الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 37، 1/2/1942
قد لا يكون بين الجوالي السورية في المهجر الأميركي جالية بلغت من التحجر والعصيان على عوامل التطور الاجتماعي ــــ القومي ما بلغته الجالية السورية في الأرجنتين. وهذه الحقيقة الفعلية المؤسفة كانت دائماً نصب أعيننا في المدة الأخيرة. وكنا نفكر دائماً في معالجة هذه الحالة في سلسلة مقالات دراسية معالجة عامة تتناول الأمراض والأعراض والدواء الشافي. ولكن مفاجأة أصحاب مؤامرة «الحي الإسلامي (المحمديي)» جعلتنا نبتسر الموضوع ابتساراً ونعالج جزءاً منه معالجة سريعة منعاً لاستفحال شرّ كاد لا يبقي لهذه الأمة أملاً بالنهوض والوقوف بين الأمم الحيَّة المتجددة.
وإن ننسى لا ننسى حوادث الفتنة الدينية بين سوريــي الأرجنتين في أثناء الحرب العالمية الماضية التي وصلت إلى حد إراقة الدم حتى صار الإسم السوري عنواناً للتوحش ودليلاً على الهمجية. وإننا نعود اليوم إلى هذا الموضوع الخطير لأن المآرب النفعية تريد أن تستغلّ سذاجة العامة من المؤمنين من مختلف الأديان وأن تستخدمها هذه المرة، كما كانت تستخدمها في الماضي، مطية هوجاء رعناء إلى أغراض حقيرة تهدر من أجلها دماء زكية وتموت المحبة الوطنية والرابطة الجنسية والعصبية القومية.
تعيش الجالية السورية في الأرجنتين جماعات متنابذة وطوائف متباينة. معظم مؤسساتها دينية في الظاهر أو في الباطن والاجتماع فيها لا يزال مؤسساً على الدين وحزبيته. وأصحاب المنافع الخصوصية الذين لا يهمّهم دين ولا دنيا إلا ما شاءت أهواؤهم الحقيرة ومآربهم السفلية، لا يزالون ينفخون في أبواق النعرات الدينية الذميمة ويتاجرون بعواطف الأكثرية الجاهلة من كل دين وكل طائفة، ماسخين الوطنية ومزيفين القومية التي ما كادت تنشأ صحيحة في سورية بواسطة النهضة السورية القومية حتى أخذ الدجّالون يستعملون لأغراض لا تمتّ إلى مدلولها بصلة. فجعلوا للمسيحيين قومية غريبة عجيبة سمّوها «القومية اللبنانية» وجعلوا للمحمديين قومية خرافية سمّوها «القومية العربية المحمدية» أو «القومية العربية» مع ستر كلمة المحمدية ما ستر المسيحيون منهم كلمة المسيحية في ما سمّوه «القومية اللبنانية». وكان لنا فيما مضى من حياة هذه الجريدة كلمة صريحة في الجمعية المارونية التي قام بها نفر من مستغلي السياسة الدينية وسمّوها، من باب الشعوذة «الجامعة الوطنية اللبنانية».
قاومت الحركة السورية القومية الرامية إلى توحيد صفوف الأمة السورية جميع السياسات الدينية في الشؤون السورية القومية عملاً بمبدأها الإصلاحي الأول القائل بفصل الدين عن الدولة وتأسيس هذه على حقوق أفراد الأمة وواجباتهم بصرف النظر عن مذاهبهم الدينية التي يجب أن تبقى من شؤون الفرد الخصوصية. فلما وقف البطريرك الماروني سنة 1937 وتكلم مدّعياً تمثيل اللبنانيين وقف زعيم الحزب السوري القومي في وجه هذا الادعاء الباطل وردّ على كلام البطريرك منكراً عليه صلاحية تمثيل الأديان والطوائف غير المارونية وصلاحية تمثيل مجموع الطائفة المارونية نفسها الذي أصبح قسم لا يستهان به منه يدين بعقيدة القومية السورية ومبدأه فصل الدين عن الدولة. وقد أوضح الزعيم أنه ليس للبطريرك صلاحية غير صلاحية التكلم باسم الكنيسة المارونية في الشؤون التي تهمّ الوجهة الدينية البحتة. وكان موقف الحزب السوري القومي من ترحيب البطريرك الماروني باليهود موقفاً صريحاً شديداً وحمل على هذه السياسة الدينية الخرقاء حملة صاعقية كانت لها نتائج كبيرة. وإنّ من مهام هذه الحركة القومية المباركة أن تحارب جميع الحزبيات الدينية التي تلغي الرابطة الوطنية وتمحو العصبية القومية وتفسد الإيمان الديني الحقيقي، لأن مهمتها الكبرى العمل على فلاح الأمة السورية وارتقائها.
لم تستثنِ الحركة السورية القومية، في حملتها على السياسات الدينية المجزئة الأمة، المفككة وحدة الشعب السوري، ملّة ولا طائفة لا مارونية ولا أرثوذكسية ولا بروتستنتية ولا غيرها من طوائف المسلمين المسيحيين، ولا سُنيَّة ولا شيعية ولا علوية ولا غيرها من طوائف المسلمين المحمديين ولا جزءاً أو قسماً من ملّة المسلمين الدروز. وكما وقفت من قبل في وجه الحزبية الدينية المسيحية تقف اليوم في وجه الحزبية الدينية المحمدية غير خاشية في الحق لومة لائم.
إنّ حملتنا على الحزبية الدينية من كل دين ومذهب ليست حملة على الدين نفسه ولا على شيء من الاعتقادات الدينية البحتة التي يجب أن يكون لكل فرد من أفراد الأمة السورية الحق في الذهاب فيها أي مذهب شاء، بل هي حملة لتعزيز الدين وتنزيهه عن الأمور الاجتماعية ــــ السياسية التي يجب أن تبقى خاضعة لمبدأ التطور حسب مقتضيات حاجة الأمة وما يقول به الفكر القومي الرامي إلى خير الأمة بأسرها، أي إلى خير كل فرد وكل عائلة في الأمة.
لا يوقفنا عن المضي في حملتنا القومية المقدسة تأويل مؤوّلين مفسدين ولا تكذيب مكذبين، لأن تأويلهم وكذبهم سينقلبان عليهم من بعد كما انقلبا عليهم من قبل.
ونعود الآن إلى مشروع «الحي المحمدي». ففي موعد صدور عدد الزوبعة الماضي صدر عدد من جريدة الاستقلال لصاحبها السيد أمين أرسلان فيه خبر وعودة على المشروع المذكور الذي أقل ما يقال فيه إنه دعوة إلى الانقسام والانفصال والتقاطع تفوق وقاحتها وقاحة الدعوات الانفصالية في الوطن والمهجر إلى «استقلال» لبنان و«استقلال» العلويين وما شاكل، لأن تلك الدعوات الانفصالية لم تبلغ مبلغ المجاهرة بوجوب انعزال أبناء الوطن الواحد في المهجر عن بقية أبناء وطنهم باسم الدين.
وقد قلنا، في مقال العدد الماضي المخصص لهذا الموضوع، إنّ الدعوة إلى إنشاء «الحي المحمدي» ليست دعوة دينية لغرض ديني. وأوضحنا أنّ غرضها سياسي أولاً وآخراً. فلو انت ذات غرض ديني مختص بالعبادة وفروض التقوى والصلاح واستباق الخيرات لكانت اقتصرت على فكرة إنشاء جامع يؤمه المؤمنون للصلاة واستماع الوعظ والإرشاد إلى البِرّ. ولكن الدعوة إلى عزل المحمديين عن بقية أبناء وطنهم ليست سوى فتنة لعن الله موقظها.
عمّن سينعزل المحمديون؟ هل عن جميع المسيحيين سوريّيهم وأرجنتينييهم وعن الدروز أم عن المسيحيين والدروز السوريين فقط؟ وهل إذا قام جميع المسيحيين والدروز من سوريين وأرجنتينيين وأجانب في هذه البلاد يقاطعون المحمديين في المعاشرة والمتاجرة ففي أي حال يصبح هؤلاء؟
وقد بلغنا أنّ أحد المهووسين بهذه الجهالة في مدينة كوردبة نشر مقالة في جريدة العلم العربي يشجب فيها زواج المحمديين من مسيحيات أرجنتينيات وغير أرجنتينيات في هذه الأمة الكريمة التي أحلّتهم ضيوفاً كرماء في وسطها وخوّلتهم من الحقوق ما خوّلت جميع المقيمين في هذه القطر. فكأن هذا الجاهل نسي أنّ سورة المائدة أباحت للمحمديين تزوج النساء من أهل الكتاب وأحلّت لهم طعام هؤلاء ولهؤلاء طعام أولئك، أو كأنه يريد أن ينقض أحكام دينه نفسه من أجل غاية شريرة مستورة!
وقد كنا قرأنا لهذا المدَّعي العلم، من قبل، مقالة جعل عليها رقم «2» تصدى فيها لانتقاد بعض حلقات بحث «جنون الخلود» ادّعى فيها أنّ الزانية التي قدمت إلى المسيح ليعطي حكمه في أمرها هي مريم المجدلية! وادّعى أنه يعرف التاريخ أكثر من أستاذ في التاريخ فقال إنّ معركة اليرموك حدثت قبل فتح دمشق وإنّ عزل خالد بن الوليد جرى فيها. فإذا كانت تلك المعركة جرت قبل فتح دمشق وكان خالد قد عزل عن القيادة فكيف يكون فتح دمشق حصل تحت قيادته!
إنّ هذا الجاهل لا يعرف فرقاً بين معركة أجنادين ومعركة اليرموك ولا بين الزانية ومريم المجدلية ولا بين تأييد حكم عمر في أمر من أشرك رجلاً آخر في زوجته والاستهزاء بذلك الحكم. ومع ذلك فهو يريد أن يقيم نفسه مرشدا للملّة المحمدية!
إلا أنّ أسوأ الجهل جهل الجهل. فمن كان جاهلاً ويجهل أنه جاهل ويريد أن يقيم من نفسه إماماً هادياً كان مصيبة على نفسه ونكبة على أمته وبلاده.
قلنا في ما تقدم من هذا المقال إنّ الجالية السورية في ديار الجمهورية الأرجنتينية تعيش متنابذة متباينة. ولكن هذه المعيشة كانت نتيجة حالة موروثة من قبل بقيت بمبدأ الاستمرار فقط قبل نشوء أية فكرة تجديدية تعمل للمّ ما تفرق ورأب ما انصدع. لم يكن هناك أشخاص رموا إلى إيجاد هذه الحالة بدعوة صريحة كدعوة الداعية المشبوه الطبيب المعرّي والسيد أمين أرسلان الذي يفتخر في جريدته بأنه كان قد فكّر وسعى منذ سنوات في مثل هذه الفتنة.
كنا صابرين على الحالة الراهنة بعض الصبر، لأنّا كنا نريد إعطاء الجالية فرصة كافية لتفعل فيها المبادىء السورية القومية الصحيحة فتوجه عناصرها نحو الوحدة القومية والتقارب بين ملل الأمة الواحدة. ولم يكن يخطر في بالنا قط أنّ أحداً يقصد الفتنة الصريحة بين أبناء الوطن الواحد باسم الدين ويجد تحبيذاً وآذاناً صاغية في أي وسط من أوساط الجالية.
والظاهر أنّ أصحاب المنفعة الذاتية لا يستكبرون فتنة ولا جريمة من أجل مقاصدهم. فالصحافيون الذين «يحبِّذون» فكرة أنشاء حارة للمحمديين يمنّي كل واحد منهم نفسه بأنه سيكون هو صاحب «الجريدة اليومية» التي سيمكن إنشاؤها من أموال البسطاء فيكون قد نال رسمالاً كبيراً بدون أدنى تعب وتصير الجريدة له. وقس على مشروع الجريدة المشاريع الأخرى. ومتى انتهت هذه الحرب يكون كل صياد قد اصطاد فريسة، وعلى المؤمنين السلام.
والتلاعب بالجالية وابتزاز أموالها صار فناً له أصول وخبراء وطرق كثيرة وأمره مشهور. ولكن الخروج إلى رمي بذور الفتنة الدينية وإثارة أحقاد قديمة هو آخر بدائع هذا الفن الملعون!
وهذه كلمة أخرى لقوم يعقلون. أما الذين لا يعقلون فلا كلمة لهم!