الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 46، 15/6/1942
منذ بدء تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي اتخذ الزعيم قاعدة أساسية للحزب الاعتماد على النوع لا على الكمية وإقصاء جميع العناصر النوعية المخالفة المطلوب للنهضة القومية الاجتماعية، وانفرد الزعيم في البدء بهذا الرأي حتى أظهر الاختبار صحته فصار جميع أركان الحركة القومية الاجتماعية والغيورين على تقدمها وفلاحها يعرفون أهمية هذه القاعدة.
أول إقصاء للعناصر غير الصالحة عن الحركة السورية القومية الاجتماعية حدث ولم يمضِ على تأسيس الحزب السوري القومي أكثر من بضعة أسابيع وألجأ الأمر إلى التظاهر بحلّ الكيان وتأجيل الدعوة إلى فرصة أخرى. ودارسو نشأة الحزب السوري القومي وتطوراته واختباراته يعلمون أنّ الحادث المذكور كان ذا أهمية فاصلة في إنشاء عهد جديد ودليلاً على إدراك بعيد للمستقبل ونظرة عميقة في شؤون المجتمع الاجتماعية والسياسية.
كان ذلك الحادث الأول هاماً جداً من الوجهة المعنوية، على أنه لم يكن من الخطورة السياسية في مكان خطورة أول حادث طرد قانوني صريح وهو حادث طرد المدعو شارل سعد وأخيه فكتور سعد والزمرة التي تمكنا من تأليفها وبينها محامٍ من عائلة حبيش ومهندس إسمه بطرس سماحة. وخطورة هذا الحادث كانت في أنّ هؤلاء الأشخاص كانوا قد تقربوا إلى الزعيم وتظاهروا بالاهتمام والغيرة على القضية والحركة، وفي أنّ الزعيم كان قد عيّن شارل سعد، ولم يمضِ على دخوله الحزب سوى بضعة أشهر منفذاً عاماً لمنفذية بيروت التي كانت في ذلك الوقت، تضم ما يقارب الألف من القوميين الاجتماعيين. فهذه الوظيفة الخطيرة الشأن، خصوصاً في مدينة بيروت التي هي مركز إدارة الحركة السورية القومية الاجتماعية أكسبت المدعو شارل سعد أهمية وجعلته على صلة مع مئات الأعضاء.
أشارت الزوبعة في عدد سابق إلى التهمة التي ثبتت على المدعو شارل سعد وزمرته وأوجبت طردهم من الحزب السوري القومي الاجتماعي (ص 83 أعلاه)، وقد نعود إلى تفصيل هذا الحادث في فرصة أخرى نظراً لأهمية الدرس السياسي ــــ الإداري الذي أُعطي فيه. ولكننا نكتفي الآن بالقول إنه لما عزم الزعيم على اتخاذ تدبير حاسم تجاه سوء نية الشخص المذكور وسوء استعماله وظيفته والتجائه إلى الدسائس حدث خشية في دوائر الحزب العليا من مغبة هذه التدابير. وبعض رجال هذه الدوائر وبعض المقربين إلى الزعيم الذين لم يكونوا يدركون خطورة الموقف ولم يجدوا موجباً لتوجيه الزعيم اهتماماً خاصاً له، كانوا يريدون صرف المسألة بطريقة «التفاهم» بين الزعيم والمدعو شارل سعد، وهو أمر لو حدث لكان هبط بالسلطة الحزبية والنظام الإداري ومعنويات الحركة إلى حضيض الفوضى وكان أعدم الإمكانيات النظامية لمستقبل الحركة ولكن نظر الزعيم في هذه الأمور جعله لا يتردد، وفي الحال عقد جلسة استجوب فيها شارل سعد وزمرته، حتى إذا ظهر تلاعبهم الإداري وسوء قصدهم أصدر الزعيم، من غير إبطاء، قراراً بطردهم جميعاً من الحزب السوري القومي وأرسلت عمدة الداخلية تعميماً بالقرار إلى جميع الفروع. وفي الحال ظهرت روحية التضامن الحزبي وتأييد النظام في جميع مديريات مدينة بيروت وفي جميع الفروع. وكان سقوط تلك الزمرة المفسدة من الحوادث الأولى الهامّة جداً لرفع قيمة النظام الحزبي ومنزلة الإدارة الحزبية وهيبة الحكم ولإرساخ الثقة في نفوس القوميين الاجتماعيين بأن الإدارة القومية الاجتماعية فوق الأشخاص والاعتبارات الشخصية، حتى أنها لا تتأخر ولا تتردد في تنفيذ خطتها، حتى حين مواجهة أشد الأخطار وفي عدادها الخيانة والوشاية.
كان الدرس المستخرج من هذا الحادث ذا تأثير كبير على رجال الدوائر العليا الذين انفتحت بصائرهم بكشف الغيوم المتلبدة عن شمس الحقيقة. واشتد يقين القوميين الاجتماعيين بأن حزبهم قائم على قواعد شديدة المتانة، وأنّ احترام النظام الحزبي وتنفيذ شروطه، حسب نص اليمين القومية، وهما واجبان لا سبيل إلى التملص منهما ضمن الحزب السوري القومي الاجتماعي.
على هذه الخطة الحكيمة سارت إدارة الحزب السوري القومي الاجتماعي فيما بعد. وهذه القاعدة كانت من جملة العوامل الهامّة في متانة وحدة الصفوف القومية الاجتماعية ورفع فضائل النظام والواجب من الدرك الذي ألقتها فيه سفولية العهد الانحطاطي اللاقومي، وقد رأينا العمل بهذه القاعدة في المهجر، الأمر الذي دل على سموّ إدراك إدارة الحزب السوري القومي الاجتماعي لفائدة هذه الخطة وللتقاليد التاريخية التي تأسست بالسوابق الثابتة.
النوع أولاً والكمية ثانياً. هذه هي القاعدة العملية التي سار عليها الحزب السوري القومي الاجتماعي وتمكن بها من حفظ وحدة صفوفه وسلامة نظامه وقوة عقيدته. ولكن اللاقوميين لم يفهموا شيئاً من حكمة هذه الخطة وكل ما أدركوه بالتفكير السخيف الذي ورثوه من عهد الفوضى هو هذا الاستنتاج المعكوس: الحزب السوري القومي الاجتماعي يتزعزع لأن عدداً من الذين انضموا إليه أُخرج من الصفوف! والحقيقة هي أنّ الحزب يقوى ويتراص بنيانه بإزالة العناصر المفسدة. أما قوة الحزب فتزداد لأن المنضمين حديثاً هم دائماً أكثر كثيراً من المطرودين، فضلاً عن جسم الحزب الكبير الذي تألف وتوثق في عقد من السنين حافل بحوادث الجهاد والاختبارات من كل نوع.
هذه النظرة السورية القومية الاجتماعية في الشؤون الاجتماعية والسياسية قد أدركتها مؤخراً أحزاب أوروبية كالحزب الفاشستي في إيطالية وحزب الكتائب الإسبانية الذي نشأ بعد نشأة الحزب السوري القومي الاجتماعي. ففي برقية واردة في 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عن مدريد لــ«يونايتد برس» أنّ حزب «الفلنخ» الإسباني قام بعملية تطهير واسعة وأخرج عدداً كبيراً من أعضائه، مع أنه الحزب الرسمي الحاكم، وأنّ لسان حال الحزب المذكور جريدة أريبا كتبت في هذا الصدد تقول: «إنّ الذين انضموا إلى صفوفنا بدافع رغبة بالتبجح أو الرهبة من السيف سيجدون في قرار الحزب الأخير غلطتهم أو سفوليتهم، الخ».
وفي برقية عن برن، سويسرا، لرويتر في 27 مايو/أيار الماضي أنّ الحزب الفاشستي في إيطالية قد قرر إحداث تنقية جديدة في صفوفه وعزل العناصر غير الصحيحة. ولا تقتصر التنقية على أحزاب الدول الكلية بل تتناول الأحزاب الشيوعية والديموقراطية، إلا أنّ التنقية الأخيرة في روسية سنة 1937 كانت فظيعة والوزارة البريطانية اضطرت لإخراج عناصر والإتيان بعناصر جديدة أكثر صلاحاً، لأن البريطانيين أدركوا أنّ ما يحتاجون إليه لتحسين سير الحرب لمصلحتهم هو النوع وليس الكمية.
مما تقدم ندرك أنّ نظرية الحزب السوري القومي الاجتماعي في أمر تنقية الصفوف هي نظرية صائبة وهي تزيد الحركة القومية الاجتماعية مناعة، بدلاً من أن تضعضعها كما يوهم قصيرو النظر وقليلو الخبرة في هذه المسائل.