الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 44، 15/5/1942
لم تسفر مهمة الوزير ستافرد كرفس، عضو وزارة الحرب البريطانية المبعوث إلى الهند، عن غير النتيجة التي توقعناها وبيّنا أسبابها في المقالة التي أثبتناها في العدد 41 من الزوبعة (ص 33 ــــ 37 أعلاه). فقد وصل سر ستافرد كرفس إلى الهند في أواخر مارس/أذار الماضي وباشر مقابلاته مع رؤساء الأحزاب والحكومات الهندية. ولكن المفاوضة كانت مع حزب «المجمع الهندي» الذي يمثّل نهضة الهند الكبرى. وهو حزب لا مذهبي في نزعته ولكن الأحزاب المذهبية هي التي حالت دون جعله الحزب العام الشامل فعلاً. ومع ذلك فهو الحزب الذي يمثّل أكثرية الهنود الساحقة، أي معظم الهندونيين وبعض المحمديين الذين لم يوافقوا على إنشاء حزب ديني محمدي، ومنهم شخصيات نابغة، وغيرهم.
من استقراء المحادثات والمفاوضات التي قام بها المبعوث فوق العادة البريطاني مع رجالات الهند يتبين أنّ النظرية البريطانية لم تشتمل على غير ما أوضحناه في المقال السابق: تجنيد ملايين الهنود، ووضعهم في قبضة القيادة البريطانية وتحت تصرّفها، لغرض دفع الهجوم الياباني عن هذا القطر الأسيوي العظيم المخضع إخضاعاً تاماً للسيادة البريطانية. أما النظرية الهندية على ما ظهر من موقف حزب «المجمع الهندي»، فهي تضع مسألة الحصول على السيادة الهندية الفعلية لقاء أي مجهود تعاوني من قِبل الهند في الحرب. فكان جواب بريطانية على مطاليب الهند أنّ الحكومة البريطانية تعد بتقرير هذه السيادة للهند بعد الحرب وضمن التحفظات التي أثبتناها في المقال الماضي. وقد ظهر، في بادىء الأمر، أنّ الخلاف تمركز في مسألة إيجاد وزارة هندية للحرب يجري التجنيد والتهيئة الحربية تحت إشرافها. ولكن تبيّن في الأخير أنّ هذه المسألة كانت ثنوية بالنسبة إلى النظرة الهندية التي رمت إلى إيجاد سيادة هندية فعلية في الحال بطلب المبادرة إلى وضع دستور حكومي للهند وتأليف وزارة هندية يرجع إليها وزير الحربية وتكون مرجعاً لجميع الشؤون الهندية. فرفضت بريطانية النظر في غير تقرير وعد الهند بالاستقلال الإداري مع التحفظات المشار إليها التي تبقي لبريطانية تدخلاً سياسياً وإدارياً كبيراً في جميع مسائل الهند الداخلية وتهدد بفصل بقاع كبيرة غنية من الهند عن الدولة الهندية الموحّدة. تجاه هذا الرفض البريطاني رفض حزب «المجمع الهندي» مقترحات الحكومة البريطانية التي حملها عضو الوزارة الوزير ستافرد كرفسس. وبهذا الرفض انتهت المفاوضات وأعلن المبعوث البريطاني نهايتها في 11 أبريل/نيسان الماضي وعلى الأثر عاد إلى بريطانية حيث ألقى خطباً حاول فيها إلقاء التبعة في خيبة المفاوضات على حزب «المجمع الهندي». وفي هذه الأثناء صدرت تصريحات من حزب «المجمع» تلقي التبعة في خيبة المفاوضات على الجانب البريطاني الذي لم يشأ أن يأخذ بعين الاعتبار ضرورة وجود حكومة هندية مسؤولة تعود إليها المسائل الهندية في الحال، ما دامت الهند ستأخذ على نفسها إعداد الدفاع عن نفسها ضد الهجوم من الخارج، وضرورة تقرير مبدأ وحدة الهند التي لا تتجزأ.
هذه النتيجة النهائية لمفاوضة الهند تعني أنه إذا كانت بريطانية لا تعطي الهنود غير وعد بالاستقلال الإداري في حين تطلب منهم تضحيات فعلية لمنع وقوع الهند في حوزة اليابان فعليها أن تحافظ على الامبراطوريتها بدمها هي لا بدم الهنود. ومع أنه يوجد في الجيش البريطاني بضع مئات ألوف من الهنود فإن مسألة الدفاع عن الهند ضد عدوّ من الطراز الأول كما هي اليابان تحتاج إلى استعدادات عسكرية واسعة وقوات كثيرة. والظاهر أنّ الولايات المتحدة ترسل جنوداً إلى تلك الجبهة لمواجهة الزحف الياباني والاشترك مع البريطانيين في الدفاع عن الهند.
يمكن تلخيص نتيجة رحلة المبعوث البريطاني إلى الهند بهذه العبارة: على من يريد أكل كستنا مشوية في الهند أن يُخرج الكستنا من النار بيديه هو!
لم يكد السيد بيار لافال يتسلم زمام الحكم في فيشي ويلقي تصريحه السياسي بصفته رئيس الوزارة القائل بوجوب التعاون مع ألمانية حتى أجابت الولايات المتحدة على هذا الحدث الفرنسي باستقدام سفيرها الأميرال ليهي «للمذاكرة». وهو بلوغ العلاقات الدبلوماسية أشد ما يكون من التوتر.
وقد عقب تسلّم لافال الحكم في فرنسة حصول مقابلة بين هتلر وموسوليني ووزيري خارجية ألمانية وإيطالية ورئيسي أركان حربهما في صلسبرغ في 29 و30 من أبريل/نيسان الماضي. وأذيع في أول مايو/أيار الحاضر البلاغ التالي عن هذه المقابلة بواسطة محطة إذاعة برلين:
«قد تقابل الفوهرر والدوتشي في 29 و30 من أبريل/نيسان في صلسبرغ. وقد تداول الحديث رئيساً الحكومتين بروح الصداقة الوثيقة وأخوة سلاح الأمتين وزعيميها.
«وقد نتج عن هذه المقابلات توارد آراء في صدد الحالة، التي أوجدتها الانتصارات السحاقة للدول ذات المعاهدة الثلاثية، وفيما يختص باستئناف الأمتين الحرب في النظامين السياسي والعسكري، وتجدد إعلان عزم ألمانية وإيطالية وحليفاتهما الأكيد على ضمان النصر النهائي بجميع الوسائل التي في مقدورهن.
«وقد كان حاضراً المحادثات السياسية في هذه المقابلات وزير خارجية ألمانية البارون رفنطرب ووزير خارجية إيطالية الكونت شيانو. فسنحت الفرصة على هذه الكيفية، لوزيري خارجية دولتي المحور، للمناقشة في الشؤون الداخلة في نطاق السياسة الإنترناسيونية.
«وكان حاضراً المحادثات الحربية رئيس أركان الحرب الريخ، مارشال الميدان كيتل، ورئيس أركان حرب إيطالية العام الجنرال كولارو.
«وكان حاضراً، بمناسبة المقابلة السفير الألماني في روما، السيد مكنزن، والسفير الإيطالي في برلين السيد دينو ألفياري».
والمظنون أنّ هذه المقابلة تناولت، من الوجهة السياسية، حالة فرنسة الجديدة وموقفها بعد تسلّم السيد لافال رئاسة الوزارة في فيشي. وليس ذلك بعيد الاحتمال، بل هو المرجح، لأن دولتي المحور يجب أن تكونا على اتفاق فيما بينهما في جميع المسائل المختصة بإدارة الحرب ونتائج النصر وحالة السلم. ويحتمل أن تكن إيطالية كررت وجهة نظرها فيما يختص بفرنسة لتحصل على التأكيد أنّ السياسة الألمانية لم تغيّر موقفها في شيء مما يخص الوجهة الإيطالية في صدد البحر المتوسط وبعض البقاع الإفريقية كتونس والحبشة والصومال وضرورة ضم الصومال الفرنسي إلى الامبراطورية الإيطالية في الشرق.
ولا شك في أنّ المحادثات تناولت حالة الشرق الأدنى والمجهود الأميركاني في هذه الناحية وفي الأطلسي وحالة الشرق الأقصى والأوسط خصوصاً.
وجاء في 2 مايو/أيار الجاري أنّ سفراء اليابان في أوروبا تواعدوا وتقابلوا في فيشي، الأمر الذي يدل على أنّ النشاط السياسي من جهة الدول الكلية كان كبيراً.
ثم جاء في برقيات بتاريخ 4 مايو/أيار الحاضر أنّ قوات بريطانية بحريّة وبرية هاجمت جزيرة مدغشكر، في الجنوب الشرقي من إفريقيا، التابعة للسيادة الفرنسية. وقد تم استيلاء القوات البريطانية بعد معارك صغيرة على ميناء الجزيرة الحربي الكبير، دياقو سوارس وبعض المواقع الأخرى. وقد بلّغت حكومة الولايات المتحدة حكومة فيشي أنها على اتفاق تام مع بريطانية في نهجها في مدغشقر.
وبعد ذلك أخذت الأنباء تترى عن مطاليب الولايات المتحدة في جزيرة مرتينكه في البحر القريب في الجانب الأميركي. آخر هذه الأنباء يفيد أنّ المفوضين الأميركان قد وصلوا إلى اتفاق مع المفوض الفرنسي، الأميرال روبار، على تجريد المراكب الحربية الفرنسية الراسية في هذه الجزيرة وما جاورها من سلاحها وذخيرتها ولا تزال هنالك مسائل معلقة على متابعة المفاوضة للوصول إلى نتيجة بشأنها، أهمها مسألة مصير المراكب الفرنسية التجارية وإمكان إنزال حاميات أميركانية لخفارة الموانىء الهامّة.
تعوّد الناس أن يروا إجراءات حربية كبيرة تعقب كل مقابلة تجري بين هتلر وموسوليني. ولم تتبدل العادة هذه المرّة. ففي الثامن من مايو/أيار الحاضر ابتدأ هجوم ألماني شديد على رأس كرش في شرقي شبه جزيرة الكريم الذي كان الروس استعادوه أثناء الشتاء الشمالي الماضي من قبضة الألمان وآخر ما ورد من الأخبار في 15 الجاري أنّ مدينة وميناء كرش الواقعان في طرف الرأس الشرقي قد صارا في قبضة الألمان مرة أخرى.
أشيع وأذيع أنّ الألمان استعملوا في هذا الهجوم نوعاً جديداً من القنابل ينطلق منها غاز مخدر أو سام عند انفجارها أو يحدث انفجارها لعلعة شديدة تصيب مجاوريها بنوع من الصرع أو الخبال يشل حركاتهم. فأدى ذلك إلى إشاعة أنّ الألمان بدأوا يستعملون الغازات السامة. وفي العاشر من مايو/أيار الحاضر ألقى رئيس الوزارة البريطانية السيد تشرشل، خطاباً أعلن فيه أنه إذا كان الألمان يريدون استعمال الغازات السامة في الحرب فإن بريطانية مستعدة لمقابلتهم بالمثل. وقد جاءت أخبار أنّ المراسل الصحفي الذي أشاع استعمال الغاز السام طرد من ألمانية.
الظاهر أنّ الروس لا يريدون تغيير المبدأ التحريكي الذي عملوا به في الصيف الماضي. وهذا هو: كلما باشر العدو هجوماً في جبهة أو ناحية يعمد إلى مهاجمته في جبهة أو ناحية أخرى. فإذا لم يفد هذا الهجوم المبادل حربياً فلا بدّ أن يفيد إذاعياً. فما كاد الألمان يقومون بهجومهم في شبه جزيرة الكريم حتى ابتدأ الروس هجومهم المقابل على نهر الدونتز في اتجاه مدينة خركوف الثمينة. والإذاعات الروسية تعلن متابعة الهجوم والتقدم في هذه الجبهة و«خرق الخطوط الدفاعية الأولى ثم الثانية» أمام المدينة المذكورة. أما الألمان فيقولون إنهم قد ردوا جميع الهجمات الروسية في هذه الناحية.
كانت النظرية الحربية القديمة: أنّ الوقت حليف بريطانية. ومعنى هذه النظرية أنّ بريطانية تحتاج إلى وقت لحشد جميع القوى والقوات والوسائل من أنحاء امبراطوريتها المترامية الأطراف وأنّ هذه القوى والقوات تتعاظم مع الوقت، نظراً لغنى الامبراطورية وأمم ممتلكات التاجر البريطاني.
صحّت هذه النظرية في الحروب الماضية وفي الحرب العالمية الأخيرة بين سنة 1914 و1918. وفي مطلع الحرب الحاضرة عاد الاعتقاد بهذه النظرية إلى الظهور وتفنن الكتّاب «الديموقراطيون» في تبيان أهمية الوقت كحليف لبريطانية، اكتساباً لثقة الشعوب الباقية على الحياد تراقب الفتوحات الألمانية السريعة. ومع أنّ هذه النظرية صائبة في حد ذاتها فإن نوع الحرب الحاضرة وسياقها يضعانها موضع شك كبير.
الحرب الحاضرة تختلف كثيراً ومن عدة وجوه عن الحروب السابقة التي خاضت بريطانية غمارها. في الماضي كنت الوسائل الإذاعية كلها تقريباً، في يد بريطانية وحلفائها. وفي الحرب العالمية الماضية لم يكن لدول الوس شيء يذكر من وسائل الإذاعة في العالم. فكانت الأخبار لا تصل إلى الناس إلا كما يريد البريطانيون وحلفاؤهم والحقائق الحربية والسياسية كانت تتسرب إلى الناس متأخرة إلا في الحوادث التي لا يجوز كتمانها. والمقالات التي تنشر كانت كلها في مصلحة بريطانية وحليفاتها. وكان الأسطول البريطاني متسلطاً تسلّطاً فعلياً، أكيداً، على جميع البحار. وجميع الدول البحرية ذات الأساطيل الضخمة كانت مع بريطانية كاليابان وفرنسة وإيطالية وغيرها، فضلاً عن الولايات المتحدة. وكان سلاح الغواصات في بدء خطورته وسلاح الجو عديم الأهمية في غير الاستكشاف. وكانت الموارد الصناعية والاقتصادية كلها، ما عدا ما كان منها في ألمانية نفسها، في يد بريطانية وحليفاتها.
في الحرب الحاضرة تختلف الحالة كثيراً عن الماضي. فالألمان أعدّوا جهازاً إذاعياً واسعاً ومتنوع الفروع واهتموا بعقليات وروحيات جميع الشعوب التي رأوا لهم مصلحة فيها. وسهّل الراديو للناس الاطلاع على الأخبار من جميع الجهات. وسلاح الغواصات تحسّن تحسناً كبيراً وزادت خطورته واشتد خطره على المراكب التجارية والحربية معاً. والسلاح الجوي صار قوة هجومية عظيمة، واتسعت دائرة عمله حتى صار في إمكانه السيطرة على البحار القريبة من الشواطىء التي فيها مراكزه وفي هذه الحرب انحازت إيطالية إلى ألمانية حليفتها وانحازت إليها اليابان التي تعدّ دولة بحرية وبرية من الطراز الأول وباستيلاء ألمانية على معظم بولونية استعادت منطقة سيليسية الغنية بمناجم الفحم الحجري، وحازت جميع المعادن البولونية وسهولها الزراعية، وأخذت ألوفاً من العمال البولونيين للعمل في ألمانية تعويضاً عن الرجال الموجهين إلى ميادين القتال. ثم هاجمت ألمانية نروج واستولت على معادنها وموانئها البحرية المقابلة لشمال بريطانية التي صارت ثمينة جداً لحركات الأسطول الألماني الأخذ في الزيادة. بعد ذلك قامت ألمانية بهجومها البرقي الباهر في الجبهة الغربية واكتسحت مقاطعة لوكسمبورغ المستقلة في 24 ساعة والدانمارك والنيدرلند (هولندة) وبلجيكة وفرنسة جميعاً في نحو شهر . فدخلت في حوزتها بلدان غنية في معادنها ومحاصيلها الزراعية وماشيتها وألبانها وصناعاتها. وكانت قد دخلت في حوزتها معامل سكوده التشيكية قبل الهجوم على بولونية. ثم هاجمت ألمانية روسية واستولت على معطم أوكرانيا وشواطىء البلطيك والبحر الأسود حتى بحر آزوف. فقضت على صناعات كثيرة بلشفية وأدخلت في حوزتها أراضٍ زراعية واسعة. والأدلة التخمينية ترجح أنّ ألمانية أحسنت استغلال ما دخل في حوزتها صناعياً وزراعياً. فجرى اتفاق بين صناعيّــي ألمانية وصناعيّــي فرنسة، واستخدمت ألمانية عمّالاً كثيرين أجانب في حقولها وصناعاتها فزاد إنتاجها الصناعي، في حين أتلفت الكثير من وسائل الإنتاج الصناعي في بريطانية وروسية، وأدخلت في نطاق نفوذها جميع البلقان وحازت نفط رومانيا الذي تخرج منه مقادير لا يستهان بها.
جاء بعد ذلك هجوم اليابان على الامبراطورية الأميركانية والامبراطورية البريطانية في المحيط الهادىء. فاستولت على شبه جزيرة ملكة وهونغ كونغ جزيرة سنغافورا الشهيرة وجزائر الفيلبين وجزائر الهند النيدرلندية الغنية بنفطها ومعادنها واجتاحت بورما الهندية الغنية بالنفط ومعادن أخرى. واحتلت غينيا الجديدة وإنكلترا الجديدة وضربت نطاقاً حول أوستراليا. وهي الآن تهدد هذه الجزيرة القارة وشبه القارة الهندية في آنٍ واحد.
مجموع هذه الحوادث يعني أنّ موارد صناعية واقتصادية غنية قد انضمت إلى جانب الدول الكلية، وأنّ الدول الديموقراطية قد خسرت هذه الموارد كلها. فالوقت الآن لا يمرّ في جانب بريطانية فقط ولمصلحتها وحدها، بل في جانب ألمانية واليابان وإيطالية ولمصلحتهن. وإذا تمكن الهجوم الألماني الجديد من الوصول إلى القوقاس فإن موارد جديدة غنية من النفط وغيره ستنتقل من جانب الدول «الديموقراطية» إلى جانب الدول الكلية وحينئذٍ يحتمل حدوث رجحان لكلفة الدول الكلية فيما يختص بالوقت من حيث هو عامل أساسي أو جوهري في تكييف سياق الحرب. والدول «الديموقراطية» تدرك ذلك جيداً وتحاول منع هذه الكارثة المحتملة والولايات المتحدة تبذل من المال في الصناعة الحربية ما تبلغ أرقامه منزلة الحسابات الفلكية.