحراء بسكانها وعاداتها ظاهرة أمامنا بجلاء. فالخيمة هي المسكن الوطني والبيت الأمين (18، 14)، الذي تضربه القافلة في الليل بعد ارتحالها (31، 32). ونرى أيضاً أنّ لوحوش الصحراء حظاً من اهتمامه، فهو يذكر حمار الوحش و النعامة التي هي أسرع من الفرس ولكنها حمقاء وكثيرة الإهمال فيما يختص بأولادها (39: 14). ويذكر أيضاً الحيوانات الأليفة، كالجمال والثيران والحمير، للشغل وحمل الأثقال، والفرس للغزو والقتال (39: 19). كل هذه تدل على أنّ المؤلف كان يعرف الصحراء معرفة جعلت قلمه يسرع إلى إبراز صورها، أما تجارة المدن وجماهيرها ومصنوعات أهلها وإسرائيل كما كان وتاريخه وملوكه وقصوره وهيكله وأعياده ونفيه الهائل وخضوعه للأجنبي المكروه، فهذه كلها لا يشير إليها بكلمة قط! فالظاهر أنّ الكتاب قد جاء من الصحراء.
«بيد أنّ أيوب لم يكن بدوياً ذا بيت نقال وسط البلقع. وصحيح أنّ غناه كان غنى رجل الصحراء، إذ كان مؤلفاً من الإبل والبقر والغنم والحمير، ولكنه كان يسكن وأبناءه المنازل المبنية أو هم كانوا حضراً (29: 7). فهل يمكننا أن نجد مكاناً صالحاً يعيش فيه العربي في الصحراء وفي المدينة في نفس الوقت؟ إنّ في نجد أماكن تصلح لتحقيق هذه الحالة المتراوحة بين المدينة والصحراء، ولكن «الجوف» أصلح. فهو وادٍ عميق فسيح، مساحته نحو ستين ميلاً في عشرة أميال، وتربته خصبة ومياهه غزيرة، وفيه أشجار نخل وبساتين وحقول زراعية غنية بالحبوب، وأهم بلدانه حصين كثير المنازل التي تبلغ نحو أربعمائة منزل عداً، ففي هذا المكان وهذا الزمان نرى المدينة متمركزة في الشيخ الذي يحكمها. والعشيرة التي ينتمي إليها أيوب كان لها شيخها وذلك الشيخ كان أيوب (ص 29) ويؤيد ذلك ما كان له من الغنى الكثير، والاحترام الفائق الذي أُظهر نحوه حين قدم ليرأس المحكمة عند الباب حيث لزم الناس كبيرهم وصغيرهم، حقيرهم ونبيلهم، الصمت من شدة احترامهم، وما كان له من القضاء. أضف إلى ذلك عدم احتماله المعاندة وهو ما حمله إبّان نكبته على الغضب والنزق حتى أخذ يجدف على الله تجديفاً لا يرى أحد أن ينسبه إلى عبراني شفيق (7: 11، 21) وهذا برهان آخر يؤيد ما نزعم، لأنه يعطينا مثالاً من تأثير السيادة على أخلاق الشخص مهما كان ذلك الشخص طيب القلب. إنّ هذه الظاهرة جزء من ذلك المحيط العربي الذي نشأ فيه الكتاب، نعني مشيخة الشخص الذي هو محوره.
«إذا كان الأسلوب في هذا السفر يخالف الأسلوب العبراني فإن فكرة الله نفسها تخالف الفكرة العبرانية مخالفة جلية. فإن إله أيوب وأصدقائه يختلف عن «صديق» الإنسان، إذ إنّ صفاته تتفق بالأكثر مع صفات الشيخ العربي الحقيقي وهو يظل على هذه الصفات إلى أن يضيف إليه فكراً جديداً. إنّ شيخ القبيلة العربي المطلق التصرف لمستبد نزق، متحكم، قاسٍ لا يمكن التعويل عليه. وهكذا نجد إله أيوب. فهو ينظر إلى العالم كما ينظر إليه الشيخ أي أنه يعدّه لعبة يتلهى بها حسب رغائبه. فنرى أنه لا يفكر مطلقاً بانفعالات أيوب الإنسانية ومصالحه، بل يضرب صفحاً عن جميع ذلك ويُعرِّض خادمه الأمين لعذابات هائلة، ليرضي شهوة من شهواته، أو ليربح رهاناً (2: 5، 6). إنه يظهر لنا متجاوزاً جميع حدود الرصانة والحلم، حيث هو موصوف في الكتاب الذي نحن بصدده بأنه «يمزق» أيوب في غضبه «ويحرق عليه الأُرَّم» (16: 9) ويضطهده (19: 22). وكما أنّ إله أيوب لا يهتم بمصالح الإنسان، كذلك لا يهتم بالعدل. ومع ذلك فليس لأيوب رجاء بالعدل إلا بواسطة هذا الشيخ الإلهي كما أنه ليس للعربي رجاء بالعدل إلا على يد شيخه (16: 19، 19: 25) وليس لهذه المعضلة حل قط. فالإنسان مسحوق سحقاً. «ليس لك حكمة أو قوة تضاهي حكمتي وقوّتي» يقول الله. «لا بد لك من الإذعان» وأيوب يذعن. وهكذا يعود الله الذي سلب أيوب كل شيء بدون عدل إلى الإسراف في التعويض عليه أضعاف غناه السابق».

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.