بقلم نصوح الخطيب
سورية الجديدة، سان باولو، العددان 54، 55، 1/3/1940
من تلك الشرارات التي كانت تشعها سورية في مختلف العصور، حاملة إلى العالم وقيد الفكر والعبقرية، زينون فيلسوف الرواقية. ظهر زينون في أزمة من أزمات التاريخ الحرجة فوجد جيلاً متضعضعاً في روحيته وعقائده، وكان زينون رسالة الخلاص لذلك الجيل ولأجيال عديدة تلت. كانت حضارة المتوسط القديمة، المتركزة في دولة المدينة، على وشك الانهيار بعد أن تصدع بناء النظام السياسي لدول المدن، وبدأ ظل الامبراطورية العالمية يمتد على العالم. لم يكن للامبراطورية الناشئة أن تحل محل الرابط الاجتماعي في مجتمع المدينة الصغير، ولذلك ضعف رابط الاجتماعية في الأفراد، بعد تضعضع الأنظمة المحلية، واتصل أثر هذا التغيّر الفجائي بالفلسفة فانحطت إلى جماعات وفرق تسعى كل منها إلى سعادة الفرد واستغنائه دون ما نظر إلى المجموع. وكان من هذه الفرق جماعة الأبيقوريين الذين جعلوا اللذة هدف الإنسان الأسمى، وجماعة المستهترين (Cinicos) الذين قالوا بوجوب هدم المصطنعات الاجتماعية بأسرها والرجوع إلى حالة الحيوانية الأولية، وكان من هؤلاء كرايتس معلم زينون.
جاء زينون إلى أثينة من حضارة عريقة اجتماعية، ولذلك ذهبت محاولات أساتذته المستهترين لتحويله عن اجتماعيته السورية دون أي تأثير على شخصيته. ولمّا وجد أنّ داء الوحشية الفردية متأصل في هذه الفرقة، التي تتلمذ عليها، تغلبت الإرادة البانية في زينون فانشق على المستهترين وأنشأ لنفسه المدرسة الرواقية، التي أصبحت فيما بعد أهم مدارس الإغريق الفلسفية على الإطلاق، والتي تولت في الأجيال المتعاقبة نشر الفكر الباني في جميع أنحاء الامبراطورية الرومةنية بواسطة الفلاسفة السوريين والإغريق من أتباع زينون.
إنّ المبادىء الأساسية التي قامت عليها فلسفة الرواقية تتلخص في ما يلي:
أولاً: إنّ الفكر هو جوهر الطبيعة وميزة الإنسان. إنّ هذا المبدأ كان بنفسه ثورة فكرية عظيمة استمر أثرها في جميع تاريخ الاشتراع والسياسة في عالم المتوسط. لقد أقرَّ زينون مع أساتذته المستهترين نسبية التقاليد الاجتماعية والقوانين الوضعية واعترف بعدم صلاحيتها لمماشاة سير الحضارة ولكنه غيّر معنى الطبيعة تغييراً أسآسية. فعوضاً عن أن يرى رجوعاً إلى الطبيعة رجوع إلى حالة الوحشية، وجده زينون في الرجوع إلى حكم الناقد. لقد أعلن زينون أنّ هنالك ناموساً طبيعياً يتمثل في الشرائع الوضعية والتقاليد بمقدار ما فيها من الخير والصلاح ولكنه يتعداها، وأنّ هذا الناموس الطبيعي يمكن اكتشافه بواسطة الفكر ويمكن الاستفادة منه، متى عُرف، لنقد الأوضاع وإصلاحها. إنّ هذه النظرة الفلسفية الموجبة قضت على وثنية التقاليد وأحلت محلها حكم الفكر المتحرر. إنّ جميع الأنظمة البشرية يجب أن تخضع لناموس الطبيعة الذي هو أيضاً تشريع الفكر.
ثانياً: عيّن زينون حدود الإرادة ومحلها من العناية الإلهية. إنّ اعتقاد زينون بأساسية الفكر في الوجود يضعه في صف الموحدين الفلسفيين أي المعتقدين بأن مصدر الوجود هو واحد وشامل وصالح، وهذا المبدأ يدعو إلى الإيمان بالعناية الإلهية وبانتصار عامل الخير في النهاية على عامل الشر، على أنّ زينون خشي أن يؤدي هذا المبدأ إلى الاتكالية الشرقية، فدعمه بمبدأ الإرادة والواجب وإعمال الفكر. إنّ زينون أول من أدخل كلمة الواجب إلى الفكر الإغريقي، على ما يقال، كما أنه أول من دل على أهمية الإرادة ومحلها الفلسفي، وهو من هذه الناحية أب لكل الفلسفات التي عززت شأن الإرادة. على هذه الأسس بنى زينون فلسفته الأخلاقية معلناً أنّ على الإنسان أن يعمل واجبه بعد إعمال فكره، وأن يسلّم للعناية ما لا يقع تحت طائل إرادته، وهذا ما عرف في التاريخ بالسلوكية، الرواقية.
ثالثاً: واقع الفرد وغايته رقي الفكر. قامت فلسفة زينون على أساس الاعتراف بالفرد كواقع أولي وبأنه مضطر للمحافظة على جوهر كيانه الذي هو الفكر. وهكذا تميز الرواقيون عن الأبيقوريين، إذ أنكر الأولون أنّ غاية الفرد هي الانصراف إلى الملذات وقالوا إنّ الهدف الأسمى للإنسان هو ترقية الفكر وتعزيز المبدأ الفكري في العالم. لذلك حتم زينون سيطرة الإرادة على عوامل اللذة والألم في الإنسان وكانت هذه الميزة مما اشتهر به الرواقيون في جميع عصور التاريخ.
إنّ ثورة زينون كانت ذات أثر بليغ في تسيير الحضارة. إنّ الإنسانية تعتاد تقديس تقاليدها وشرائعها التي أفادتها في حقبة من الزمن، ولكن يزول السبب الذي أنشئت أو نشأت من أجله تلك التقاليد وتبقى هي كبقايا المتحجرات عثرة في سبيل تحوير النظم والمؤسسات لضرورات الحياة الجديدة. هذه كانت الحالة في عالم البحر المتوسط عندما جاء زينون يدعو إلى تحكيم الفكر في الشرع والتقليد محرراً الإنسان من عبوديته العمياء الماضية فاتحاً الطريق لتحقيق مطالب الرقي الناشىء.
وقد بلغ زينون بفضل شخصيته الفذة مكانة عالية، فكاتبه الملوك يستشيرونه ويستزورونه استفادة من حكمته الناضجة، وأمّ إليه محبّو الفلسفة وطالبو الحقيقة من جميع أنحاء العالم. ولما مات اهتزت لموته بلاد الإغريق وموطنه السوري الأول وأقيمت له تماثيل في أثينة وفي بعض المدن السورية. ولم تمنع الأثينيين وطنيتهم من الاعتراف بفضل هذا الغريب المقيم بينهم، فقال فيه شاعرهم زينودوتس بعد وصف مناقبه:
إذا كانت بلادك فينيقية أي بأس عليك ألم تطلع قبلك، تلك البلاد، قدموس الذي منح الإغريق الكتب وعلّمهم كتابة الأحرف.
واستمر أثر فكره عاملاً في الإمبراطورية الرومانية وخصوصاً في مدرسة بيروت التي طورت فلسفة الشرع في اتجاه فلسفة الرواقية. وكان الرواقيون السوريون والإغريق أساتذة لأنبل عائلات رومة، فلم يطل الوقت حتى امتلأت وظائف الدولة العليا بأتباع زينون، وكان أهم هؤلاء الإمبراطور مرقس أوريليوس، والمشترع العظيم إلْبيان السوري مستشار الإمبراطور كاركلا1 السوري أيضاً، والذي كان له الفضل الأكبر في تعميم التشريع الموحد في جميع أنحاء الإمبراطورية قاضياً بالفناء على الشرائع المحلية التقليدية.
وظل أثر فلسفته مستمراً في جميع الحضارات التي اشتقت من حضارة المتوسط وإنه لم يزل كذلك إلى هذا اليوم. فعندما تطرّق الببوات في ادعاء السلطة المطلقة للحكم، ظهر مبدأ القانون الطبيعي الفكري يحدد مجال هذا الادعاء. ومثل ذلك حدث للملوك القوميين عندما تطاولوا في ادعاء الحق الإلهي. ولا يسع المقال تتبع أثر زينون في الفلسفات الحديثة، ولكن لا بدّ من القول إنّ فلسفة التصرف التي جعلها سبينوزا محور كتابه الأمم وفلسفة الفكر العملي التي انتهى إليها كبير الفلاسفة الحديثين، كانتا كلاهما في جوهره عوداً إلى الفلسفة الرواقية كما يمكن لنا أن نثبت لو اتسع المجال.
لنقلب من صفحات التاريخ اثنين وعشرين جيلاً ولنرجع إلى تلك الشواطىء الرابضة على المتوسط، موطن زينون ومنبثق الحضارة. ماذا نجد؟ نجد بلاداً تجابه أزمة أشبه بالأزمة التي جابهها العالم في عهد زينون. هنا أيضاً حضارة قديمة بتقاليدها وأوضاعها تعالج سكرات النزع ومطالب حياة جديدة تقتضي تطوراً أسآسية في الاجتماع. هنا فئات عديدة متباينة التقاليد والنزعات مستعبدة لأوهام ورثتها عن الماضي وكانت لها سبب شلل عن الأخذ بأسباب الحياة. وهنا أيضاً نجد سُنَّة الحياة العادلة التي حكمت على تلك التقاليد بالموت تخيّر أمة بأسرها إما أن تسير مع الحياة المتجددة أو أن تجعل مصيرها مصير المتحجرات العفنة من أوهامها. وكما ظهرت السفسطة وفلسفة اللذة الفردية والاستهتار في مأتم حضارة المدينة وتقوّت عوامل الهدم والخيانة والاتكالية، كذلك ظهرت جميع هذه النكبات في مأتم الإقطاعية السورية تنعب نعيب البوم وتبشر بيوم الهلاك الأخير. هلاك! أأمة تُعدّ بالملايين من أنبل الجماعات البشرية وأعرقها في الفكر والاجتماع والخضارة تهلك بين ليلة وضحاها لأنها لا تستطيع أن تطور عقائدها وتقاليدها مع متطلبات الحياة؟ أيعقل أن يكون هذا مصير الأمة السورية المحتم؟ أين عباقرة الفكر والإرادة من مواطني زينون؟ إنّ جماعة العهد المنحل المتلاشي لم يجدوا شيئاً غريباً في هذه النهاية ولا وجدوا في نفوسهم القوة الكافية لتحمّل مسؤولية التاريخ في عمل أساسي يغيّر مجرى الأمور. إنهم كانوا أشبه بمن يموت دنقاً في الجرد وهو يضحك من نفسه ومن العالم والحقيقة تضحك منه. ولكن يظهر أنّ العناية أرادت لهذه الأمة غير هذا المصير ولذلك فبين تعارك الظلمات المتلبدة يظهر فجأة في سماء تلك البلاد كوكب الفكر والعزيمة يجمع الشمل ويهديه إلى سبيل الحياة. ذلك كان ظهور سعاده، عبقري الأمة السورية الجديد. إنه زينون آخر ولكن هذا الزينون غير ذلك الزينون. إنّ زينون الرواقية أعلن مبدأ الواجب وكان آخر من عيّن على نفسه قسطاً من ذلك الواجب ولذلك ظلت مبادئه نظريات جميلة تحققها بعده الأجيال. إنّ زينون لم يستطع أن يعيّن بالضبط ما هي المسؤولية الملقاة عليه وعلى أمته تجاه العالم وتجاه تحقيق مبدأ الفكر والنظام والعدل في الإنسانية ولذلك نراه يموت معلماً شريداً عن بلاده تاركاً أمته المؤهلة لحمل رسالته في التاريخ تتقلب على الفتوحات من جيل إلى جيل. إنّ زينون الرواقية رسم الخطة ولم يبنِ ولم يعنَ بقيمة المؤسسات التي وحدها تتولى تحقيق المبادىء.
أما زينون القومية، سعاده، فقد رسم الخطة ووضع نفسه في الطليعة. لقد رأى رؤية زينون البديعة، رؤية إنسانية عادلة منظمة، يسيطر فيها عامل الفكر وتنقشع عن سمائها غياهب الأوهام، ولكنه قبل أن ينصرف إلى الأحلام أراد أن تكون أمته مستعدة للقيام بقسطها في إنشاء حضارة العالم. قال سعاده «لقد شاهد آباؤنا الفاتحين وساروا على أعقابهم، أما نحن فسنضع حداً للفتوحات». وبالحقيقة باشر سعاده بإقامة الحصون المنيعة لتقف في وجه الفتوحات، وأي حصون تفيد أو تجدي قبل أن تتغلب العقيدة القومية على العصبيات العنجهية المشتتة وقبل أن تأخذ الأمة بأسس الفكر؟ وبعد ذلك وعلى أساس هذه الوحدة القومية المتنبهة، أنشأ المؤسسات المنظمة والفرق المدربة لتكون جميعها عوامل لاكتساب حق الأمة واستمرار عوامل حياتها مع الأبناء وأبناء الأبناء ما دام في العالم أمم تسعى وشعوب تجاهد.
إنّ من يتأمل فلسفة سعاده في خطبه الممتلئة وفي كتابه «نشوء الأمم» يدرك الرابط العظيم بين فكره وفكر فيلسوف الرواقية، خصوصاً في الناحية الإيجابية البانية التي تعبّر فيها الفلسفتان عن نفسية عميقة متأصلة في المجتمع السوري. إنّ عودة سعاده إلى مبدأ الواقع الاجتماعي في الأمة تخلصاً من فوضى الاعتباطية العقائدية هي في جوهرها أشبه بعودة زينون إلى مبدأ الناموس الطبيعي. على أنّ سعاده كان أغنى بتمثيل جميع نواحي النفس البشرية ومطالبها فلم يقتصر على ناحية الفكر، وإن لم يهملها، وجعل مطلب الحياة الأسمى تحقيق الحياة الحرة الجميلة في المجتمع وتأمين عوامل رقيها. إنّ رسالة سعاده كرسالة زينون إنسانية في غايتها، وكل عودة إلى مبدأ الفكر والحياة عودة إلى الإنسان. و«إنسانية سعاده» إنسانية منظمة مسؤولة لا فوضى مائعة. إنها الإنسانية الطبيعية في معنى زينون للطبيعة على أنها قائمة على نظام الفكر لا في معنى المستهترين للطبيعة في أنها قائمة على الحيوانية البديهية.
إثنان وعشرون جيلاً تفصل بين نابغتي سورية العظيمين زينون وسعاده وكلاهما يكوّنان ركنين متينين في بناء حضارة المتوسط المتحولة بسرعة لتكوّن حضارة الإنسانية العامة. أما لزينون ففضل التقدم، إن كان لصدفة الزمن حق الفضل. وأما لسعاده ففضل شمول الفكرة وتحقيق الناحية العملية. إنّ زينون قد خطط، أما سعاده فخطط وبنى.
16 فبراير/شباط 1940.
هذا المقال هو بقلم أنطون سعاده وقد وردت الإشارة إليه في رسالة منه إلى وليم بحليس بتاريخ 1/6/1941. (انظر ج 15 ص 95).
في الرسالة المذكورة في الهامش رقم (1) يذكر الزعيم أنّ أغلاطاً كبيرة تجري أحياناً في ترجمة بعض المقالات الرئيسية. كما جرى لمقالته هذه التي ترجمت إلى البرتغالية حيث أبدل اسم الامبراطور «كركله» باسم «كليغولا».