سورية الجديدة، سان باولو، العدد 68، 1/6/1940
سانتياغو دل استيرو ــــ 20 مايو/أيار ــــ لمراسلنا الخاص في الأرجنتين
مضى على وجود حضرة الزعيم في هذه الحاضرة عشرة أيام كانت كلها انتصارات للقضية القومية. وهذا دليل على أنّ الجالية بأسرها تنبهت للمسألة وأدركت أنّ هذه الحركة ليست مثل غيرها من الحركات.
والحقيقة أنّ شعبنا وصل إلى حال صار فيها يشك في كل حركة لها علاقة بمستقبل البلاد. وذلك لأنه في كل القضايا التي ناصرها لم يجد نتيجة يصح الركون إليها. فكان يسمع الصرخات والدعاوى المتوالية ويصغي إليها ويهتم بها، ولكن النهاية تكون لا شيء، وتبقى الحال كما هي ويفهم هذا الشعب المسكين أنه كان مخدوعاً.
أما الحركة القومية فكانت مثل جيش ظافر يسحق كل حركة رجعية أمامه، وهو في كل يوم ينال انتصاراً جديداً على كل الصعوبات التي يجدها أمامه، ويرتكز في قلوب الناس مثل عقيدة ثابتة لا تهزها كل قوات العالم.
والذي يستلفت النظر أنّ أولاد السوريين الذين وُلدوا في هذه البلاد أخذوا يهتمون جميعهم بالأمر، وأقبلوا على درسه وأي إقبال. وذلك أنّ ابن السوري لا يكتفي بأنه ولد في أميركة وصار أميركياً، بل هو يريد أن يعرف من هو أبوه وما هو المركز الذي يمثله في العالم.
في كل الأيام التي مرت على وجود الزعيم في هذا البلد ما مضى يوم لم يُقبل فيه فريق من الشبان لسماع كلمات القائد العظيم الذي كان حديثه دائماً شبه محاضرة، تشرح أحوال سورية بوجه الإجمال وتاريخها القديم والحديث، والمصائب التي مرت بها في مختلف العصور.
وقد بلغ ذلك أحد أساتذة التاريخ في إحدى المدارس الكبرى، فجاء إلى حضرة الزعيم للسؤال عن قضايا تاريخية دقيقة، وبعد مقابلة طويلة خرج هذا الأستاذ وهو يقول لكل السوريين: هذا الرجل هو فخركم الخالد.
وهنا نقطة دقيقة قلّما يهتم بها الآباء ولكن الأبناء يهتمون بها، وهي تشغل عقولهم وهي هذه: إنّ الولد الذي أبوه من بلاد مستعبدة لا يكون فخاره كاملاً ولو وُلد في أعظم بلاد العالم. لأنه يشعر دائماً أنه من أصل غير متوفر فيه شروط الكرامة والمجد.
فهذا الألم الخفي الذي يكدر سعاده وكل أولاد السوريين في أميركة جاء الآن من يزيله من صدورهم، ويبدله بشجاعة وقوة وافتخار.
في إحدى الليالي وضع حضرة الزعيم الخارطة أمام الشبان، وكانوا جماهير مزدحمة، وأخذ يسرد لهم أمجاد سورية الخالدة وما أعطته إلى العالم من العلوم والاكتشافات في العصور القديمة، وكيف أنّ أعظم أنواع الفلسفة ظهرت في سورية، كما ظهر فيها أعظم القواد الذين رسموا خططاً حربية لا تزال مستعملة عند أعظم الأمم، لأن الفكر البشري إلى الآن لم يتوصل إلى أحسن منها.
ثم ذكر الشرائع التي يسير عليها البشر، فأبان لهم كيف أنّ الشعاع الأول ظهر في سورية، وأخذ يمتد من هناك إلى العالم حيث أخذه المفكرون مثالاً نسجوا عليه وأضافوا إليه ما قضت الحال به، ولا يزال ذلك إلى عصرنا هذا أما الديموقراطية التي يفتخر بها العالم الآن فهي من صنع سوري أيضاً، لأن أول فكرة ديموقراطية تُعطي الشعب حقه في إبداء الرأي في سائر شؤونه ظهرت في سورية، وبلا شك هي الغرسة الأولى في هذا الباب التي أعطت الثمر الكثير للعالم كله، ولا يزال البشر إلى الآن يجاهدون في إيصال هذه الفكرة «حقوق الإنسان» إلى حد الكمال.
وأعظم ما يشير إليه الزعيم في هذا الموضوع هو أنّ السوريين القوميين يجب أن يعرفوا واجبهم في هذه القضية الخطيرة، وأنّ العالم بأسره ينتظر منهم تفكيراً جديداً، ولا سيما في الوجهة الديموقراطية التي أصبحت الآن في حال مبهمة، فالسوري القومي يجب أن يعالجها من جديد ويدفعها إلى العالم كاملة.
فالسوري المفكر يجب أن يهتم في إنقاذ الديموقراطية من الهلاك. وذلك بأن يزيل ما دخل إليها من الفساد ويدخل إليها تفكيراً ينطبق على ما وصل إليه الناس من العلم والمعرفة، فتصير صالحة لنفع الإنسان وتكفل حقوق الإنسان من كل مهاجمة وتعدٍّ.
هذا هو الإصلاح الذي تتمخض به البشرية ولا بدّ أن يولد. فإذا جاء عن يد سورية تكون هذه البلاد العزيزة ــــ بلادنا ــــ ولدت الديموقراطية، ثم أنقذتها من الهلاك عندما داهمتها الأخطار الكثيرة. إنّ الأم تفهم آلام ابنها وتداويها أحسن من جميع الناس.
ثم ذكر الزعيم الأساطيل البحرية التي كان السوريون أول من أوجدها في العالم، ثم إقامة المدن على السواحل وفتح المعاملة التجارية مع باقي البلدان، ومشاركة المرأة الرجل في سائر الأعمال، إلى غير ذلك من الأعمال التي جاءت بها سورية قبل غيرها، ودفعتها إلى العالم مثالاً ينسجون على منواله.
أما اكتشاف حروف الهجاء فهو بلا شك أول درجة من سلّم الترقي البشري، إذا لم تكن أعظم درجة فيه على الإطلاق، وهو اكتشاف سوري لا ينازعنا فيه منازع.
هذه المحاضرة دامت أكثر من ساعتين، وكانت جماهير الشبان كلها آذان صاغية كأن على رؤوسهم الطير، كما يقولون، وما انتهى الزعيم من الكلام حتى هتفوا جميعاً من أعماق قلوبهم، وكأن كل واحد منهم تولدت فيه شخصية جديدة أو كأنه وجد شيئاً يبحث عنه ويرغب في الوصول إليه.
كان لهذه الخطبة تأثير كبير في كل أوساط الجالية، وكانت حديث الجميع في كل مكان، وظهر أثرها في اليوم الثاني إذ أقبل الكثيرون على القضية، وانضموا إلى العاملين فيها والمبشرين بهذا النور الجديد الذي ظهر في سورية وأخذ يكتسح كل أنواع الظلمات التي أمامه.
وعندما عرف الشبان أنّ للقوميين مجلة تصدر بالإسبانية في المكسيك طلبوا كلهم الحصول عليها، وكان لدى حضرة الزعيم بعض أعدادها فأخذ الشباب يتخاطفونها، وكل نسخة منها كان يقرأها أكثر من عشرة في اليوم الواحد، لأنها تشرح لهم القضية بلغة هي لغة البلاد التي ولدوا فيها.
وعزم فريق منهم على درس اللغة العربية لأنهم يريدون أن يعرفوا تاريخ بلادهم كما هو، ويقرأونه بلغتها كي لا يفوتهم شيء منها. ويمكننا أن نقول إنّ نجاح الحركة القومية في هذه الولاية كان أكثر الفضل فيه للشبيبة.