السياسة الخارجية - التسلح والتحصين

النهضة، بيروت،
العدد 113،
11/3/1938


طالع قراء النهضة أنباء إلحاق الولايات المتحدة جزيرتين من جزر المحيط الهادىء بممتلكاتها، واعتزامها إعادة النظر في وضع عدد من الجزر الأخرى في هذا المحيط الواسع علها تتمكن من إلحاقها وجعل مصيرها كمصير الجزيرتين السابقتين.
الحقيقة أنه إذا كانت الحرب مقبلة سريعاً فلا بد لكل دولة بعيدة النظر من الاهتمام بالنقاط الاستراتيجية، التي لها خطورة عظيمة في تقرير مصير المعارك وبالتالي مصير الحرب، وفي هذا الصراع الشديد المتجه نحو حرب عامة طاحنة تبحث كل أمة متيقظة عن كل موضع استراتيجي وتحصن كل ممر وكل جبهة.
وإذا نشبت الحرب وتناولت الولايات المتحدة، فالراجح أنّ هذه الدولة ستكون ضد الجبهة التي تكون فيها اليابان فتضطر إلى الاشتباك مع هذه الدولة المزاحمة لها في الشرق الأقصى. ولا شك في أنّ الاشتباك سيكون بحرياً وسيجري في المحيط الهادىء.
نظرة واحدة على خريطة هذا المحيط ترى وضع كل من الدولتين المتناظرتين الجغرافي الحربي، ولا تحتاج عين الناقد الحربي لكبير عناء لترى عدم التكافؤ في الموقفين ورجحان كفة اليابان على كفة الولايات المتحدة. فاليابان تملك في الهادىء جزراً صغيرة تشبه سلسلة ومسافاتها غير بعيدة بعداً كبيراً. وقوة الولايات المتحدة في المحيط الهادىء كائنة في الفيلبين ولكن موقع الجزر اليابانية يعطل كثيراً من ميزات الفيلبين ويجعل الأسطول الأميركاني في مركز غير ممتاز ويُضعف كثيراً من سطوته.
هذه الحقيقة جعلت الولايات المتحدة تفكر جدياً في التغلب على هذه الصعوبة الاستراتيجية وتحسين موقفها الحربي. فقررت إعادة النظر في وضع بعض الجزر الصغيرة غير التابعة لها، وكان من وراء هذه الخطة الاستيلاء على الجزيرتين اللتين أشارت البرقيات إلى إلحاقهما بالولايات المتحدة وأنّ قضية هذا الإلحاق ستسوّى بصورة وديّة وتفاهم مع بريطانية العظمى.
ولا يستبعد أن تكون الدبلوماسية الأميركانية قد جسّت نبض بريطانية قبل إقدام الولايات المتحدة على ضم الجزيرتين المذكورتين إلى أملاكها، لأن هذا الترتيب الجديد يكوّن فصلاً من فصول سياسة الحرب، التي لها الآن المركز الأول، وباباً من أبواب التسلح والتحصين.
وفي الوقت الذي تدرس فيه الولايات المتحدة وضعيتها الاستراتيجية وتعمل على تحسين موقفها وتحصين مواقعها الحربية في المحيط الهادىء، تقوم بريطانية أيضاً بتحصين مواقعها تجاه اليابان فأعادت النظر في وضعية سنغافورة وقامت بمناورات حربية في هذه الجزيرة المحصنة، التي تجعل عيون اليابان تقدح شرراً.
كل جزء من الأرض، مهما كان صغيراً، يجري الآن حسابه في دوائر أركان الحرب البريين والبحريين وليس عهد رفع العلم الإيطالي على قُنَّة الجبل الأبيض، ببعيد. وهو من الأعمال التي لم تكن تخطر ببال. ولكن الحاجة لا تعرف صعوبة. والمتنبّه يرى ما لا يراه الخمول.
جميع سياسات الدول الكبرى والصغرى تتجه الآن نحو التسلح والتحصين. وبينما المحادثات تجري لتأجيل الحرب القادمة، تصادق البرلمانية الدولية بالإجماع على اعتمادات الحرب.
إنّ توغل اليابان في الشرق الأقصى قد أحرج مركز عدد من الدول الكبرى. فاليابان قد قررت نهائياً أن تكون السيد المسيطر في الشرق الأقصى. والخطة الحربية التي رسمتها وسارت عليها مؤخراً تختلف كثيراً عن الخطط السابقة. فالصين كانت مطمح أنظار اليابان منذ زمن بعيد، وقد أجرت هذه الدولة محاولات في الماضي لتنفيذ بعض رغائبها ولكن الولايات المتحدة وقفت من هذه المحاولات موقفاً قوياً، فتمكنت من إحراج مركز اليابان السياسي واضطرارها إلى العدول عن خططها الماضية. وظل الأمر معلقاً إلى أن كان مؤتمر واشنطن الذي أوجد اتفاقية سياسية فيما يختص بالصين ولكنه لم يوجد أسباب الاستقرار في الشرق الأقصى.
بعد هذا المؤتمر رأت اليابان أن تعوّل على نفسها. فاقتحمت منشوكو ثم توغلت في الصين، واستبدت بمصير هذه البلاد. ومعنى ذلك أنّ أسواق الصين ومواردها العظيمة ستكون تحت سلطة الإمبراطورية اليابانية التي لا تريد لها فيها شريكاً.
تكوّن حالة الشرق الأقصى صورة من صور هذا النزاع.
فالحرب قادمة، ولا بد من التسلح والتحصين لمن لا يريد أن يكون مصيره في يد القدر.

 

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.