الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 19، 30/4/1941
ذكرنا في العدد السابق أنّ جالية فرقمينة وجهت دعوة إلى معالي الزعيم ليتكرم بإلقاء محاضرة فيها، وأنّ معاليه لبى الدعوة وعزم على السفر يوم السبت في 19 أبريل/نيسان الماضي وعلى إلقاء المحاضرة يوم الأحد التالي. وهكذا كان فقد سافر الزعيم الساعة 16:30 في القطار المستعجل من محطة رتيرو، حيث ودّعه عدد من القوميين ووصل إلى فرقمينه الساعة 21، فاستقبلته على المحطة وفود جميع الجمعيات السورية الموجودة في فرقمينه، وهي جمعية «مكتبة الإخاء العربية»، وجمعية «الإسعاف المتبادل السورية»، و«النادي الرياضي السوري»، وجمعية «الجامعة اللبنانية»، و«الجمعية العربية»، و«الجمعية السورية الخيرية». ورافقته هذه الوفود إلى دار المكتبة السورية حيث أعدت مائدة مقبلات. فشرب المستقبلون نخب الزعيم وتكلم رئيس المكتبة السيد عبد الله جرجس دروج مرحّباً بالضيف الجليل، فقال: إنّ زيارة الزعيم لجالية فرقمينه تُعدّ أعظم شرف نالته هذه الجالية، وتمنى أن تحوز روحية الجالية الوطنية رضى الزعيم. وجرى على الأثر حديث افتتحه الزعيم بالسؤال عن سبب تعدد الجمعيات التي تخدم كلها غاية أو غايتين، وهل تقضي الضرورة بهذا التعدد؟ وأبَان حضرته الفائدة الجليلة لتوحيد المجهود ولكنه قال: «إني لا أقترح عليكم توحيد الجمعيات الآن. فأنا لا أبدي مثل هذا الرأي إلا متى استوثقت من إمكان تنفيذه عملياً، أي من استتباب الشروط له. وإني أعلم الأمراض الاجتماعية المتفشية في شعبنا التي لا تسمح بتوحيد الأعمال. وأبشركم بأن الوحدة ستأتي عن غير طريق النظر في توحيد الجمعيات الحاضرة، وأكتفي الآن بلفت نظركم إلى ضرورة التوحيد».
بعد ذلك قدّم عشاء في فندق فشينه. وفي صباح اليوم التالي جاء عدد من المواطنين للسلام على الزعيم والمباحثة معه في شأن حالة الوطن الحاضرة، والحركة السورية القومية التي لاقت قبولاً عاماً في أوساط الجالية في فرقمينه.
وكان موعد المحاضرة الساعة 17:30 في دار المكتبة السورية. وفي الساعة المعينة دخل الزعيم فاستقبله الجمهور بالهتاف بحياته وكان عدده نحواً من مئتين. واتخذ الزعيم كرسيه تحت قوس تدلت منه قطعة قماش بيضاء كتب عليها «لتحيَ سورية وليحيَ الزعيم». وقد دلت كتابة هذه العبارة على الروحية السورية القومية التي اضطرمت في أوساط الجالية السورية في فرقمينه بفضل قوة شعور عناصرها الجيدة، وعلى إعجاب سوريــي فرقمينه ومحبتهم للزعيم ورسالته القومية.
بعد أن ردّ الزعيم التحية للجمهور واستقر به المقام، نهض رئيس «مكتبة الإخاء العربية» السيد عبد الله جرجس دروج وألقى كلمة تمهيدية أعلن فيها أهمية حادث زيارة الزعيم لجالية فرقمينه فقوبلت كلمته بتصفيق حاد.
على الأثر ابتدأ الزعيم يحاضر في الموضوع الذي ذكرناه في العدد السابق وهو: «عوامل فاصلة في الاتجاه السوري الحديث نحو عهد جديد». ولكنه لم يكد يفوه ببضع عبارات حتى عدل عن الجلوس واختار أن يحاضر واقفاً ليتمكن من رؤية وجوه الحضور، إذ لم تكن هنالك منصة عالية تمكِّن من ذلك. فأظهر الجمهور تقديره لهذه العاطفة الجميلة من قبل معالي الزعيم. ثم تابع الزعيم كلامه الذي نلخصه في ما يلي آسفين لعدم وجود من يتمكن من تدوين كل ما قاله الزعيم كلمة كلمة:
أكثر السوريين المهاجرين الذين لم يتسنَّ لهم الاتصال بالحركة السورية القومية ومبادئها الأساسية والإصلاحية، ومناحي تفكيرها ومناهج أعمالها لا يزالون يجهلون أنّ هنالك اتجاهاً جديداً في حياة الشعب السوري. وهذه الحقيقة يدركها الزعيم جيداً ولذا قال: «تعلمون مما أذيع عليكم أني سأحدثكم هذه الساعة في موضوع عوامل فاصلة في الاتجاه السوري الحديث نحو عهد جديد. وكأني بأكثركم يتساءلون: وهل يوجد اتجاه سوري حديث؟ إني أعرف الأسباب والعوامل التي منعت أكثر السوريين النازلين في بلاد غريبة من معرفة هذه الحقيقة وهي: أنه قد تولّد حديثاً في سورية اتجاه نحو عهد جديد يعرف باسم النهضة السورية القومية أو الحزب السوري القومي». وقد أبقى الزعيم الكلام على العهد الجديد الذي هو غاية الحركة السورية القومية إلى الأخير. وبعد أن جاء بلمحة عن كيفية نشوء النهضة السورية القومية في جو هادىء من العلم والبحث، وكيف كانت في أول عهدها أفراداً قلائل يجتمعون إليه ليعلّمهم ويوجههم، وكيف أخذت تمتد في أوساط الشعب المبلبل بمفاسد العهد القديم، حتى أصبحت حقيقة شعبية عامة، انتقل إلى صلب موضوع محاضرته، أي العوامل الفاصلة التي تجعل الحركة السورية القومية اتجاهاً عاماً للشعب السوري.
قال الزعيم إنّ أول عامل فاصل في الاتجاه القومي الحديث في سورية هو: «الغاية الواضحة». فصوّر الفرق بين وجود الغاية وعدم وجودها. ثم أخذ يعيّن مراتب الغاية مبتدئاً بالفردية والمادية التي كانت أول مرتبة من مراتب الغايات المدركة. ومثّل الزعيم إنساناً سادراً يجول بصورة آلية ولا يقصد إلى أمر، وسأل هل يحقق أمراً وهو لا يسعى لشيء؟ ثم بيّن كيف أنّ هذا السادر قد يقف بغتة لأن الجوع أدركه، وأخذ يعيِّن مسعى يسعاه هو حيازة القوت. وقال متى أخذ الجائع يسعى في طلب القوت أمكن القول إنه صارت له غاية واضحة. ولو وقف الإنسان في غاياته عند هذا الحدّ لما تميّز عن الحيوان. ولكنّ الإنسان يمتاز بعقله وإدراكه، وغاياته ترتقي وفاقاً لارتقاء نفسيته. فهو بعد أن يدرك قوت ساعته يفكر في تأمين استمرار حصول القوت له ليس فقط بالجمع والخزن، بل بالعمل والإنتاج كالزرع والحصاد. وبعد أن يؤمن هذه الناحية يرتقي إلى مرتبة أعلى يعمل عليها للغايات النفسية كالفضائل والفنون والآداب. وانتقل الزعيم من الغاية الإنسانية الفردية إلى الغاية المجموعية فأوضح ترابط الجماعة. وقال إنّ أول عامل فاصل في الاتجاه السوري الحديث بواسطة الحركة السورية القومية هو وجود الغاية الواضحة التي أنقذت الشعب السوري من فوضى المعتقدات والأفكار التي لم تعيّن غاية أخيرة واضحة تطمئن لها النفس السورية.
مهّد الزعيم في بحثه العامل الفاصل الأول لتناول العامل الفاصل الثاني الذي هو: «الشعور بالشخصية القومية». فميّز بين مراتب ارتقاء الإنسان من مرتبة الخضوع للعوامل البيولجية البحتة إلى مرتبة الشعور بالشخصية الفردية، ثم بالعائلة، ثم إلى مرتبة الشعور بشخصية الجماعة الكبرى ــــ الشعب، الأمة. وبيّن كيف أنّ هذه المرتبة هي التي تحفظ حياة الأمم وعليها تحقق الشعوب مثلها العليا وتكفل أكبر نصيب من الحياة الجيدة. وقال إنّ انتصار فكرة الأمة على فكرة الفرد والعائلة هو العامل الفاصل الثاني في اتجاه الشعب السوري بواسطة الحركة السورية القومية. وأوضح الفرق بين السوريين القوميين الذين يشعرون بأخوّة عامة حقيقية من أداني سورية إلى أقاصيها وإلى كل مكان وجد فيه سوريون قوميون. فجميعهم يشعرون شعوراً واحداً، ويفكرون تفكيراً واحداً، ويطلبون غاية واحدة واضحة. وشعورهم بمجموعهم ورابطة حياتهم ومثلهم العليا هو أقوى كثيراً من شعور اللاقوميين المتفسخ بأنفسهم وعائلاتهم، فتضحياتهم الكبيرة أصبحت مضرب الأمثال. وبهذا الشعور الحي وهذه الغاية الواضحة صار لسورية قضية قومية تؤهلها لطلب مكانها في مصاف الأمم الحية وللسعي الموحّد لحيازة هذا المكان. وطلب الزعيم من الجمهور أن يُبقي كل واحد منهم هذين العاملين الفاصلين في ذاكرته ويتأملهما جيداً: الغاية الواضحة، والشعور بالشخصية القومية، فهما يفصلان سورية القومية الناهضة عن سورية الرجعة، والبلبلة والتفكك عن طريق الفردية المادية.
بعد إتمام الكلام على العاملين الفاصلين المتقدمين وضع المحاضر أمام الجمهور عاملاً فاصلاً ثالثاً هو: القيادة. وذكر من مزايا هذا العامل الفاصل المزايا الأساسية الآتية: الهداية الثابتة المستمرة، توحيد الجهود، حشد القوى على خطة واحدة، التخطيط وتعيين الأهداف التي يجب أن ترمي إليها الجهود والقوى المحشودة مع اجتماع عناصر القضية. وقال الزعيم إنّ أهمية القيادة تفوق، من الوجهة الفعلية، أهمية أي عامل آخر. وظهور القيادة في الاتجاه السوري الحديث هو أعظم خطوة إلى الأمام خطتها سورية في تاريخها الحديث. فهي دليل إدراك عالٍ لخطورة القضية القومية ومتطلباتها الروحية والفكرية والتكنيكية. وقد ضرب الزعيم مثلاً قيادة الجيوش في ساحات الحرب، وأوضح الفرق بين جيش له قائد وجيش عديم القيادة، متخذاً مثلاً له ما كان من أمر الصدام الدامي بين فرق من الحزب السوري القومي وحملة الجند المسيّرة عليها في بكفيا. فهذا الحادث التاريخي يقدم أفضل مثل اختباري على أهمية القيادة. وحكاية ما جرى أنه لما أخذت الحكومة علماً بقدوم بعض فرق ميليشيا الحزب السوري القومي لتؤدي التحية للزعيم بمناسبة زيارته تلك البلدة الجميلة، سيّرت على هذه الفرق حملة عسكرية بقيادة الملازم فيليمون الخوري وتحت الرئاسة المدنية لقائمقام المتن السيد فؤاد البريدي. فلما صلت هذه القوة إلى ساحة بكفيا حيث كانت فرق الحزب البالغة نحو ثلاث مئة نفر عدّاً، صاح القائمقام بالقوميين أن يتفرقوا، فأجابه واحد من المأمورين إنّ الذي له الحق أن يأمر الجنود القوميين بالتفرق هم رؤساؤهم فقط. فقال القائمقام: «هاتوا أعلامكم»، وكانت الفرقة القومية بأعلامها. فأثارت هذه الوقاحة غضباً في الصفوف القومية ولم يتمكن واحد من القوميين من كتمان غيظه فصاح بالقائمقام: «ليتقدم من يريد أخذ أعلامنا يأخذها إنْ أمكنه»، فأشار القائمقام إلى الملازم بتولي الأمر وأخذ الأعلام القومية بالقوة.
كانت الحملة التي بقيادة الملازم تبلغ نحواً من مئتين أو مئة وخمسين بسلاحها الكامل وخوذها الفولاذية وحرابها في مقدمة بنادقها. أما أفراد الميليشيا القومية فكانوا عُزّلاً حتى من العصي والقضبان، إذ كانت الأوامر مشددة عليهم بعدم نقل سلاح، لأن الحكومة كانت تطلب حجة علنية تجرّمهم بها أمام الشعب.
عندما صار الأمر في يد السلطة العسكرية، أمر الملازم الخوري قسماً كبيراً من جنوده بالتقدم ونزع الأعلام من حامليها. فأجاب قائد الفرق القومية على حركة الجند بتكوين سد متمكن من صفوف القوميين مرتباً إياها صفاً وراء صف. فتقدمت جنود الحكومة حتى بلغت صفوف القوميين فضغطتها بأجسامها ومؤخرة بنادقها ولكنها لم تستطع خرقها أو ليّها. ففشل الجنود تجاه عزيمة القوميين الصادقة وثباتهم، وكانت عادة الجنود أن يروا الناس وجماهير المظاهرات اللاقومية يفرون من مجرّد مرآهم. فارتدّوا خائبين، على مرأى ومسمع من أهل بكفيا الخارجين من كنائسهم، إذ اليوم يوم أحد. فاغتاظ الملازم غيظاً شديداً، وأعاد جنوده إلى الوراء، ورتب كل القوة التي بقيادته ترتيباً طويلاً وقليل العرض ليضغطوا قلب الصفوف القومية، وأمرهم أن يسددوا حرابهم. فلما رأى القائد القومي ترتيب الجند صبر حتى ابتدأوا يتقدمون ثم أعطى أوامره، فانشطرت الصفوف القومية إلى شطرين وخرج رأس كل شطر من أقصى الجناح وتبعت الصفوف الأمامية اتجاه الرأسين، وإذا بالقوميين يكوّنون شبه ذراعين مجدولين، وبقيت في القلب قوة كافية لحراسة الأعلام. وقبل أن يدرك قائد الجنود ماذا سيحدث صفّر قائد القوميين فالتفّت الذراعان وصارتا طوقاً واحداً مزدوجاً حول الجنود وعزلتاهم عن قائدهم الذي صار خارج الدائرة. وللحال تقدم نحوه عدد من القوميين وأحاطوا به وحملوه إلى بعد مئة متر من مكان جنوده المحصورين ومنعوه من إصدار الأوامر.
فقد الجنود قائدهم، وأصبح أمرهم فوضى لا يقدرون أن يجمعوا على عمل موحّد، فأطبق عليهم القوميون وقبضوا على معظمهم، وأرسل قائد القوميين يسأل الزعيم الموجود على الشاي في فندق قريب عن المصير الذي يريده للجند، فأصدر الزعيم أمره بعدم تجريدهم من سلاحهم وبقبول الصلح على أن لا تتعرض القوة العسكرية للفرق القومية لتأخذ وجهتها. فأخرج القائمقام من مخبأه وعرض عليه إمَّا عدم التعرض للقوميين وإمَّا تجريد الجند من سلاحهم فقبل الشرط الأول. فرفع القوميون أيديهم عن الجند، وبعد قليل أخذت فرقهم تسير بنظام لتعود إلى أماكنها بعد أن سجلت ظفراً عظيماً للحزب السوري القومي. ولم يمحُ هذا النصر العمل الاعتدائي اللئيم الذي قام به قائد الجند بعد أن سار معظم القوة القومية. وقال الزعيم ليس أضل من شعب عديم القيادة في جهاده لنيل حريته وحفظ حقوقه ومصالحه.
تناول الزعيم عاملاً فاصلاً رابعاً هو: «السلطة». فقال إنّ قيام سلطة من صميم الشعب السوري يطيعها السوريون ويرجعون إليها في أمورهم هو قاعدة الاستقلال الفعلي. فالسلطة القائمة من الشعب في الشعب هي عنوان استقامة أمر الشعب وانتظام شؤونه ورفضه الاعتراف بأية سلطة أجنبية عليه. والشعب الذي يفقد مبدأ السلطة والطاعة يفقد مبدأ استقلاله الفعلي ويكون أمره فوضى فلا تقوم له قائمة.
هذه العوامل الأربعة، يقول الزعيم، هي عوامل فاصلة في الحركة السورية القومية التي تقود الشعب السوري نحو عهد جديد. فما هو هذا العهد الجديد؟
هو عهد تحقيق مبادىء الحزب السوري القومي ــــ عهد فصل الدين عن الدولة، وجعل القومية السورية الجامعة الحقيقية للسوريين، فلا يظلون متفرقين أدياناً وشيعاً، عهد إلغاء الإقطاع وتحرير الفلاحين من استعباد الإقطاعيين وتحسين أحوالهم المعاشية والثقافية ليكونوا أعضاء عاملين في الدولة القومية. عهد إقامة العدل الاجتماعي ــــ الاقتصادي الذي يحقق أعلى مستوى من الحياة الجيدة، العامة، للأمة، عهد تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج ليحدث التوازن بين توزيع العمل واقتسام الإنتاج.
في العهد الجديد تزول الأسباب التي دعت إلى تقسيم الأمة السورية إلى أمم ودول شامية ولبنانية ودرزية وعلوية وفلسطينية وأردنية، وتستتب شروط الوحدة السورية القومية وقيام الدولة السورية، فتصبح السيادة القومية حقيقة ويصبح وطننا لنا، وحينئذٍ يعود كثير منكم إلى وطنهم، ميراث آبائهم وأجدادهم وينضمون إلى أهلهم ويحيون حياة السيادة والعز بعد ما لاقوه من قهر ومشقَّة في غربتهم، ويكونون جزءاً حراً من أمة حرة مجيدة هي أمة السوريين.
تمَّت المحاضرة والناس لا يزالون شاخصين في الزعيم وفي عيونهم بريق الأمل ممزوجاً بمرارة الماضي وفي عيون البعض رقرقة دموع. وما هي إلا كمثل لحظة حتى استفاق الجمهور استفاقة واحدة فإذا التصفيق ممزوج بهتاف خارج من أعماق النفوس: لتحيَ الحركة السورية القومية وليحيَ سعاده!