الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 26، 15/8/1941
قلت في مقالي السابق إني سأعود إلى معالجة موضوع استقلال سورية على ضوء الحوادث والتصريحات الأخيرة وفي ما يلي برّ الوعد.
ما كاد يذاع أنّ مركز قيادة «الفرنسيين الأحرار» والحكومة البريطانية قد وعدا الشاميين واللبنانيين بالاستقلال، حتى اندفع المأجورون السوريون للإذاعة الموالية لمصدر هذا الوعد وبعض المتهوسين بالتبشير بالنعمة العظيمة الممنوحة لسورية على يد أصحابه. أما المأجورون لمصدر الوعد المقابل والمصابون بهوس خصوصي وبعض الواغلين على السياسة فقامت قيامتهم على الوعد المذكور. والدهاقنة منهم أظهروا رسوخهم في العلم بتكرار عبارات لبعض سياسيــي العهد الماضي الذين حملوا على بريطانية وفرنسة لنكثهما وعودهما باستقلال سورية. فالدهاقنة الواغلون المشار إليهم لم يجدوا أفضل من إعادة هذه النغمة ودعوة الناس إلى عدم الوثوق بالوعد وأصحابه. وأقلّ ما يقال في مثل هذا الهذر الصحافي إنه من أقوى أسباب بلبلة الشعب حتى تختلط عليه الآراء والمذاهب ويظل عرضة للتخبّط والفوضى. وإذا كان هنالك شعوب كثيرة معظم بلاياها من أدبائها وصحافييها، فالشعب السوري في مقدمتها وصاحب القدح المعلى بينها.
إنّ أول ما يجب جعله قاعدة التفكير الصحيح في قضية خطيرة كقضية استقلال أمة من الأمم أنّ هذه القضية لا تتأسس على وعود صادقة أو وعود كاذبة من قبل دولة أو دول أخرى. إنها قضية إرادة الأمة، وهذه الإرادة هي أساسها وشرطها الذي لا وجود لها بدونه.
والذي يجب على كل سوري أن يفهمه هو أنّ فهم القضية السورية بهذا التفكير الناضج العميق غير موجود إلا في الحزب السوري القومي. فهو الحزب الوحيد الذي اهتم بوضع قواعد التفكير القومي الصحيح والذي أسس العقيدة السورية القومية الموجدة هذه القوة الدافعة التي عبّر عنها الزعيم في خطابه التاريخي الذي ألقاه في اجتماع الحزب السوري القومي العام، في أول يونيو/حزيران 1935، بقوله:
«إنّ الغرض الذي أنشىء له هذا الحزب غرض أسمى هو جعل الأمة السورية صاحبة السيادة على نفسها ووطنها... إنّ إرادتنا نحن هي التي تقرر كل شيء، فنحن نقف على أرجلنا وندافع عن حقنا في الحياة بقوّتنا. ومن الآن فصاعداً تدير إرادتنا نحن دفة الأمور».
إنّ توليد إرادة الأمة بتكوين عقيدتها القومية كانت الخطوة الفاصلة التي قاد سعاده الشعب السوري إليها. ومنذ تلك الساعة التاريخية أصبح يصح القول إنه قد صار لسورية قضية قومية حقيقية، لها عقيدة واضحة وغاية عامة وطريق مستقيمة.
من هذا الحادث الخطير ــــ حادث ظهور الحزب السوري القومي وإعلان مبادىء سعاده، تولدت فكرة السيادة القومية على أساس عقيدة قومية صحيحة. وعلى هذه الفكرة تستقر قضية سيادة سورية واستقلالها عند السوريين القوميين والموالين، وعند أحزاب سوريّة أخرى تعمل اليوم بالمبادىء السورية القومية تحت أشكال مختلفة، عملاً بأنانية أصحابها. وعلى هذه الفكرة وحدها يجب أن تستقر قضية سيادة سورية واستقلالها عند الشعب السوري كله، لأنها الفكرة الوحيدة الشعبية، التي نشأت من صميم الشعب السوري وجمعت المصالح الداخلية والخارجية للشعب السوري.
إنّ قضية سيادة سورية واستقلالها هي قضية العقيدة السورية القومية، وليست ولن تكون مطلقاً قضية تقررها لسورية هذه الإرادة الأجنبية أو تلك الإرادة الأجنبية بإعلان أو تصريح أو بوعد أو بأي مظهر من المظاهر السياسية.
إنّ الشعب الذي يقبل أن تقرر له هذه الدولة أو تلك الدولة استقلاله وسيادته، هو الشعب الذي يُعدم استقلاله ويُبطل سيادته بقبوله تقرير مصيره من قبل أية دولة أجنبية. فقبول الاستقلال الذي تقرره دولة أجنبية، هو اعتراف صريح بأن مصدر سيادة الأمة في خارجها، وهو إبطال لمبدأ السيادة الحقيقي.
السيادة القومية والاستقلال تقررهما الأمة وتعلنهما بلسان زعيم نهضتها، إذا كانت لها نهضة ولها زعيم، وتعترف بهما الدول الأجنبية اعترافاً ولا تقررهما تقريراً يُملى على الأمة، كما قررت فرنسة إعلان «استقلال لبنان»، وإعلان «تكبير لبنان»، و«استقلال العلويين»، و«استقلال جبل الدروز». فلم يكن استقلال إحدى هذه المناطق السورية إلا استقلالاً سخريّاً.
أما مسألة الوعود السياسية، سواء أكانت هذه الوعود لمنح الاستقلال أو للاعتراف به، فهي مسألة لها وجوه تكنيكية من حقوقية وقانونية. وهذه الوجوه مجهولة عند الصحافيين اللاقوميين والكتّاب السياسيين من العقلية البائدة. ولذلك هم يتكلمون عن «وعود صادقة، ووعود كاذبة، ووفاء العهد، ونكث الوعد»، إلى آخر هذا الموال الشيطاني الذي لا يزيد الناس إلا بلبلة على بلبلة.
إنّ القاعدة الثانية للتفكير القومي الصحيح التي يمكن أن تبنى عليها أية مسؤولية هي: أنّه لا يوجد في السياسة وعود صادقة ووعود كاذبة، إلا إذا كانت الوعود عهوداً مقطوعة بصورة شرعية لهيئة واحدة شرعية من هيئة شرعية، أي بشكل معاهدة كاملة الشروط والتفاصيل مبرمة بين منظمة ومنظمة أو بين عدد من المنظمات. أما التصريحات السياسية التي تعلن وعوداً لشعب أو لشعوب فلا يمكن اعتبارها بمنزلة المعاهدات والتعويل عليها بهذه الصفة الحقوقية.
بناءً عليه لا يمكن القول إنّ هذه الوعود، التي أعطيت بتصريحات خالية من شروط التعاقد، هي مخلصة أو غير مخلصة. فأحياناً تكون هذه الوعود معبّرة عن نية مخلصة ولا يقدر الشعب الموعود على الاستفادة منها، بسبب أنه قد يكون شعباً خالياً من منظمة قومية لها المؤهلات والكفاءات للاضطلاع بالأعباء السياسية والإدارية وفاقاً لمتطلبات القضية القومية، أو قد يكون شعباً خالياً من العقيدة القومية الصحيحة والمنظمة كلتيهما، أو قد يكون شعباً نشأت فيه منظمة حائزة الشروط المذكورة، قائمة على أساس عقيدة قومية صحيحة، ولكن عناصر الرجعة الكثيرة لا تزال تقاوم التفاف الشعب حولها وتعرقل قيامها بالأعمال السياسية اللازمة للاستفادة من الظروف. فالشعب الذي هذا شأنه لا يقدر أن يستفيد من الوعود المعطاة. وليست مطالبة صحافييه المتنابذين فيما بينهم، العاملين بعقلية عنيقة متهرئة سوى صياح قبيح سداه الجهل ولحمته العجز. إنها مطالبة بشيء لا يستحقه المطالبون فلا يجوز اعتبارها دعوى قضية يجب النظر فيها.
إنّ الذين يقتلون قضية أمتهم بأنانياتهم وسخافاتهم لا يجوز لهم التكلم باسم الأمة، أو القضية التي يظنّ كل واحد منهم أنها ملكه الخصوصي يعبّر عنه ويتصرف به كما يشاء وبمطلق مشيئته من غير تفويض ولا مسؤولية ولا محاسبة تجاه هيئة مسؤولة وسائلة. هم الذين جعلونا هزوءاً بين الأمم الحية وجعلوا قضيتنا القومية أُلهية لهم يتلهون بها وبعد ذلك يقولون «لم تصدق معنا هذه الدولة أو تلك الدولة»، وهم ليس لهم من الأمر شيء. فهم يلومون الأمم الأخرى على شيء كانوا هم سبب بطلانه.
إنّ التصريحات والوعود بالمساعدة على الاستقلال وبتحقيق الاستقلال الصادرة من جانب دولتي المحور الكلي، ومن جانب بريطانية «والفرنسيين الأحرار»، هي وعود عديمة القيمة الحقوقية والشرعية، ولكنها ليست خالية من القيمة المعنوية التي يمكن تحويلها لمصلحة سورية من قبل المنظمة السورية القومية، التي هي المنظمة السورية الوحيدة التي لها العقيدة القومية الصحيحة والأهلية المناقبية والكفاءة التكنيكية للدخول في المخابرات والمفاوضات السياسية وتحصيل الضمانات الحقوقية والشرعية الإنترناسيونية للسيادة والاستقلال القوميين.
بدون تدخل المنظمة السورية القومية لا يمكن تحصيل أية فائدة قومية ثابتة لسورية، كما علّمنا الاختبار، حتى ولو كان الذين يعدون الشعب السوري بالاستقلال يريدون ذلك من كل قلبهم. فإن الذين وعدوا ليس عليهم إلا تنفيذ الوعد بإقرار الشروط الاستقلالية التي يصير عليها الاتفاق. وهنا سر المسألة. فرجال التفكير العتيق في سورية لا يصلحون للمفاوضات التكنيكية، وليست لهم العقيدة القومية الصحيحة التي يمكن التعويل عليها. ونتيجة المفاوضات السياسية السابقة التي أجرتها «الكتلة الوطنية» في الشام، ورجال المجلس النيابي في لبنان كانت خسارة الحقوق الأساسية المقصود من المفاوضات ربحها.
إنّ الدخول في السياسة الإنترناسيونية ليس له غير طريق واحدة هي: تنظيم القضية القومية داخلياً، ووضعها على قواعد عقائدية متينة، وإيجاد منظمة تقوم بأعباء العقيدة والقضية. وهذا هو الشيء الذي أوجده سعاده بإيجاد الحزب السوري القومي.
أما الذين لم ينظموا شيئاً في داخلية الشعب السوري، بل قالوا بإبقاء القديم على قدمه بما فيه من عقائد فاسدة وإجحاف اجتماعي ــــ اقتصادي، ثم انتهزوا فرصة إعطاء بعض الدول تصريحات ووعود تتعلق بسورية، ولكن غرضها الأساسي هو مصلحة تلك الدول، ليستغلوا هذه التصريحات ويضربوا على أوتار نعرات قديمة، فهؤلاء الممخرقون لا رجاء للأمة بهم. إنهم يريدون تضليل الشعب السوري الذي ضلّلوه هم والذين تقدموهم من قبل.
إنّ الحزب السوري القومي هو المنظمة الوحيدة التي اهتمت بتوليد القوة القومية وجعلها المستند الأول والأساسي للسيادة القومية. هذا هو العمل القومي الصحيح. وإذا لم يعتمد الشعب على هذه المنظمة فسيجد نفسه غداً حيث كان بالأمس.
أمّا الدول التي تفضّل التعامل مع أبناء الرجعة الدينية والإقطاعية والنفعيين من الشعب السوري، الذين ليس لهم نظام دستوري ولا عقيدة قومية صحيحة، فنبشرها بانخذال سياستها في الشوط البعيد، لأن الشعب السوري سيكون في الأخير مع الحركة المنبثقة من صميمه، العاملة بإخلاص كلي لقضية حياته الجيدة وارتقائه ــــ مع الحركة السورية القومية.
وسيلقى الذين يستغلون أمِّية قسم كبير من الشعب وضعف ثقافته الجزاء الذي يستحقونه.
والذين يريدون أن يؤسسوا لأنفسهم أحزاباً بقوة تصريحات بعض الدول الأجنبية ونفوذها أو بموالاتهم لها سينالون الاحتقار الذين هم أهل له.
إنّ أعوان سعاده، الذين سجنتهم فرنسة، قد عادوا إلى ساحة الجهاد، وسيكون لهذا الحادث شأنه الخطير في موقف الأمة السورية وحالتها السياسية.
هاني بعل