الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 38، 15/2/1942
عندما أوردت الزوبعة، في بعض مقالاتها، إسمَيْ شكيب وأمين أرسلان مجرّدين من لقب الإمارة ظن كثير من البسطا أنّ هذه الجريدة قد أتت أمراً أدّاً وأنّ قصدها كان الطعن والتحقير الشخصيين. وبعض المولعين بألقاب الإمارة والعطوفة والسعادة والأمير والبك والباشا شعروا، عند قراءتهم في الزوبعة أسماء من ينعتونهم هذه النعوت مجرّدة من بهرجتها اللقبية، أنّ الأرض تميد تحت أرجلهم حتى أنهم يجدون صعوبة كبيرة في حفظ توازنهم وتثبيت أقدامهم.
الحقيقة في هذه المسألة التي يستغرب البسطاء ظهورها في مقالات الزوبعة هي أنّ الأمر يتعلق بمبدأ عام من مبادىء الحركة السورية القومية الإصلاحية. فالمبدأ الإصلاحي الرابع من مبادىء هذه الحركة ينص على: «إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة». فالنهضة السورية القومية ترى أنّ الإقطاع مصيبة كبيرة من مصائب الأمة السورية تضاهي مصيبة التحزبات الدينية، وأنّ الامتيازات المدنية الموروثة من حالة الإقطاع القديمة هي حجر عثرة في سبيل الوحدة القومية التامة وصدع في بناء الدولة القومية المتينة. ولمّا كان من الواجب إلغاء الإقطاع وإزالة الامتيازت المدنية للوراثات الإقطاعية كان لا بدّ من إلغاء جميع مظاهر الإقطاع وامتيازاته. والألقاب الإقطاعية هي من جملة هذه المظاهر التي يجب أن تمحى عن وجه الأمة السورية. وبما أنّ الزوبعة وقفت نفسها على خدمة المبادىء القومية الصحيحة والإصلاح الاجتماعي ــــ الاقتصادي فموقفها موقف من يعمل بمبادىء عامة لا من يتعرض بخصوصيات أحد من الناس لا علاقة لها بالمبادىء العامة. ولو كانت ألقاب الإقطاع غير ذات صلة بحالة الشعب السوري الاجتماعية الاقتصادية ــــ السياسية لما كان يهمّنا أمرها ولكننا نهتم كثيراً لهذا الأمر لأننا ندرس ونعلم أنّ قسماً كبيراً من نكبات أمتنا السياسية مسبب عن حالة الإقطاع واستخدام الإقطاعيين وأصحاب الألقاب الإقطاعية نفوذهم للتسلط على مقدّرات الأمة والتزاحم على الحكم ولا أهلية لهم غير النفوذ الموروث. فالإقطاعيون في الشام ولبنان وفلسطين هم الذين ترأسوا وقادوا جميع الحركات والثورات الاعتباطية التي كلّفت الشعب السوري قسماً ضخماً من ثروته وكمية لا يستهان بها من دمه على غير طائل. ولولا ألقاب الأشخاص الذين تولوا الأعمال المذكورة وحالتهم الاقتصادية الموروثة التي مكنتهم من استخدام أشخاص ووسائل إذاعية وغير ذلك من توابع النفوذ الإقطاعي لكان الأرجح أن لا يكونوا بلغوا الحد الذي بلغوه في المضاربة بمصالح الأمة ومستقبلها.
أما آفة الإقطاع من الوجهة الاجتماعية والحقوق المدنية فمن أشد الآفات المانعة الأمة من النهوض. فإن حالة ألوف عائلات الفلاحين في المناطق الإقطاعية في لبنان والعلويين وجبل حوران والشام وفلسطين في حالة فاقة وضعف في الجسوم وفي النفوس وغباوة في العقول تدعو إلى أشد الأسف. والأمة التي يكون ثلاثة أرباعها في حالة عبودية لا يمكنها أن تقف وتثبت بين الأمم الحرة.
لمّا كان موضوع هذا المقال مختصاً بناحية الألقاب من مسألة الإقطاع ولمّا كانت هذه الناحية تدخل في مسألة النظام الأرستقراطي فإننا نترك فروع الموضوع الإقطاعي الأخرى لفرصة مقبلة ونقتصر الآن على الناحية المذكورة. فنسأل: هل يوجد في سورية نظام أو بقية نظام أرستقراطي يجعل لألقاب الإمارة والبكوية والباشوية والمشيخة وغيرها قيمة حقيقية فعلية؟
الجواب الذي لا غبار عليه هو: إذا لم تكن الألقاب الأرستقراطية السورية عديمة القيمة الفعلية بالمرّة فهي، على الأقل، مشكوك كثيراً في قيمتها بصورة عامة وفي حالات معيّنة هي عديمة القيمة بالمرّة.
يجب أن يكون واضحاً، منذ البدء، أنّ الألقاب الأرستقراطية السورية ليست ذات طبيعة واحدة ومنشأ واحد. فمنها ما كان منشأه أرضياً ــــ اقتصادياً ومنها ما كان منشأه قبلياً من غير أية صفة أرضية كشيوخ العشائر ورؤساء القبائل. فهؤلاء لهم سلطة القضاء على أفراد عشائرهم أو قبائلهم من غير أن يكونوا أصحاب الأراضي التي يعمل فيها هؤلاء الأفراد، كما هي الحال في رؤساء عشائر العلويين. وأحياناً يحدث تنازع على السيادة على أفراد هذه العشائر بين نفوذ رؤسائها ونفوذ أصحاب الأراضي التي يعمل فيها هؤلاء الأفراد. ويرجح في هذه الحالة أن يغلب نفوذ الإقطاعيين الحقيقيين نفوذ رؤساء العشائر. فأفراد عشائر العلويين الذين يعملون في حقول الدنادشة يخضعون بالأكثر لما يفرضه هؤلاء، الذين هم أصحاب الأرض.
عرفت سورية إمارات من النوع العربي ليست لها أية صفة أرضية. ومن هذه الإمارات إمارة أو ملكية رؤساء الغساسنة الذين كانوا أمراء على القبيلة، لا على الأرض. وما دخل من أرض تحت حكمهم جرى فيما بعد بإقطاع من أباطرة الدولة البيزنطية. وعرفت سورية إمارات أرضية كإمارة فخر الدين المعني في لبنان الذي زاد السلطان سليم حدود منطقة إقطاعه نظراً لتقديمه الخضوع له حين مروره بسورية.
ومهما يكن من أمر منشأ الألقاب الأرستقراطية في سورية فإنه لم يكن ولم ينشأ فيها، في القرون الأخيرة من تاريخها، نظام أرستقراطي راسخ، فما خلا إمارتين أو ثلاث، بلغت إلى شيء من الشأن السياسي، كانت حالة الإقطاع والأرستقراطية في فوضى. والإمارات والشيخات الصغيرة التي كانت تنشأ كالفطر هي أفضل دليل على الفوضى وعدم وجود نظام أرستقراطي راسخ. فلم يتمركز الإقطاع على قاعدة السلطة الموحَّدة ذات الشكل السياسي ــــ الإداري ولذلك جرت الأرستقراطية السورية المتأخرة على قاعدة وراثة الألقاب، لا على قاعدة وراثة السلطة. فمعلوم أنّ السلطة على أرض أو جماعة إذا توزعت على عدد من الأفراد انقسمت وسقطت. ولذلك حافظت الأرستقراطية الإفرنجية المنظمة على مبدأ وحدة السلطة ضمن الإرث. فأولاد الأمير، من أي رتبة كان، لا يرثون كلهم لقب الإمارة وسلطتها، بل يرثهما فقط الإبن البكر أو الذكر الأول. فالسلطة تكون له ولمّا كان اللقب للدلالة على الملكية والسلطة فهو ملازم لها فلا يرثه غير وارث السلطة. أما في سورية فالألقاب في فوضى لا مثيل لها. فكل من حمل لقب أمير، من أي رتبة كان، يرث أولاده كلهم الذكور والإناث هذا اللقب. وتذهب الفوضى إلى أبعد من ذلك فأولاد صاحب لقب الأمير أو الشيخ يكونون أمراء ومشايخ ووالدهم بعد حي يرزق. وأحفاد الأمير وأحفاد أحفاده يكونون كلهم أمراء. فإذا سألت: على أي شيء يأمر «الأمير» الفلاني؟ لما وجدت في غالب الأحيان سوى علامة التعجب جواباً.
على قاعدة وراثة الألقاب المتبعة في بلادنا انتشرت الألقاب الأرستقراطية إنتشار الأوبئة. فكيفما قلّب المرء طرفه وقع على «أمير» أو «شيخ» بين فئة من الناس لا فرق بينه وبين أفرادها في علم أو ثروة أو سلطة، إلا أنه يحاول دائماً فرض لقبه وإيجاد امتياز مدني ونفوذ سياسي له عليهم وفي هذه الحالة تجد طائفة كبيرة من الأمراء الإرسلانيين والجنبلاطيين والشهابيين واللمعيين والطرشان والخازنيين والمردميين والشيشكليين، الخ، الخ.
لم يقتصر وباء الألقاب الأرستقراطية على الوراثة، بل تناول الاكتساب بأية طريقة كانت. فعدد كبير في سورية يحمل لقب الإمارة التركي «بك» من غير استحقاق. والمولعون أو الطامعون بالألقاب من أبناء أمتنا لم يرفضوا لقباً أتاهم من أي من الناس، فكثير من البكوات والشيوخ في سورية تناولوا لقب البك أو الشيخ من مساحي الأحذية وسائقي العربات وخادمي الفنادق والمطاعم. ونعرف عدداً من الذين انتحلوا المشيخة طول حياتهم وورّثوها لأبنائهم لمجرّد أنهم كانوا مدة من الزمن قائمين بوظيفة مشيخة ضيعة المعادلة للمختارية. ففي الشوير من قضاء المتن انتحل المشيخة السيد خليل عون ولم يقبل أن يعرف بغير لقب «الشيخ» خليل عون وصارت زوجته تدعى «الشيخة». ويقال إنّ الأستاذ إبراهيم المنذر ليس شيخاً إلا عن طريق الانتحال، إذ أبقى لنفسه لقب «الشيخ» الذي كان يحمله حين كان مختاراً أو شيخاً لضيعة المحيدثة قرب بكفيا، ثم إنّ الناس التبس عليهم الأمر نظراً لاشتغاله بالتدريس والأدب وظنوا أنّ مشيخته مشيخة علم، كما عرف اليازجيون العلماء. وبعض اليازجيين الذين ليسوا شيوخاً لا في العلم ولا في شيء آخر، إلا أن يصيروا شيوخ سن، لا يزالون يحملون لقب «شيخ». وجميع هؤلاء «الشيوخ» و«الأمراء» يتوقعون من الناس التجلّة والاحترام اللائقين بالألقاب التي يحملونها صواباً أو خطأً.
إنّ المناقب القومية الجديدة تأبى علينا الاستمرار في هذه الفوضى الاجتماعية ــــ السياسية. إنّ النهضة السورية القومية ترفض كل امتياز مدني أو سياسي يوجد طبقة من الشعب فوق بقية الشعب لسبب الإقطاع أو تقليد وراثة فاسدة. فالقومية السورية تدعو جميع أبناء الشعب السوري إلى طلب الامتياز بالبطولة والتضحية في سبيل قضية الأمة مقتدين بحياة الزعيم الذي رفض اقتراحات كثيرة وردت ليحمل، على طريقة الأرستقراطية السورية المتأخرة، لقب الإمارة لذي استحقه وناله والده الدكتور خليل سعاده بك. فبما أنّ البكوية هي الإمارة عينها باللفظ التركي فإن تطبيقها في سورية على طريقة وراثة الألقاب الأرستقراطية يجعل واجباً أو جائزاً ترجمتها إلى اللفظ العربي ونقلها، على الطريقة المتبعة في سورية، من الأب إلى الأبناء والأحفاد، وعلى سبيل المعلومات نورد هنا أنّ السيد جميل مردم (بك) وغيره من رجال «الكتلة الوطنية» وغيرهم العارفين بمنزلة الدكتور خليل سعاد بك، ومن أوساط دمشق أخذوا يدعون الزعيم حين ز«يارته الأولى لدمشق سنة 1930، أي قبل تأسيس الحزب السوري القومي بنحو سنتين، بلقب الإمارة فكانوا يتجهون إليه بلتسمية «أنطون بك سعاده» أي الأمير أنطون سعاده. ولكن الزعيم أبى هذا اللقب وكل تقليد صحيح أو غير صحيح يجعله في طبقة فوق الشعب.
فنحن حين نذكر أصحاب الألقاب التقليدية البالية مجرِّدينهم من ألقابهم لا نفكر بالإساءة إليهم، بل يجعلهم ادعى إلى الاحترام. فالقاعدة القومية الصحيحة تقول إنّ قيمة الشخص في أعماله لا في ألقابه. ونحن ننتقد أعمال الأشخاص العمومية التي لا يسترها عن أعيننا لقب صحيح أو غير صحيح. ونعتقد أنّ أصحاب الألقاب يجب عليهم الشكر لإنقاذنا إياهم من حكم القائل:
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهرّ يحكي، انتفاخاً، صولة الأسد
إنّ بين الخمسة وتسعين والثمانية وتسعين بالمئة من الألقاب الأرستقراطية في سورية غير صحيحة ليس لجميعها نظام أرستقراطي صحيح. والألقاب التي على شيء من الصحة بالنسبة إلى العهد الإقطاعي البالي لا محل لها في النهضة السورية القومية التي لا تعترف بإقطاع ولا بامتيازات مدنية وسياسية وراثية أو غير وراثية.
فيا ألقاب الأمير وإليك والمقدم والباشا والشيخ والأغا، أديري وجوهك إلى الخلف وارجعي إلى العصور المظلمة التي أتيت منها، لا سقى الله أيامك الماضية ولا أعادها إلى الوجود في الأمة السورية الكريمة.