السياسة الخارجية - تحقيق الوحدة الألمانية

النهضة، بيروت،
العدد 117،
16/3/1938


بعد صراع عنيف استقر الشعب الألماني في البقعة المعروفة اليوم بألمانية التي تكوّن أقوى وأبرز مجتمع جرماني.
لم يكن الشعب الألماني كل الجرمان ولم يكن الجرمان الشعب الألماني فقط. فمن الجرمان الأنغل والسكسون الذين ارتحل قسم منهم إلى إنكلترة وتغلب فيها وولد العالم الأنغلوسكسوني، ومنهم الفرنك الذين عبروا الرين وامتدوا إلى غاليا، أو بلاد الجلالقة عبر الألب، وكوّنوا من امتزاجهم مع الجلالقة فرنسة. ومنهم الهولنديون والفلمنك وشعوب الشمال.
فالألمان هم القبائل الألمانية المتلاصقة التي نزلت بقعة واحدة من الأرض، وظلت متمشية في أطوارها الأولى على نظام القبائل الملازم للحالة البربرية. ونشأت من هذه القبائل الإمارات الألمانية كبايرن "بافارية" وساكسن "سكسونية" وبروسن "بروسية" وأسترريخ "أوسترية ـ النمسة" وغيرها. وكانت هذه الإمارات الحالة السياسية الأساسية لهذا الشعب الخارج من طور البربرية. وصورة مصغرة لحالة هذا الشعب الأولى نجدها في نظام العشائر في منطقة اللاذقية العلوية. فهنالك أربع عشائر علوية: الخياطين والحدادين والرسالنة والمتاورة. ولكل عشيرة من هذه العشائر شيخ ترجع إليه في أمورها. ولو أنّ العشائر كانت قبائل كبيرة نزلت بقعة أوسع لكان مصيرها حتماً إلى الإمارة الأرضية كما حدث للقبائل الألمانية التي احتلت بقعة واحدة واسعة نزلت كل قبيلة منها في ناحية منها.
تطورت القبائل الألمانية اجتماعياً وسياسياً، وخرجت من الحالة البربرية وأخذ نظام العمران والمجتمع يتغلب على نظام القبائل. وأخذت إرادة الشعب المتولدة من مصالحه تتغلب على إرادة الشيوخ والأمراء. وأخيراً قويت المصلحة القومية على المصالح الإقطاعية التي صار إليها نظام القبائل.
وكانت النمسة في بادىء الأمر أقوى إمارة أو دولة من دول هذا الشعب. فكانت تتزعم المصالح الألمانية والإمارات الألمانية، حتى لكان ينتظر أن تتمّ الوحدة الألمانية السياسية على يد النمسة. ولكن الظروف السياسية التي تلت، ومجيء عائلة هوهنزلرن إلى بروسن (بروسية) وظهور التنافس بين الهوهنزلرنيين والهبسبورغيين أو بين بروسية والنمسة حالت دون تحقيق مطامح النمسة في قيادة الشعب الألماني. فرجحت كفة بروسية التي ظهر فيها فردريك الكبير. وفي ظرف سياسي موافق تنازل الأمراء أللمان عن سيادتهم المطلقة، وصار ملك بروسية إمبراطور الألمان ما عدا النمسة التي أنشأت إمبراطورية النمسة والمجر.
ترى مما تقدم أنّ الوحدة الألمانية السياسية تمّت بدون النمسة لأسباب سياسية هي العائلة المالكة ومطامحها. أما من الوجهة القومية فلم يكن هنالك مبرر لبقاء النمسة خارج الوحدة الألمانية.
بعد الحرب زالت الموانع السياسية، فقد تفككت الإمبراطورية النمسوية ـ المجرية وزالت العائلتان الهبسبورغية والهوهنزلرنية عن عروشهما ولم تعد المسألة مسألة تنافس بين بروسية والنمسة، وأصبحت الحالة الجديدة تقتضي إكمال الوحدة الألمانية.
ومما يجب مراعاته أنّ النمسة تكوّن قسماً من المتحد الاجتماعي الألماني، فالأرض النمسوية مكملة للأرض الألمانية، والشعب واحد ومرتبة الثقافة واحدة والدورة الحيوية الاجتماعية الاقتصادية واحدة.
وقد قوي تيار الوحدة في النمسة على أثر الحرب، وعمدت إلى استفتاء عام في صدد الوحدة. ولكن الحلفاء تدخّلوا في ذلك الوقت ومنعوا استمرار الاستفتاء، لأن نتائجه الأولى كانت في مصلحة الوحدة. ولكن حالة النمسة الاقتصادية كانت سيئة جداً. فكان لا بد لها من مساعدة فقررت فرنسة وبريطانية عقد قرض للنمسة وتثبيت نقدها ومساعدتها لتبقى منفصلة عن ألمانية.
ومع ذلك فلم يمكن تثبيت وضع النمسة الشاذ، لأن وحدة المصالح الحيوية والنفسية المستمرة كانت تتطلب الوحدة السياسية أيضاً.
وقد انتهزت الدولة الألمانية فرصة مشاكل روسية الداخلية وشللها الإداري الحربي وترنّح النظام البرلماني في فرنسة، وتراوح السياسة البريطانية لتحقيق الأنشلوس. وكان الشعب النمسوي مستعداً ولم تتمكن العوامل الأجنبية من إيجاد قوة ساحقة في داخل النمسة تريد الإبقاء على انعزالها عن بقية الشعب الألماني.
والآن فقد تمت الوحدة الألمانية العامة وأصبحت النمسة جزءاً من الدولة الألمانية بعد أن كانت جزءاً من الأمة الألمانية. ففي برقية وردت نصف ليل أمس أنّ الوزارة النمسوية النازية أعلنت انضمام النمسة إلى الجسم الألماني.
إنّ هذا الحادث هو أعظم حادث سياسي بعد الحرب، لأنه في قلب أوروبة ولأن تأثيره على الوضع السياسي الأوروبي سيكون عظيماً جداً فقوة ألمانية السياسية ـ الحربية قد زادت بهذه العملية زيادة عظيمة مع أنّ النمسة قطعة أرض مكملة للعمران الألماني، فلا صحارى ولا جبال ولا أي حاجز طبيعي أو اجتماعي يفصل بين ألمانية وجزئها النمسوي.
تدخل السياسة الأوروبية بعد هذا الحادث في فصل جديد. فهل الحرب على الأبواب؟

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.