تحامل محرر «السمير» [1]
إيليا أبو ماضي ورشيد سليم الخوري
و«الزوبعة» و«سورية الجديدة» و«السمير»
الزوبعة، بوينس آيرس، العددان 22 و23، 15/6/1941 و1/7/1941
في الحلقة الأولى من سلسلة مقالات «جنود الخلود» الدراسية في الأدب والعلم عن طريق النظر في ما أثاره رشيد سليم الخوري بمطاعنه الخفية في شخصية الزعيم وبتحامله على الحزب السوري القومي وبتصدّيه للحكم في أمر المسيحية والإسلام على جهل منه، وهي المقالات التي تنشرها «الزوبعة» وتشاركها في النشر «سورية الجديدة» وردت هذه العبارة التي هي للزعيم: «لا فائدة من التوفيق بين النفسية الجديدة والنفسية العتيقة». ووردت أيضاً هذه العبارة: «ولمّا كانت الحرب بين النهضة القومية وأعدائها (الداخليين)، أصحاب الخصوصيات والرجعة، واقعة فلا بدّ أن تشمل الأدب أيضاً، لأنها حرب كلية بين نفسيتين وما فيهما من قوى وعناصر». ووردت في الحلقة السابعة من السلسلة المذكورة هذه العبارة: «إنّ الحركة السورية القومية، التي هي حركة محاربة، مهاجمة، لا تخشى «إشهار الحرب» من قبل بعض «رفاق» الخوري».
ذكرنا هذه العبارات لأن لها علاقة وثيقة بما سيجيء في هذه المقالة لوضع كل شيء في محله فيما يختص بجريدة «السمير» ومحررها وموقفها الأخير من الحركة القومية:
«السمير» جريدة يومية تصدر في بروكلن، نيويورك، الولايات المتحدة. صاحبها ورئيس تحريرها المسؤول ومحرر «اليوميات» فيها، إيليا أبو ماضي الشاعر السوري الذي له موهبة شعرية حقيقية ولكنها تحددت تحدداً كلياً بعامل نشأة الشاعر وبيئته وحياته، على ما يظهر. ولا معلومات أكيدة عندنا عن ثقافته ودراسته الصحيحة. ولكن يمكن استنتاج مداها من مقالاته وما يبذله من جهد في جريدة «السمير».
عندما بلغ أمر الحزب السوري القومي أميركة حبّذته صحف سورية عديدة في المهجر. وبلغنا أنّ الشاعر إيليا أبو ماضي يصح أن يحسب سورية قومياً. هذا ما اعتقده الذين بلّغونا ذلك وهذا الاعتقاد مبني على نسبة معرفتهم الحزب السوري القومي ومبلغ فهمهم قضيته وحركته. وقد حاولنا أن نعلم حقيقة موقف محرر «السمير» من الحركة السورية القومية ومبادئها ومراميها وخططها. فراقبنا مدة نحو سنتين نهج «السمير» في هذا الصدد فلم نجد صحة لما قاله بعض حسني النية حول قومية أبي ماضي، بل وجدنا هذا الشاعر وجريدته يعرجان بين ناحية وأخرى. فمرة نقرأ مقالاً يذكر «الأمة السورية» وأخرى نقرأ مقالاً يسمي السوريين «عرباً»، أي بتجريدهم من نسبتهم إلى «الأمة السورية» التي اعترفت بها «السمير»، ثم نقرأ مقالاً يحبب الناس بنسيان كونهم مهاجرين من وطن يشتاقهم ويشتاقونه، فلا تمرّ أيام قليلة حتى نقرأ مقالاً آخر يطلب من هؤلاء الناس عينهم أن يسارعوا إلى الاهتمام بما تنسى «السمير» أنها علّمتهم أنه لم يعد وطنهم، إذ صار وطنهم حيث يعيشون في مهاجرهم. وقرأنا بعض مقالات من قلم تحرير «السمير» ظاهره في مصلحة الحزب السوري القومي ولكنه يحمل سناناً حاداً يطعن به هذا الحزب من غير سبب معقول واضح. وأحياناً تنشر «السمير» لكتّاب قوميين أو محبذين للحركة السورية القومية مقالات ولكن يندر أن لا تهشم هذه المقالات وتمسخها. فمن حيث المسائل القومية والسياسية المتعلقة بأمتنا ووطننا ترى «السمير» مائعة كل الميعان. وهذا الميعان هو الذي شجع بعض القوميين على الظن أنّ إيليا أبو ماضي يقترب رويداً من النهضة القومية وأنه يجب تشجيعه. وقد تورط بعض هؤلاء الرفقاء وسلكوا مع أبي ماضي سياسة التوفيق بين القومية واللاقومية وهي السياسة التي يشجبها الزعيم ويقول بعدم فائدتها.
مع كل ذلك لم نقطع الأمل من إيليا أبي ماضي. ومع كل الإساءات إلى الحزب السوري القومي وإلى شخص الزعيم التي تعمدتها «السمير» لم نشأ أن نسدد هذا الحساب، خصوصاً لأن الزعيم شاء التساهل في حقوقه المهضومة وفي أمر «السمير»، قائلاً: «لعل لأبي ماضي عذراً من أموره الخصوصية» فاحترمنا مشيئة الزعيم. وشجعنا على هذا الموقف من «السمير» ما بلغ مدير هذه الجريدة «الزوبعة» من أنّ أبا ماضي قال لبعض القوميين «أنا معكم» وأنه أظهر أسباباً خصوصية لعدم تمكنه من التظاهر بموقف سوري قومي صريح. ولعل اعتبار هذه الناحية هو ما حمل الزعيم على الإشارة بعدم فتح مسألة «السمير» وموقفها من الحركة السورية القومية. ونحن نعترف أنّ هذا السبب هو الذي شفع عندنا بموقف محرر «السمير» ليس فقط في ما يختص بالحركة القومية، بل في ما يختص بالأمانة الصحافية للتاريخ وللحقيقة وللرأي العام.
ظل هذا شأننا إلى أن وردتنا أعداد شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيين من «السمير» فوجدنا أنها تحمل تحاملاً لا يصح السكوت عليه. خصوصاً العدد 107 الصادر في 26 مارس/آذار الماضي وفيه مقال رئيسي في باب «يوميات» تحت عنوان «سورية الجديدة» والشاعر القروي». وهذا الباب هو الخاص برأي الجريدة المسؤول عنه رئيس تحريرها الذي يدوّن فيه أفكاره وتعليقاته. والمقال يتناول «هاني بعل» ومقالاته «جنون الخلود» و«الزوبعة» و«سورية الجديدة» و«الحزب السوري القومي».
التحامل هو سدى المقال المذكور ولحمته. نقول ذلك بصورة جازمة ونؤيد قولنا بأدلة لا تنقض من المقال عينه. وأهم دليل نورده هو أنّ كاتب المقال اعتمد على استبداده الشخصي بالمنطق وبالاستنتاج من غير دليل ليطلق أحكاماً لا نعتقد أنّ موارده الثقافية تعينه على إثباتها، كقوله عن هاني بعل إنه «بعيد عن أن يكون كفوءاً لتحليل نفسية شاعر كالشاعر الذي اختاره هدفاً، الخ». فالشيء الوحيد الذي يستند إليه أبو ماضي ليقول هذا القول هو الأسلوب الخطابي ــــ الشعري، الذي استعمله في المقال الذي نحن بصدده، والمقام ليس مقام خطابة وأشعار، بل مقام بحث في حقيقة الشعر، و البحث له دراساته وشواهده وأدلته واستقراءاته.
وبعد كثير من الكلام الاستبدادي غير المدعوم بشاهد أو برهان رأى الكاتب أن يحاول محاولة توهم القرّاء أنه يستند إلى دليل. وهذه المحاولة هي أن يتناول، من ضمن البحث كله الذي بحثه هاني بعل، أبياتاً ثلاثة فقط للقروي وبعض عبارات أو مدلول عبارات لهاني بعل في صددها، مهملاً بقية العبارات وكل التحليل المتعلق بهذه الأبيات وموضوعها وما هي متعلقة به من أبيات تأتي بعدها. ومهملاً كذلك أهم نقاط البحث المتعلقة «بشاعرية» الخوري ومنظوماته.
والحقيقة أننا كنا، حتى الآن، نجهل أنّ أبا ماضي في نقد الشعر والأدب على الجملة كرشيد الخوري في بحثه في طبيعة الدينين المسيحي والإسلامي، فشاء أن لا نبقى في هذا الجهل، فشكراً له.
قال أبو ماضي في المثل الوحيد الذي رأى أنه يجوز أن يجد فيه حيلة للدفاع عن رشيد الخوري وشاعريته:
«ومن الأمثلة على تجنّي الناقد (هاني بعل) أنه تناول هذه الأبيات وعركها عركاً كما يعرك المرء بيده أوراق وردة ندية ثم يطرحها جانباً وهو يقول ــــ أي جمال فيها؟ وهي:
غرست بلبنان ورد الأمل فقل للبرازيل أن تمحلا
وجدت عليه بمزن المقل فقل للأمازون أن يبخلا
وحلّيت قلبي بنبع «العسل» فقل لليالي أمطري حنظلا
«أنظر ما يقول «هاني بعل» في هذه الأبيات: «هي قول أو تقصيد مجرّد من كل صورة شعرية. والصورة التي ترسمها من أسخف ما يمكن أن تتصوره مخيلة قوال بسيط».
«وليس الأمر كما قال، بل ما أبعده مما قال. ففي هذه الأبيات صورة مشرقة من صور محبة الوطن الأول (عند أبي ماضي يوجد وطنان أو أكثر فالأول هو الذي ولد فيه والثاني حيث يقيم والثالث هو الذي يحتمل أن ينتقل إليه وهلم جرا فما أبدع هذه الفكرة الوطنية!) لا يمكن أن نرى مثلها إلا في شعر تلك البدوية المتداول على الألسنة وهو: لبيت تخفق الأرياح فيه، الخ. والقروي لا يقضي على البرازيل أن تمحل كما توهم الناقد ولكنه يقول: ما دام لي في لبنان ورد الأمل الذي غرسته فلا أبالي أن تمحل البرازيل التي أنا فيها (ألا يشعر أبو ماضي بالغضب لإهانة الوطن الثاني؟!). وبعبارة ثانية يقول ــــ لا أبالي ما ينالني في البرازيل من العسر والضنك ما دامت روحي في لبنان في قصر الرجاء الذهبي».
هذا هو المثل الذي اتخذه أبو ماضي، وهذا هو برهانه الوحيد للتحامل على هاني بعل ورميه «بالتجني» وبأنه «ليس كفوءاً لتحليل نفسية شاعر». والذين تابعوا سلسلة «جنود الخلود» من أولها وفهموها يرون أنّ تحليل هاني بعل لنفسية الناظم الملقب بالقروي تناول تحليل قصائد برمتها وأبيات كثيرة من ديوانين له. ويرون أيضاً أنّ أبا ماضي كان مغرضاً في فهم نقد هاني بعل للأبيات المتقدمة وأنه هو، أبو ماضي، هو الذي جاء بزجاجة مشعثة مشوهة ووضعها على عينيه ليرى نقد هاني بعل بها، وجاء بزجاجة ملونة نظر بها إلى أبيات الخوري المذكورة آنفاً ليراها بألوان الزجاجة لا بألوان الأبيات الحقيقية، فبرهن أنه أبعد ما يكون عن نقد الشعر والأدب وعن فهم نظرات الناقد الذي هو كفوء للنظر، ليس فقط في نظم من هم مثل رشيد الخوري وإيليا أبو ماضي، بل في الشعر على إطلاقه من الوجهة العالمية، كما تشهد بذلك تحليلاته الدقيقة في «جنون الخلود».
يرى القرّاء الذين يهتمون بمقابلة ما فهمه، أو ما أراد أن يفهمه أبو ماضي، من نقد هاني بعل لهذه الأبيات والأبيات الأخرى التي هي من القصيدة عينها على النقد الأصلي كما ورد في الحلقة الثانية من سلسلة «جنون الخلود» أنّ أبا ماضي أراد أن يفهم الأبيات ونقدها على الوجهة التي يحبها لا على الوجهة التي تشير إليها الأبيات.
إنّ هاني بعل لم يقل إنّ هذه الأبيات لا تشتمل على محبة الوطن (الذي يسميه أبو ماضي الوطن الأول) ولكنه قال إنها سخيفة كشعر للدلالة على محبة الوطن وموضوع «الرجاء الوطني» الذي وضع لها. ولنذكر أنّ هاني بعل ذكر أنّ نقده لمنظومات الخوري كان مستعجلاً، أي إنه لم يقف عند كل التفاصيل التي يمكن كل ذي عقل سليم استخراجها بالقياس على غيرها، لأن موضوع بحثه الأساسي هو «محاضرة» الخوري في المسيحية والإسلام.
ولم يجزم هاني بعل بأن هذه الأبيات لا تحتمل التأويل على الوجه الذي يشير إليه محرر «السمير» وهو «أن لا يبالي الناظم بإمحال البرازيل أو بضنكه فيها» ما دام قد غرس ورد أمله بلبنان، وقد حاول أبو ماضي تلوين هذا التأويل فوضع زجاجة ذهبية اللون على عينيه وقال: «وبعبارة ثانية يقول ــــ لا أبالي ما ينالني في البرازيل من العسر والضنك ما دامت روحي في لبنان في قصر الرجاء الذهبي». فقوله «ما دامت روحي في لبنان في قصر الرجاء الذهبي» هو وضع وصف جديد غير موجود في الأبيات نفسها. وعلى طريقة أبي ماضي في فهم الشعر يكون الشاعر شاعراً ليس على قدر شاعريته هو، بل على قدر تخيل شاعر آخر لشاعريته. وهذا ما أشار بوجوب الحذر منه هاني بعل في مقالته الانتقادية عينها، وهي الثانية، بقوله في موضع آخر: «وإخراج الرمز يظل منوطاً باجتهاد كل قارىء في تخيل الصور والأشكال». فالشعر الحقيقي يجب أن يكون دليله من تعابيره لا من مخيلة القرّاء الشعراء.
وكلام أبي ماضي في الدفاع عن الشعر في الأبيات المذكورة لا يغيّر شيئاً من حكم هاني بعل عليها من حيث مدلول الأبيات الشعري لا من حيث ما قصد الناظم. فنقد الشعر يكون بالنظر إلى ما تصفه أو تمثله الأبيات لا بالنظر في قصد الناظم الأولي الذي قد يكون جميلاً ثم يشوهه بطريقة نظمه. وهذا ما يحسن أن يتعلمه محرر «السمير» الذي قد يكون شاعراً موهوباً في ناحية من نواحي الشعر، ولكنه برهن على أنه ليس ولا يصلح أن يكون ناقداً للشعر. فبين الشاعر وناقد الشعر مسافات لا يمكن اجتيازها بقصيدة ولا بخيال ولا بتفنن!
إنّ الشعر موهبة وفن، أما نقد الشعر فثقافة اختصاصية واسعة، تقوم على علم غزير ودراسة طويلة وموهبة أخرى للنظر في المنظومات في ذاتها، وليس للنظر في ما نقدر أن نتخيل أنّ الناظم أراد منها.
ولجهل أبي ماضي هذه الحقيقة الجلية تورّط في كلام أرسله اعتباطاً في أمور يعاب عند أهلها بجهلها. من ذلك قوله:
«أما فكرة القروي الوطنية فلن تتفق أبداً مع فكرة «هاني بعل»، لأن هذا قد قنع بحيّز محدود في الحياة لا يتعداه ولا يريد أن يعترف بسواه، بينما الشاعر لا يحصره حيّز من فكر أو مادة. وهذه ميزته الأولى وطابعه المعلم».
هذا هو فهم أبي ماضي للقومية. وهذا هو مقياسه للشعر والشاعر.
فإذا كان الشاعر لا يحصره حيّز من فكر أو مادة، وكان، لذلك، لا يفهم معنى الوطن أو لا يتقيد به لأن الوطن هو حيّز محدود، فلماذا يتكلم هذا «الشاعر» عن الوطنية والرجاء الوطني!؟
وإذا كان الوطن لا يعني حيّزاً محدوداً للشاعر، فلماذا وضع الناظم الذي يدافع عنه أبو ماضي رجاءه الوطني في لبنان، وليس في الدنيا كلها أو في الكون أو في اللاشيء أو اللامحدود؟!.
الحقيقة أننا لم نكن نتوقع أن يكون أبو ماضي أقل فهماً للوطن من رشيد الخوري. فإنّ هذا الأخير، على سخافة نظمه وخلو معظمه من الشعر وعلى شدة ميعان فهمه للوطن لم يصل إلى هذا الدرْك من الشاعرية الذي يصير للشاعر فيه أكثر من وطن واحد بالمعنى القومي، كما هو الواقع للشاعر إيليا أبو ماضي!
ويبدو ضعف تفكير أبي ماضي، بل عجزه التفكيري في قوله: «إذا كان الشاعر القروي سخيفاً لا شأن له كما يقول الناقد (هاني بعل) فما أحراه أن يكون كبيراً فلا يتعرض للسخيف التافه».
وعلى هذا القياس يكون العارض لدرس الحيوانات والحشرات الحقيرة الشأن بالنسبة للحيوانات العليا أحقر من الحيوانات والحشرات التي يدرسها ليستخرج عبرة منها للناس!
وعلى هذا القياس لا يجوز أن نسمّي من يدرس طبائع الحيوانات الدنيا عالماً زولوجياً بيولوجياً، بل حيواناً دنيّاً حقيراً. فللّه درّ أبي ماضي في مقاييسه الفكرية والفنية!
إننا، في كل ما رأينا من أنواع التفكير السخيف، لم نجد تفكيراً أشد تعثراً بأذياله من هذا التفكير!
كلا، يا أبا ماضي، ليس الشاعر هو ذاك الذي لا يحصره حيّز من فكر أو مادة. بل الشاعر هو الذي يقدر على إبراز أسمى وأجمل ما في أي حيّز من فكر أو مادة إبرازاً جميلاً سامياً، رائعاً. وشرطه أن يكون مدركاً كل الإدراك لحيّز الفكر والمادة والشعور ليتمكن من التعبير عن الأشياء تعبيراً غير خارج عن حقائقها الأساسية.
إنّ في عالم الإنسانية حقائق أساسية وأوليات منطقية إذا تجاوز حدودها الشاعر لم يعد شاعراً، بل صار هاذياً سخيفاً لا يكون أسخف منه من يبين سخفه للناس، ولكن يكون سخيفاً مثله من ينتصر لهذيانه ويتهم العالِم الذي أوضح حقيقة أمره بالسخف.
فنقول لأبي ماضي: إنّ سقي ورد الأمل بالدموع الهاطلة في معرض الرجاء ليس شعراً سامياً جميلاً، بل نظم سخيف لا نرى فيه الإشراق الذي يراه أبو ماضي، لأننا لا نضع على أعيننا الزجاجة الملونة بوهج الذهب التي يضعها على عينيه. وكذلك لا نرى إشراقاً في شد حبل الرجاء الوطني بصخور صنين، وهو النتيجة التي تصل إليها القصيدة التي تكوّن الأبيات مقطعها الأول.
وقد أعلن هاني بعل نفسه أكثر من مرة في سلسلة أبحاثه أنه لا يقصد تحليل كل جزء من أجزاء منظومات الخوري تحليلاً كاملاً. فهو قد اجتزأ في بعض المواقف، أو في الكثير منها، على جلَّ ما يمكن أن يقال وأحياناً على بعضه، تاركاً استخراج الباقي للقارىء السليم الفهم. وهذا الباقي ليس من الضرورة بهذا المقدار، والدليل أنّ اجتهاد أبي ماضي في تأويل الأبيات التي اتخذها مثلاً لنقد هاني بعل على وجه محتمل، موجود ضمناً في تحليل هاني بعل الذي يقول أيضاً، وهو ما لم يذكره أبو ماضي، «ولماذا يجب أن يزدري الناظم خصب البرازيل وغزارة أمازونها؟» وهو قريب جداً أو مرادف لمعنى «عدم المبالاة بإمحال البرازيل» الذي تشبث به محرر «السمير» هذا التشبث الكلي ظاناً أنه قد اكتشف شيئاً جديداً يستطيع به أن يذرّ الرماد في العيون فتعمى عن النقد الجليل الذي أبرزه هاني بعل. ووردتنا رسائل من أدباء لهم وزنهم تعدّه تحفة أدبية أوضحت حقائق كانت خافية على الكثيرين. فهذا الاجتهاد لم يظهر نظرة جديدة كاملة تغيّر جوهر النقد.
لم يُطِل هاني بعل التحليل لما لم يعتقد أنّ هنالك لزوماً لتحليله بكل دقة، نظراً لقلة أهميته بالنسبة إلى البحث. فهو قد مرَّ بالكثير من منظومات «القروي» مراً سريعاً، مكتفياً هنا بإشارة أو اثنتين وهناك ببعض ملاحظات. وكل مدرك غير متغرض ولا متحامل، يرى أنّ المثل لكمال النقد في منظومات الخوري هو نقد قصيدة «تحية الأندلس». هذا هو النقد الذي يصح أن يقاس غيره عليه، لا أن يقاس هو على غيره الوجيز، كما أراد أبو ماضي ليحوّل الأنظار عن النقاط الأكثر خطورة وليستر فضيحة زميله الخوري.
نحن من سورية وليس لنا غير وطن واحد هو سورية. هي وطننا الذي به نحيا ومن أجله نموت. وإننا نعلن أننا لا نقبل وطناً آخر مهما كان ذهبياً أو عاجياً أو فضياً. إنّ الذهب عندنا لا يمكنه إنارة أبيات مظلمة. ليس السوريون القوميون هم الذين يستعيرون وهج الذهب (المادة) ليجعلوا «مشرقاً» ما لا إشراق فيه من المنظومات! ليسوا هم الذين يقيسون نقداً أدبياً عظيماً تناول آفاقاً بعيدة من الإدراك سامي والشعور العميق والفهم الواسع بسطر أو سطرين منه لا تتجاوز كلماته بضعة مليمترات مكعبة اختيرت عمداً لغاية مستورة وكيل إلى جانبها أردب من وهج الذهب في محاولة عقيمة للطمس على حلومنا حتى لا تعود تميّز بين الرجاء الحجري والرجاء الذهبي!
بقي أن نقول كلمة أخيراً نطلب من محرر «السمير» أن يقيسها بالسنتيمتر المربع أو المكعب، لأنها ليست أريج وردة ولا وهج ذهب أو ضوء قمر. وهي:
نسأل أبا ماضي أو صاحب المقالة التي كتبها على مسؤولية أبي ماضي ماذا يقصد بقوله: إنّ الملقب بالقروي «له فضل عميم على القائمين بهذه الفكرة (أي فكرة الحزب السوري القومي)».
نطلب منه أن يوضح ذلك بالحقائق الاستقرائية التاريخية غير المنفلتة من كل حيّز فكري أو مادي، وليس بكلام شعري تفرض فيه الخيالات والأوهام على الحقائق بصورة استبدادية تحقّر المدارك البشرية وتهدم البناء الثقافي الذي عملت الإنسانية عشرات القرون في تشييده. نريد كلاماً له محصّل حقيقي تاريخي أو حقوقي.
أما نعته الحزب السوري القومي «بالمتحاملين» فلا نحمله على غير محمل عجز أبي ماضي عن التمييز بين أي هو الذي يقول الحقيقة، وإن يكن أحياناً بعنف يقتضيه الإباء القومي ضد الإهانة، وأي هو المتحامل. وأما ما يفهمه من غاية الحزب السوري القومي من إنشاء الجرائد فلا يتعدى فهمه ما أنشأ له «السمير»، ومما لا شك فيه أنّ السوريين القوميين أنشأوا وينشئون الجرائد لغير الأغراض التي أنشأ لها أبو ماضي «السمير»!
في العدد القادم نثبت الناحية الأخرى من تحامل «السمير» على الحزب السوري القومي، وعلى شخصية زعيمه وحقوقه، ومن تشويه الحقائق التاريخية وعدم الأمانة للحقيقة، وحق الرأي العام.
تحامل محرر «السمير» (2)
»الحرب السرية والمقاومة المدسوسة«
أظهرنا في العدد السابق، بصورة لا تقبل الشك وحجة لا تقبل الدحض، أنّ محرر «السمير» تحامل على «هاني بعل» تحاملاً واضحاً، مقصوداً، بحجة الدفاع عن «شاعر» كنا نعتقد، من غير تمحيص، أنّ أبا ماضي يعلو عن مرتبته ليس فقط في شعره بل في فهمه للشعر. ووعدنا القرّاء بتناول الناحية الأخرى من تحامل جريدة «السمير»، تحاملاً مستوراً على الحزب السوري القومي وشخصية الزعيم. وها نحن نبرّ بوعدنا:
قلنا في المقالة السابقة: «فمن حيث المسائل القومية والسياسية المتعلقة بأمتنا ووطننا ترى «السمير» مائعة كل الميعان» وهذه حقيقة تنبهت لها بعض الأوساط القومية وشاءت أن تعالجها قبل التثبت من اتخاذ «السمير» خطة التحامل على الحزب السوري القومي والمقاومة لحركته، مقاومة مدسوسة أحياناً في معرض التأييد له أو الدفاع عنه. ويذكر القرّاء أنّ مدير هذه الجريدة «الزوبعة» كتب بعض مقالات فيها وفي «سورية الجديدة» التي تصدر في سان باولو، البرازيل، يعالج فيها بعض نواحي الميعان وضعف التفكير القومي والسياسي لأبي ماضي. وهذه المقالات كتبت بروح الرغبة في تنبيه أبي ماضي بطريقة لطيفة إلى أغلاطه الفكرية والروحية ليتجنبها وليهتم بالتعمق في درس القضايا التي يعرض لها أحياناً في «يومياته». ولكن أول محاولة لإصلاح نهج «السمير» المشوش صدرت منذ نحو سنة من أحد كبار مفكري الحركة السورية القومية وعلمائها الموجود حالاً في الولايات المتحدة. وقد نشرت هذه المحاولة جريد «النسر» النيويوركية في عددها الصادر في 19 أغسطس/آب 1940، لأن جريدة «السمير» رفضت نشرها. وقد نقلتها جريدة «سورية الجديدة» إلى عددها 82 الصادر في 7 سبتمبر/أيلول من السنة عينها. وإليك الخبر:
في عدد «السمير» الصادر في أول أغسطس/آب 1940 صدر مقال رئيسي في «يوميات» أبي ماضي بعنوان «فترة الارتقاب والانتظار» صوّر فيها محرر «السمير» الشعب السوري بلا فكرة يسعى لإدراكها ولا هدف يجاهد لبلوغه. وهذه هي خاتمة المقال المشتملة على هذه النظرة المخالفة للحقيقة المتخذة صفة طعنة حادة موجهة إلى المجاهدين السوريين القوميين الذين جاهدوا طوال سنين ولا يزالون يجاهدون بأنفسهم وأموالهم جهاداً له فكرة واضحة وهدف صريح، جهاداً تكاتفت فيه ألوف من السوريين من جميع المذاهب وجميع الطبقات وشهد به الأعداء والأصدقاء من الوطنيين والأجانب. وهذا كلام «السمير» المتعلق بسورية: «الأمم كلها تنتظر ما يكون (من وراء الحرب بين ألمانية وبريطانية)، لأن سعادتها وشقاءها متوقفان على نتيجة المعركة القادمة. وإذا لم تقع المعركة وتمَّ الصلح، فعلى الصلح الذي ستكتب شروطه يتوقف مصير الأمم كلها. كبراها وصغراها. الحرة منها والمستعبدة.
«إنما الأمم التي تنتظر الخاتمة تستعد وتتأهب لها سواء جاءت عند رضاها أم جاءت على غير ما تحب.
«أما نحن فإننا لم نفعل شيئاً بعد ولم تهيّىء لأي أمر عُدّته.
«ليس لنا فكرة نسعى لإدراكها.
«ليس لنا هدف نجاهد لبلوغه.
«ليس عندنا هيئة تمثلنا أو تعبّر عن رغباتنا، بل كلّ ما هنالك آراء وأحلام تلمع هنا وهناك، ثم تختفي هنا وهناك، فلا يشعر بها أحد حتى نحن.
«ألسنا أمة كباقي الأمم؟
«بلى، ولكن أين أهدافنا التي نسعى إليها؟».
هذا هو القسم من مقال محرر «السمير» المذكور آنفاً. وفيه ما تنتفض له عظام شهداء الحركة السورية القومية الذين سقطوا في فلسطين ويغلي له دم عشرات الألوف، بل مئات الألوف من السوريين القوميين الذين اضطهدوا وتألموا في سبيل الفكرة التي يسعون إليها والهدف الذي يجاهدون لبلوغه، وتألم ويتألم اليوم عشرات من كبار مجاهديهم في السجون من أجل الأهداف الصحيحة التي يضع محرر «السمير» يديه على عينيه ويطبقهما حين ينظر إليها ثم يقول: «ليس لنا فكرة نسعى لإدراكها، وليس لنا هدف نجاهد لبلوغه».
صحيح أنه ليس لجريدة «السمير» فكرة قومية تسعى لإدراكها ولا هدف قومي تجاهد لبلوغه. ولكن ميعان جريدة «السمير» نفسها يجب ألا يكون حجة لها لطعن شعب كله في كرامته، ورجال ونساء حركة شهد الأعداء قبل الأصدقاء أنّ لها فكرة واضحة تسعى لإدراكها وهدفاً تجاهد لبلوغه. وصحيح أيضاً أنّ شركات سياسية كثيرة نشأت لتحريض الشعب على الجهاد تحت تأثير نظرات اعتباطية ولأسباب معظمها ديني لا قومي. ولكن عند السياسيين ليس أو يجب أن لا يكون «كله صابون».
ماذا يعني محرر «السمير» بقوله إنه ليس لنا فكرة وليس لنا هدف؟ هل يعني أنّ الحركة القائمة بفكرة وهدف لما تنتصر وتتسلم الحكم؟ أم يعني أنّ الفكرة القومية لما تصبح دين الأكثرية أو المجموع؟ أو ماذا يعني؟
فإذا كان يعني أنّ الحركة السورية القومية لما تتسلم زمام الحكم، فما أبعد أبا ماضي عن فهم طبيعة الفكرة وطبيعة الجهاد في سبيلها. وعلى هذا القياس «السميري» لا تكون الفكرة الاشتراكية القومية في ألمانية فكرة إلا بعد تسلّم هتلر الحكم، وقبل هذا التاريخ لم يكن في ألمانية فكرة. وعلى هذا القياس لم تكن الفكرة الشيوعية في روسية فكرة إلا بعد أن تسلّم البلشفيون الحكم.
وإذا كان يعني عدد معتنقي الفكرة فيجب أن يعلم محرر «السمير» أنّ العدد لا قيمة له إلا قيمة نسبية. فالشيوعيون تسلّموا الحكم في روسية وهم لا يزيدون أو لا يبلغون خمسة بالمئة من مجموع الشعب الروسي.
والنازيون في ألمانية تسلّموا الحكم وهم أقلية فيها، وأقل أحزابها الكبيرة عدداً.
وإذا كانت الفكرة السورية القومية لم تنتشر بالسرعة التي يتمناها القوميون فهل رجعت جريدة «السمير» إلى ضميرها وفحصته بنزاهة؟ فإنها إن فعلت فهي لا شك تكتشف أنها تساهم بنصيبها في تسميم الرأي العام السوري بنفي وجود فكرة يسعى لإدراكها ألوف منه بينهم عدد كبير من زهرة شباب سورية، وبتشويه الحقائق المتعلقة بهذه الفكرة حتى تظهر عديمة الجاذبية ومشوشة الشكل، وبدسّ كلمات توحي الشك في «طرائق» الحزب من غير تعيين هذه «الطرائق» المشار إليها ليتسع نطاق الشك والبلبلة.
وإذا كانت «طرائق» الحزب السوري القومي لا تعجبها، فما قولها بمبادئه وغايته التي تنكر وجودها في الشعب السوري؟ أتحاربون الفكرة وتنكرون وجودها، وتحاربون الهيئة التمثيلية بغير مستند صحيح ثم تقولون «ليس عندنا هيئة تمثّلنا أو تعبّر عن رغباتنا»، أتقتلون روح الشعب وتعيرونه؟!
إنّ هذه الطعنة الجاهلة التي توجهها «السمير» إلى ألوف المجاهدين في سبيل وحدة وطنهم وقوميتهم ومتحدهم الاجتماعي وفي سبيل إقامة نظام يكفل العدل الاجتماعي ــــ الاقتصادي في الشعب السوري لم تقابل في حينها بحملة قوية تردّها في صدر طاعنها، لأن القوميين كانوا يلتمسون الأعذار لمحرر «السمير»، فبعضهم كان يقول إنّ أبا ماضي شاعر وليس مفكراً قومياً اجتماعياً ــــ سيآسية، وآخرون كانوا يجدون أعذاراً أخرى. ولكن مع كل هذه الأعذار فقد وجد المفكر السوري القومي المشار إليه أنه يجب تنبيه «السمير» ولفت نظر الرأي العام إلى هذا الخبط على غير هدى الذي يغمط ألوف القوميين حقوقهم ويجازيهم شر جزاء على جهادهم القومي المخلص، فكتب مقالاً ردّ به على ادعاء محرر «السمير» أنه لا فكرة ولا هدف عندنا نجاهد لتحقيقهما. وعملاً بالقاعدة المثلى في هذا الصدد أرسل مقاله إلى جريدة «السمير» عينها وقد تجنب فيه ما أمكن التعرض لروحية «السمير» المائعة المهدمة. ولكن «السمير» التي أجازت لنفسها إعطاء دروس، في بعض المناسبات، في الواجبات الصحافية لم ترَ من واجبها إطلاع الرأي العام على تفكير مفكر قومي يعبّر عن موقف ألوف من الذين يعنيهم مقالها فرفضت نشر المقال، فاضطر صاحبه إلى الالتجاء إلى جريدة أخرى لنشره فنشرته «النسر» على ما وردت الإشارة إليه.
خالفت «السمير» برفضها المذكور دروساً ظنت أنها هي وحدها تعرفها وتلقيها على الناس، ولذلك أجازت لنفسها خرقها. ففي عددها الصادر في 24 سبتمبر/أيلول 1940، أي بعد رفضها نشر المقال القومي بنحو شهر تقريباً، نشر محررها رئيسية في «يومياته» بعنوان «ذلك المنشور» استهلها بهذه العبارة: «من الأصول المرعية في الصحافة الأميركية إذا ظهر في الجريدة مقال بقلمها أو بقلم سواها فإن الرد على ذلك المقال ينشر فيها لا في جريدة أخرى»، ثم يقول: «فإن كل جريدة تفتح أعمدتها للجدل المفيد والمناظرة الرائعة القائمة على روح الإنصاف».
وليس في مقال المفكر القومي غير درس رائع قائم على روح الإنصاف. ولكنه ينقض ادعاءات محرر «السمير» أنه لا فكرة ولا هدف لنا، ويعطي البراهين التاريخية والفكرية على ذلك. وهو مع ذلك لم يتعرض لطعنة «السمير» ولموقفها الخاص لا بكثير ولا بقليل. ومع ذلك فإن جريدة «السمير» الكلية المعرفة لم تجد أنّ نشره من الواجبات الصحافية والأصول المرعية! فاضطر العالِم صاحب المقال لإرسال مقاله إلى جريدة أخرى.
أمّا مقال المدعو عبد الله برّي المخالف لجميع الأصول المرعية في الصحافة لاستخدامه مقالاً نشر على مسؤولية إدارة هذه الجريدة «الزوبعة» للتهجم على شخصية موجد القضية السورية القومية ومولّد حركتها ولنسبته إلى مبادىء الحزب السوري القومي أموراً ليست موجودة فيها، فإن محرر «السمير» وجد فيه جميع شروط «الأصول المرعية» للنشر! والظاهر أنّ الأصول المرعية عند «السمير» هي أن يكون شتاء وصيف على سطح واحد!
ماذا في مقال المفكر القومي مما يسوء محرر «السمير» أو أصحاب محرر «السمير» رؤيته؟ هو قول الحقيقة في شخصية زعيم الحركة السورية القومية. فإن محاربة شخصية موجد النهضة السورية القومية قد أصبحت ديدن جميع الرجعيين والفوضويين والنفعيين.
هذا هو السبب في ارتكاب «السمير» جريمة سبقت هذه الجريمة بأيام معدودة وإليك البيان:
نشرت «السمير» في عددها الصادر في 24 يوليو/تموز 1940، تحت باب «صورة قلمية» مقالاً للمفكر القومي عينه، الذي رفضت بعد ذلك بأيام نشر ردّه على سفسطتها، بعنوان «الديموقراطية الجديدة». وقد تناول المقال نظريات جديدة للزعيم في العلم السياسي ــــ الاجتماعي أعلنها في بعض محاضراته في الأرجنتين. وصاحب المقال، الذي هو ذو مقام علمي وليس من الذين ينتحلون أفكار غيرهم لأنفسهم أثبت نسبة أفكار سعاده إليه في المقال، ولكن محرر «السمير» حذف اسم أنطون سعاده من كل مكان ورد فيه منسوباً إليه رأي أو مذهب أو نظرية في موضوع الديموقراطية. فأرسل صاحب المقال كتاباً إلى مدير هذه الجريدة «الزوبعة» يشكو فيه بمرارة من هذا الإجحاف بشخصية زعيمه وشخصيته هو، إذ إنّ محرر «السمير» جعله في مصاف عدد كبير من الأدباء اللاقوميين العائشين على أفكار غيرهم. فقد غمط أبو ماضي حق الزعيم في أفكار هي له، وشوّه الحقيقة التاريخية، وأسقط حق الرأي العام في الاطلاع على أسماء المفكرين ليعرف أفكارهم، وخرق حرمة الأمانة الصحافية في وجوب نشر الحقائق من غير تحوير أو تشويه.
بعد أن يأتي محرر «السمير» هذه النقائص الفاضحة يعود فيظهر أمام الرأي العام في مقالته «ذلك المنشور» المشار إليها آنفاً بمظهر الصحافي النزيه المنصف، فقال عن المنشور الذي تمنّع عن نشره، وعليه مدار مقالته، هذه العبارة «أما نحن فلم نسوِّغ لأنفسنا حذف شيء منه» أي إنه نزيه لا يفعل كما فعلت الجرائد الأخرى التي تصرفت بالمنشور «وشطبت على القسم الأكبر منه».
فإذا كان محرر «السمير» يعلم أنّ التصرف والتلاعب بكتابات الأدباء والعلماء ومن جرى مجراهم ليسا من «الأصول المرعية» عند الصحافيين الذين يحترمون أنفسهم، فلماذا سوَّغ لنفسه «الشطب على» اسم أنطون سعاده حيثما ورد في مقال عالِمٍ يردّ الأمور إلى أصولها والنظريات إلى أصحابها، حتى أظهرت «السمير» ذلك العالِم بمظهر من يعدو على أفكار غيره وينتحلها؟ هل يجب أن نذكّر أبا ماضي بقول القائل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عارٍ عليك إذا فعلت عظيم
أبهذا الانحطاط المناقبي وهذه الأساليب الخالية من الشهامة ومن الأمانة للحق العام وواجب المهنة تريدون، يا أدباء العهد اللاقومي، أن تحاربوا اسم سعاده وشخصه وأفكاره ونظرياته، والحزب السوري القومي ومبادئه وخططه؟ إذن فأبشروا بخزي يسجله لكم تاريخ الأدب والصحافة وتاريخ نهضة سورية القومية!
ليس ما تقدم كل ما تحاسب عليه جريدة «السمير» فهنالك مقال ظاهره انتصار للمجاهدين السوريين القوميين ضد أحكام المحكمة الفرنسية العسكرية عليهم، وفي باطنه حربة حادة غض الأمين فخري معلوف نظره عنها حين كتب إلى محرر «السمير» يثني عليه من أجل مقاله المذكور الذي عنوانه «صار الدخيل رب الحمى» وهو منشور في «يوميات «السمير» في العدد الصادر في 9 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
المقال تعليق على خبر نشرته جريدة «الدايلي نيوز» النيويوركية بشأن الحكم غيابياً على الأمين فخري معلوف بخمس عشرة سنة سجن وعشرة نفي غير مخصص. وبعد أن قال المحرر أنه لا ذنب للذين حكمت عليهم المحكمة العسكرية «تلك الأحكام الغاشمة إلا أنهم يحنّون إلى الحياة الحرة في بلادهم ويعملون لبلوغ هذه الأمنية بالوسائل السلمية، الخ»، عاد فاستدرك في ختام مقاله قائلاً: «وليس في وسعنا، وإنْ اختلفنا مع الحزب السوري القومي في طرائقه، أن نسكت عن اضطهاد كهذا، الخ».
أمّا قوله عن رجال الحزب السوري القومي ونسائه أنهم «يحنّون إلى الحياة الحرة في بلادهم»، فأضعف وأقل ما يمكن أن يقال فيهم من حيث حقيقة أمرهم وحركتهم. وأما قوله: «وإنْ اختلفنا مع الحزب السوري القومي في طرائقه»، فطعنة مرسلة في المقال، بل هو السم في الدسم.
إننا لم نقرأ لمحرر «السمير» أي مقال يظهر فيه ما هي «طرائق» الحزب السوري القومي التي يقول إنه يختلف مع هذا الحزب فيها. وإرسال مثل هذا القول على هذه الصورة من غير أن يعيّن طريقة واحدة أو شاهداً واحداً ليس سوى مقاومة جبانة متخفية وتحامل فاضح.
ما هي «طرائق» الحزب السوري القومية الأكيدة، الصحيحة التي يعرفها أبو ماضي «ويختلف مع الحزب فيها»؟ أهي الصراحة في القول حين يلجأ محرر «السمير» إلى المواربة؟ أهي إعطاء كل ذي حق حقه بينما يعمد محرر «السمير» إلى تشويه الحقائق التاريخية؟ أهي الغضبة للكرامة القومية التي يهينها ناظم في موقف شبه رسمي بينما يتحفز محرر «السمير» للتحامل على من ينتصر للكرامة القومية وللانتصار لمن أقدم على إهانة علم الأمة التي ينتسب إليها وإهانة شرف الشعب الذي هو منه وإباءه؟ أهي أهداف الحزب السوري القومي الجلية وطرائقه المستقيمة التي تختلف عن طرائق أعدائه والذين ينتفعون من أعدائه الملتوية؟
إنّ هنالك طرائق يختلف فيها الحزب السوري القومي ومؤسساته مع محرر «السمير» ومن نهج نهجه من أدباء العهد الآخذ في الزوال وصحافييه. نحن نقول لأبي ماضي إنه إذا أرسل مقالاً لأية صحيفة قومية محافظة على طرائق الحزب السوري القومي فمدير تلك الجريدة أو محررها لا يغيّر شيئاً من الحقائق أو الأقوال والنظريات الواردة فيه إلا بعد استشارته.
ونقول له إنه إذا كانت جريدته اليومية لا يبقى فيها متسع، بعد وصف الأعراس وحفلات الطعام والشراب العائلية والقداديس والجنازات وعواطف الأنصار وآراء القرّاء في أثمن ساعاتهم وتدشين الكنائس وحفلات العمادة وغير ذلك من المواضيع الهامة، لنشر رأيه في «طرائق الحزب السوري القومي» التي «يختلف معه» فيها فكل جريدة قومية لا ترفض نشر أي مقال له بهذا الصدد مقصود من البحث على ضوء الحقيقة ومعالجة الأسباب والنتائج وليس التحامل أو التغرض أو المماحكة أو إرسال المطاعن الخفية في جو من الغموض والإبهام الذي هو دليل سوء نية. ولكننا ننصح أبا ماضي أن يهتم بإصلاح طرائق جريدته قبل الاهتمام بإصلاح طرائق الحزب السوري القومي. فإن ذلك يكون أفْيد للمجتمع الذي يدّعي خدمته.
إنّ الحزب السوري القومي كان يشتري بماله كراريس الخوراسقف لويس خليل اليسوعي الذي عنوانه «مؤامرة على الدين والوطن الحزب السوري القومي» ويوزعه على القوميين وغير القوميين، لأن الحزب السوري القومي واثق من نفسه وعقيدته ولا يخشى مهاجمة كاتب أيّاً كانت صفته وكائنة ما كانت منزلته!
«أيها المراؤون، انزعوا أولاً الأخشاب التي في عيونكم وحينئذٍ يتسنى لكم أن تبصروا القذى الذي في عين أخيكم!» [متى 5:7].
قد يقول محرر «السمير» إنه خدم الحزب السوري القومي بنشر معلومات، وأحياناً مقالات عنه في حين أنّ جرائد أخرى كتبت ونشرت ضده أو سكتت عنه. ونحن نقول في هذا الصدد إنّ «السمير» لم تخدم سوى نفسها ولم تقم بغير القليل من واجبها نحو قرائها وإنها، وهي تخدم نفسها شوّهت الحقائق المتعلقة بالحزب السوري القومي وزعيم الحركة السورية القومية. فهي كانت ضد الحزب القومي في ما نشرته أو اختارت نشره عنه، في السنتين الأخيرتين على الأقل.
إنّ الحزب السوري القومي يفضّل أن يرى «السمير» مقاومة بصراحة في سبيل عقيدة عندها على أن يراها محاربة في السر ومقاومة بالدسّ، من أجل المحافظة على بعض المنافع التي تربطها بأوساط سورية رجعية في الولايات المتحدة.
إننا نحترم عقائدنا ونحترم غيرنا إذا كان ذا عقيدة وإن تكن مخالفة لعقيدتنا بشرط أن لا يلجأ إلى الوسائل غير الشريفة في محاربته لنا.
بلغنا هذه النتيجة على الرغم من العواطف التي كنا نحفظها لمحرر «السمير» من أجل فنّه الشعري والألم يحزّ نفسنا، لأننا كنا نتوقع أن نرى أبا ماضي فوق هذه الطبقة الفاقدة أسس المناقب الصحيحة من الصحافيين والناظمين من رجال العهد اللاقومي. كنا نودّ أن نرى أبا ماضي في تفكيره فوق تفكير رشيد الخوري وزكي قنصل. ومن أجل ذلك صبرنا على جرحه شعور الألوف منا إلى هذا الحد. وقد وجدنا في ما أثبتناه آنفاً كفاية لإيضاح موقف «السمير» فضربنا صفحاً عن مآخذ أخرى كثيرة.
إننا من أجل منزلة أبي ماضي نفسه نفضّل أن نراه عدواً شريفاً، على أن نراه في عداد المتذبذبين، إننا نضنّ به أن يكون في هذا الدرْك!