الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 17، 1/4/1941
وصل إلى بوينس آيرس في 17 مارس/آذار الماضي أحد السوريين المهاجرين المسمى على الحاج وبرفقته رشيد سليم الخوري الملقب بــ«القروي»، فاستقبلهما على المرفأ الأفراد العاملون بإيعاز المير شكيب أرسلان والمصادر الإذاعية التي وراء المير شكيب أرسلان، الذين جلبوا معهم من قدروا على جلبه من معارفهم البسطاء، عملاً بالنشرة التي طبعوها باللغة الكستليانية ووزعوها وهذه ترجمتها الحرفية:
«أيها العرب،
«يوم الاثنين في 17 الجاري، الساعة 8 (المرفأ الشمالي) يصل على الباخرة «أورغواي» الشاعران المفلِقان: القروي وعلي الحاج.
«فهلمّوا لاستقبالهما بالترحاب واجلبوا معكم أصدقاءكم«.
وقد اهتم القائمون بلعبة «المؤتمر العربي» بإعطاء هذه الشعوذة المظهر اللائق بها. فاتصلوا ببعض الصحف الأرجنتينية كــ«المندو» التي للمير أمين أرسلان علاقة بها، و«لا راصون» وأعطوها المعلومات التي شاءت لهم مخيلتهم إبداعها في هذه الظروف.
وقد وقفنا على ما نشرته جريدة «لا راصون» في هذا الصدد فإذا هو مبني على معلومات إستبدادية ظاهر فيها غرض التضخيم الذي كان قد فتح الطريق له المير شكيب أرسلان في مقالة له نشرت في «العلم العربي» الصادرة بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بهذه العبارة:
«ولعمري إذا نظرنا في المسلمين الأقحاح الذين دافعوا عن شريعة محمد وخلفائه في الأرض لم نجد كثيراً منهم يضارع في هذا الباب الشاعر الشهير الأستاذ رشيد سليم الخوري الذي خدم الإسلام ببراهينه الساطعة وحججه الدامغة أكثر مما خدمه مئات ألوف من المسلمين أنفسهم».
ولما كان رشيد سليم الخوري قد أصبح ربيب المير شكيب أرسلان السياسي، ولما كان العاملون باسم التحزّب الديني الذي يقول به المير شكيب أرسلان يريدون السير على الطريق التي فتحها المير شكيب فقد هيأوا كل شيء للغاية التي يقصدونها.
لننظر، الآن، في ما نشرته جريدة «لا راصون» على ذمة الذين أدّوا معلوماتهم إليها. فعنوان الكلام المنشور في عددها المؤرخ في 17 مارس/آذار الماضي، أي في يوم وصول المفلقين عينه، هو هكذا: «وصل اليوم القروي، مجد الأدب الإسلامي العصري» وتحت هذا العنوان الضخم عنوان آخر لا يقل عنه ورماً، وإنْ يكن أصغر حرفاً، وهذا هو: «ووصل أيضاً علي الحاج المؤرخ المعروف الذائع الصيت في أميركة».
وهكذا نرى أنه بعد مضي يومين على توزيع دعوة الاستقبال على الناس في الشارع قد تحوّل «الشاعران المفلقان» إلى شاعر واحد هو عنوان «مجد الأدب الإسلامي العصري»، (ولا تقل على مسمع عبد اللطيف الخشن أو سيف الدين رحال أنّ هذا ضحك على الذقون)، ومؤرخ واحد معروف «وذائع الصيت في أميركة» حتى أنّ كتبه في التاريخ قد أصبحت مدار اعتماد أساتذة التاريخ في جامعات أميركة الكبرى. والذين يسمعون اليوم لأول مرة بهذا المؤرخ العظيم الطائر الصيت يجب أن يثقوا أنهم عائشون في المريخ، لا أنّ المؤرخ هو الموجود في المريخ، لأنه لا طريقة أخرى لهم للخروج من هذا المعمّى ضمن دائرة الجد.
والظاهر أنّ الإذاعات بالكستليانية هي من اجتهادات الشاب إبراهيم حسين هاجر الذي كان مدة عاملاً لمكتب فخري البارودي في هذه البلاد ونشر نشرة في الدفاع عن هذا المكتب المرحوم حين قدوم الزعيم إلى هذه الجمهورية، أعلن فيها زعامة فخري البارودي لشباب العرب قاطبة، وقال إنّ الأمة «أجمعت على احترامه والثقة به والإعجاب بعلو همته».
ومن مدهشات أمانة السيد إبراهيم هاجر لزعيمه البارودي «ولإجماع الأمة على الثقة به» أنه نبذ هذا «الزعيم» قصياً واتخذ زعيماً جديداً يصفع البارودي وغيره من رجال «الكتلة الوطنية» بمقالاته هو المير شكيب أرسلان. والمطبلون للمير شكيب أرسلان اليوم يلقبونه «بزعيم الأمة العربية وممثلها الأوحد». وهذا يعني أنّ جميع الملوك والوزراء والسفراء للأمم العربية ليسوا سوى صور لا قيمة لها.
والحقيقة أنه ليس كثيراً على الراغبين في نيل رضى طامع في الخلافة كالمير شكيب أرسلان أن يجعلوا من ناظم كرشيد الخوري عنواناً لمجد الأدب الإسلامي، ومن نكرة كعلي الحاج مؤرخاً تعوّل الجامعات الكبرى في العالم على مؤلفاته، بل إنه ليس كثيراً على سياسي محترف كالمير شكيب أرسلان أن يرفع هذا «الأغلف» الملقب «بالقروي» إلى مقام مفضّل، عنده وعند زمرته، على مقام «مئات ألوف من المسلمين أنفسهم» في «خدمة الإسلام والدفاع عن شريعة محمد»، ذلك لأن شكيب أرسلان يعرف جيداً الغاية التي يستخدم لها رشيد الخوري وعلي الحاج وأمثالهما.
إنه مفهوم أنّ الإذاعة لرشيد الخوري وعلي الحاج، التي قصد أن يوسعها النفر الذين اعتصبوا للمير شكيب أرسلان في هذه المدينة، هي إذاعة موضوعة لغرض سياسي من فئة سياسية، وليست اهتماماً من علماء أو دائرة علمية أو أدبية. وكان الواجب يقضي ألا تتناول هذه المهزلة السياسية القيم العلمية بصورة مخجلة كالتي أبرزتها بها عند الصحف الأرجنتينية. أنظر إلى هذا الهرف المنشور في «لا راصون»:
«السيد «القروي» هو أحد الشعراء الفائقي السمو في اللغة العربية، ويؤكد بعض النقاد أنه قد فاق الكلاسيكيين المسلمين في إبداعه(!!). وعلى الرغم من أنه معقّب لتقاليد شعبه الشعرية فهو قد أدخل أشكالاً جديدة على اللغة، حتى أصبح يُعدّ مصلحاً حقيقياً للشعر»، إلى غير ذلك من الخلط الذي قصد منه إظهار رشيد الخوري أمام غير السوريين بمظهر ذي مقام خطير في عالم اللغة العربية وأدبها. وهذا الكلام في جريدة كــ«لا راصون» يتخذه أصحابه وسيلة ليخدعوا البسطاء فيقولوا لهم «أنظروا ماذا كتبت جريدة «لا راصون» وجريدة «المندو» وغيرهما».
والحقيقة أنّ هذا الكلام لم يكتبه ناقد أدبي ولا كاتب غير سوري وصل إلى هذه النتيجة من بعد درس طويل في اللغة العربية وآداب الأمم العربية. وهذا الكلام ليس سوى كلام وهمي خادع في معرض بروبغندا سياسية. وإنّ أديباً يحترم نفسه وأدب شعبه لا يسمح له إباؤه بقبول كل هذه النعوت ممن يجهلون حقيقة آداب الأمم العربية وطبقات شعرائها ومنزلة كل شاعر وكل ناظم.
وإليك ما قالوه في علي الحاج: «أما السيد علي الحاج فقد امتاز بعمله كمؤرخ للإسلام. وإنتاجه في هذا الباب مبعثر في عدد كبير من المجلات والمنشورات في العالم العربي»، ولم ينقصهم أن يزيدوا غير أنّ الأزهر في مصر أصبح يعتمد على أبحاث هذا المؤرخ العصري المرعب.
إلى هذا الحد من إهانة الأدب والتاريخ بلغ هوس المتطفلين على السياسة والأدب والاجتماع. ولا تُلام جريدة «لا راصون» أو غيرها فالجرائد غير السورية تجهل من هو رشيد الخوري ومن هو علي الحاج، ولذلك هي تقبل وتنشر ما يبلغها من الذين اتصلوا بها من أفراد الجالية السورية في هذه البلاد معتمدة على أمانة هؤلاء الأفراد في إعطاء المعلومات الصادقة. وقد لا يخطر لهذه الصحف أنّ المعلومات التي وصلت إليها لا قيمة لها غير قيمة الإذاعة السياسية. وإننا نتحدى هؤلاء الأفراد، كائناً من كانوا، أن يبرزوا لنا شهادة من الأزهر أو من المجمع العلمي العربي في دمشق أو من الجامعة السورية أو من أي مقام علمي أدبي في مؤسسة ذات قيمة، أنّ رشيد سليم الخوري هو عنوان مجد الأدب الإسلامي، وأنّ علي الحاج هو مؤرخ للإسلام.
مع كل هذه الدعاوة الطويلة العريضة فقد بلغنا من مصدر ثقة أنّ جميع الذين وفدوا إلى المرفأ الشمالي وجلبوا معهم أصدقاءهم لمشاهدة هذين الأديبين، العالميْن، المرعبيْن لم يتجاوزوا عدداً يتراوح بين العشرين والثلاثين، ومعظمهم من بسطاء الناس الذين يتعاملون تجارياً مع بعض القائمين بهذه اللعبة أو من الذين ينقادون لمثل سيف الدين رحّال الكاتب المصري الذي يشتغل في «الفطرة الإسلامية».
والحقيقة أنّ النشرة التي وزعت في الأسواق لتشويق الناس لاستقبال الشخصين القادميْن تدل دلالة واضحة على نوع مقام هذين الرجلين في عالم الأدب والعلم. فعبارة «هلمّوا للترحيب بهما واجلبوا معكم أصدقاءكم» قد فضحت اللعبة من الأول. وواضح من الحث على جلب الأصدقاء الذين لا خبر عندهم أنّ القصد تكثير عدد «المستقبلين» وأنّ هنالك أيدي تعمل خصيصاً لاستغلال الأمر بأية صورة كانت.
بهذه الشعوذة استُقبل «الشاعر المبدع، (نكاية بالحزب السوري القومي من الخشن والرحّال ومن لف لفّهما)، الذي أضاف إلى اللغة العربية أساليب جديدة للشعر، رشيد سليم الخوري، والمؤرخ الذي أضاف على تاريخ الإسلام حلقات جديدة ستغيّر نظرة العالم إلى الإسلام، علي الحاج».
فنهنّىء القادميْن بهذ الوسام الهزلي من أكاديمية المهازل السورية في الأرجنتين. ونتمنى للمشاهدين حصول الطرب والانشراح وتفريج الكرب التجارية بالألعاب البهلوانية التي استقدم هذان المشعوذان المرعبان للقيام بها.