النهضة، بيروت،
العدد 112،
10/3/1938
لمحة واحدة على برقيات أي يوم تظهر لنا أنّ زيادة التسلح وتعاظم أرقام الاعتمادات هما الظاهرة المسيطرة في سياسة كل دولة تعتقد أنّ لها مصالح ستحتاج للدفاع عنها بالقوة في العراك العنيف المقبل. حتى أنّ عدداً من الدول لم تكن فيما مضى تفكر بالتسلح، أو تهتم للحرب أصبحت الآن تهتم لها وترصد المبالغ الضخمة لدوائرها الحربية البرية والبحرية، كدول سكندينافية وغيرها.
وليست الأرقام التي رأيناها في عدد أمس من النهضة والتي يطلب رصدها رئيس وزارة بريطانية العظمى، للدفاع القومي ومواجهة الطوارىء والقيام بالتعهدات السياسية، مفاجأة غريبة لمتتبعي حوادث السياسة الإنترناسيونية. فالحقيقة أنه قد آن لكل أمة لها حق في الحياة وتريد إدراك هذا الحق أن تعلم أنّ السياسة الحاضرة هي سياسة حرب، وأنّ الحرب هي طريقة عملية ضرورية للأمم التي لا تريد أن تنزل عن مستوى معيشتها وتمدنها أو التي تريد ترقية مستوى تمدنها ومعيشتها في تزاحم الجماعات وصرع الأمم.
إنّ الحرب ليست ضرورية في عرف بعض النظريات الفلسفية، خصوصاً لفلاسفة الأمم التي نالت حظها من [موارد] الدنيا. ولكن حاجات الأمم وعوامل السيطرة السياسية الاقتصادية تجعل هذه الفلسفة شأناً من شؤون الدراسات العقلية، لا أساساً لاتجاهاتها السياسية بناءً على مطاليبها وإمكانيات نموها وحاجاتها المسلحة. والعالم لا يزال بعيداً جداً عن زمن حل مشاكل جميع الأمم بإنشاء تشريع إنترناسيوني عادل يعترف لكل شعب بحق الحياة واتخاذ تدابير لحماية هذا الحق. فلا مندوحة للأمة التي تريد أن تحيا وأن تتقدم عن الأخذ بمبدأ أساسي هو مبدأ حق الدفاع عن الحياة ومواردها.
ولا شك في أنّ البحث في مسألة إيجاد سلم دائم ليست مسألة فلسفية أو علمية بقدر ما هي مسألة سياسية، أي مسألة مصالح الأمم أو الجماعات وعلاقاتها بعضها ببعض. فكل تسوية إنترناسيونية هي تسوية مصالح أمم عن طريق الاجتهاد السياسي المستند إلى الحالة الراهنة وإمكانيات العمل، وإلى بعد النظر في الاحتياط للمستقبل. ويدخل في هذا الاجتهاد عوامل وخفايا معقدة لا يمكن للدارس البسيط إدراك مدى تأثيرها على حياة الأمم ومقدار العدل أو الإجحاف الناشيء عنها.
فعندما يقول السيد تشمبرلن إنّ مثال الجمعية الأممية الأعلى مثال رائع وإنه يرفض التصديق "أنّ هذا المثال لن يحقق في المستقبل، ولكن لا نلم أنفسنا الآن إذا تصورنا أنه قريب منا جداً، إذ إنّ تحقيقه يحتاج لجهود صادقة. ستأخذ الحكومة البريطانية على نفسها بذل قسمة كبيرة من هذه الجهود"، عندما يقول ذلك يتكلم باسم المصلحة البريطانية والسياسة البريطانية التي تسهر عليها الحكومة البريطانية، التي "ستأخذ على نفسها بذل قسمة كبيرة من هذه الجهود".
كل سلمٍ مبني على حرب لا يثبت إلا بالحرب. وكل أمة تريد إلا يموت حقها يجب أن تستعد للحرب.
"إنّ النهضة القومية تعترف بأنه ليس أفضل من تنازل بعض الأمم عن حقّها في الحياة لتوطيد سلام دائم وبأن سورية ليست ولا تريد أن تكون من هذا البعض" (انظر ج 2 ص 130) هذه هي النظرية السورية الجديدة التي يعبّر عنها الزعيم. وهي نظرة تضع سورية في مصاف الأمم الحية المدركة مبادىء الحياة والعاملة بها.
إنّ مبدأ حياة الأمم هو أن تنظر كل أمة في مصالح حياتها بالنسبة لمصالح حياة الأمم الأخرى ولمطالبها العيا. وكل أمة لا تنظر في وحدة مصالحها وتسمح لهذه المصالح بالتفكك والانقسام بعضها على بعض في تحزبات طبقية لا تعاونية، أمة يأكل بعضها بعضاً بينما الأمم الأخرى تنتظر ضعفها لتلتهمها جملة.
وما دام العالم عالم تنازع مصالح الأمم، فسياسة الحرب ركن أساسي من أركان السياسة القومية كسياسة السلم.
بهذه النظرة الصحيحة ندركك جيداً أنّ الحرب ليست مسألة همجية أو مدنية، بل مسألة مصالح أمم لها حاجات وضروريات ترتقي وتزيد بتقدم التمدن وازدياد العمران.
نحن الآن في هذا الظرف الذي يحتاج إلى سياسة الحرب. والأمم التي نالت بالحروب والسياسات الاستعمارية حظاً كبيراً من موارد الدنيا تريد الآن التأهب للدفاع عن حظها ضد الأمم التي تتأهب لأخذ ما ترى أنها تحتاج إليه من هذه الموارد.
قلنا في مقالة أمس (ص 214 أعلاه) إنّ مباحثات بريطانية وإيطالية وألمانية هي المحاولة الجدية لتأجيل الحرب المقبلة بسرعة. ولكننا نعتقد أنّ هذه المحاولة قد تفلح في الوصول إلى غرضها الخاص ولكنها ستعجز عن إلغاء سياسة الحرب، لأن كل تسوية تنشأ عن هذه المفاوضات ستكون مبنية على مصالح بعض الأمم الكبرى القومية ومجحفة بمصالح بعض الأمم الكبرى والصغرى الأخرى.
نحن الآن وسط سياسة الحرب.