الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 52، 15/9/1942
أظهرنا في أعداد سابقة زيف «الاستقلال اللبناني» الموهوم وبطلان «القومية اللبنانية» التي أوحت بها سياسة التفريق الأجنبية. وأوضحنا أنّ «استقلال لبنان» و«لبنان الكبير» و«الجمهورية اللبنانية» هي أشكال أوجدتها وأعلنتها الإرادة الأجنبية، ولم تعلنها إرادة الشعب في لبنان. ولكن بعض اللبنانيين الذين خدعتهم أساليب الدهاء الدبلوماسي لا يزالون يتوهمون أنّ لبنان استقل فعلاً وصار ذا سيادة، وأنّ استقلاله جرى «بإرادة الشعب» بواسطة «مجلس نواب لبنان»، ويحاولون بث هذا الوهم بين عامة السوريين من لبنانيين وشاميين وغيرهم ظناً منهم أنهم ينصورن الحقيقة وهم في الحقيقة لا ينصرون إلا الباطل.
سمعنا بعض هؤلاء الواهمين يقولون إنّ «استقلال لبنان» معلن من الشعب وليس من الأجنبي، وسمعنا من يؤيد هذا الباطل بالقول:
»في شهر أغسطس/آب من سنة 1920 عندما بويع الأمير فيصل في دمشق لأن يكون ملكاً على سورية، اجتمع مجلس نواب لبنان وأعلن استقلال البلاد اللبنانية حرة باسم الشعب وبإرادة الشعب، فكان بعد ذلك أنّ الجنرال غورو في أول سبتمبر/أيلول من السنة نفسها أعلن إرادة الشعب وأثبت بكلامه أنّ فرنسة ستسهر على هذا الاستقلال وتدافع عنه».
فهذا الكلام الصادر عن نية حسنة لشخص مقتنع بأن هكذا تكون إرادة الشعب وهكذا يكون إعلان هذه الإرادة هو من الحجج المثبتة مهزلة «الاستقلال اللبناني» وعدم وجود إرادة الشعب اللبناني في الأمر وإليك البيان:
1 ــــ إنّ صاحب هذا القول يخبط في الحوادث والتاريخ على غير هدى. فمبايعة فيصل جرت في 1919 وليس في 1920. وفي 24 يوليو/تموز سنة 1920 جرت معركة ميسلون التي أثبتت غدر فرنسة للمملكة السورية، ومن ذلك التاريخ انتهى مُلك فيصل في سورية.
2 ــــ إنّ مسألة خطيرة كمسألة تقرير مصير شعب واستقلال بقعة من بقاع الأرض الآهلة ليست من المسائل التي من صلاحية «مجلس نيابي» البتّ فيها، فهذه المسألة يجب أن يقررها الشعب نفسه بالاستفتاء أو بانتخاب مجلس تأسيسي خاص بهذا الغرض دون سواه. أما «مجلس إدارة لبنان» فاسمه يدل على صلاحيته. إنه مجلس انتخب على أساس الحالة الراهنة للعناية باستمرار الأمور الإدارية حسب الوضع الذي كان قائماً. وجميع المجالس النيابية اللبنانية التي تعاقبت على مسرح التمثيل وباعت مصالح اللبنانيين ومرافق حياتهم للاحتكارات والمصانع الأجنبية برهنت على أنها لا تمثّل الشعب ولا مصالحه.
3 ــــ إنّ مجلس إدارة لبنان نفسه رمى إلى عدم الفصل تماماً بين لبنان والشام وبقية البلاد السورية، ولذلك قبض الجنرال غورو على «ممثلي الشعب اللبناني» وأعلنهم خونة للشعب ونفتهم فرنسة إلى جزيرة كورسكا ثم نقلوا إلى باريس، حيث تمكن أحدهم سليمان كنعان من الهرب وإعلان الحقيقة للعالم. فهل الشعب اللبناني هو الذي فوّض إلى الجنرال غورو القبض على نوابه؟
4 ــــ لا الشعب اللبناني ولا فرنسة ولا أحد في العالم اعترف بما أعلنه مجلس إدارة لبنان من استقلال أو غير استقلال، ولذلك لم يظهر شأن الانفصال اللبناني التّام إلا حين أعلن قائد جيش الاحتلال «لبنان الكبير». والمخدوعون من اللبنانيين يعيّدون للإرادة التي أعلنها القائد الأجنبي وليس للإرادة التي أعلنها مجلس إدارة لبنان، الذي لم ينتخبه الشعب في لبنان لتقرير مصيره السياسي. ولو كان هنالك تمثيل حقيقي لإرادة الشعب ولو وجد الاحترام لتلك الإرادة لما وقف القائد الأجنبي ليعلن شيئاً بالنيابة عن الشعب السوري في لبنان وغير لبنان، بل لكان الواجب يقضي على حكومة فرنسة نفسها أن تعلن اعترافها بما يقرره الشعب في استفتاء أو بواسطة «مجلس تأسيسي» منتخب «مجلس إدارة لبنان» الذين يسميهم صاحب الكلام المذكور آنفاً ــــ «نواب الشعب اللبناني». ولو جرى شيء من ذلك لكان تاريخ «استقلال لبنان» الموهوم هو التاريخ الذي أعلن فيه نواب الشعب، أعضاء المجلس التأسيسي ذاك «الاستقلال» وليس اليوم الذي أعلن فيه ممثل سلطة أجنبية تدوس حقوق الشعب وكرامته وتقبض على نوابه تلك المهزلة التي سميت «استقلالاً».
5 ــــ يقول صاحب النية السليمة المنخدع إنّ الجنرال غورو «أعلن إرادة الشعب». إذن فالمدافع عن «استقلال لبنان» هو نفسه يعترف بأن ممثل السلطة الأجنبية ادّعى لنفسه التكلم باسم اللبنانيين، وأقام نفسه نائباً عنهم من غير أن يستفتيهم في هذه النيابة ومن غير أن ينتخبوه لها. وفي هذا إلغاء لنيابة «نواب الشعب». فهل هكذا تكون إرادة الشعب وهكذا يكون التعبير عن إرادة الشعب؟
6 ــــ إنّ السلطة الحقيقية التشريعية والتنفيذية بقيت في يد السلطة الأجنبية. فالمفوضية الفرنسية كانت تعلق «الدستور» اللبناني، كما كانت تعلق «الدستور» الشامي ساعة تشاء. ولو كان للشعب اللبناني سيادة حقيقية لما حدث شيء من ذلك ولم تجرّأ ممثل سلطة أجنبية على القبض على ممثلي الشعب ودوس حقوقه السياسية بجزمته العسكرية.
7 ــــ القول «إنّ فرنسة ستسهر على هذا الاستقلال» يعني أنّ أمر هذا «الاستقلال» في يد فرنسة وليس في يد الشعب في لبنان، فالشعوب التي يسهر غيرها على «استقلالها» هي شعوب غير مستقلة، وجميع الشعوب الواقعة تحت «حماية» شعوب أخرى هي شعوب غير مستقلة، بل مستعبدة. وهذه الحقيقة يعرفها جميع الأحرار، وكل شعب يتكلم باسمه ممثل سلطة أجنبية ويعلن مصيره هو شعب مستعبد باسم الوصاية والحماية «والسهر على استقلاله». وبمثل هذه الشعوذة التي تحقّر المدارك الإنسانية يظن ضحايا «حماية فرنسة لاستقلال لبنان» أنهم يفهمون الشؤون الحقوقية والسياسية الإنترناسيونية».
المضحك المبكي في السذّج، الذين يقبلون الشعوذة السياسية ويضعون الشعب الذي ينتسبون إليه في مصافّ الشعوب المنحطة التي لا تفهم الحقوق ولا السياسة، أنهم ينكرون على أبناء لبنان والشعب السوري قاطبة طلب استفتاء اللبنانيين في مصيرهم. وهم، لبساطتهم، يقولون «فلبنان والشعب اللبناني يرفضان بتاتاً هذه الفكرة». فهل يمكن معرفة ما يقبل الشعب اللبناني وما يرفضه بدون أخذ رأيه في استفتاء أو تصويت عام؟
قلنا، ونكرر القول للمكابرين في الحق، إنّ لبنان والشعب اللبناني ليسا ملكاً خاصاً لبعض اللبنانيين دون بعض، ولبعض المقامات الإكليريكية كالبطريركية المارونية ولا لغيرها من المقامات الدينية كدار الإفتاء أو غيرها، ولا يوجد في العلم السياسي وحقوق الشعوب هذه التعابير الصبيانية «أب وأبناء» فالشعب كله هو السيد المطلق على نفسه ووطنه. وما دام الشعب في لبنان لم يُستفتَ في أمر انفصاله و«استقلاله» الموهوم، فليس لأحد من أبناء لبنان أن يقول إنّ الشعب شاء هذه المهازل التي يجريها باسمه الأجانب والمتواطئون مع الأجانب لمصالح غريبة عن مصلحة الشعب في لبنان.
الدخلاء على لبنان هم الذين يرفضون استفتاءه وينكرون على مواطنيهم حقوقهم المدنية والسياسية بدعوى مضحكة من «الأب والأبناء». جميع الدساتير والقوانين في العالم المتمدن تعترف للبالغين سن الرشد بحق تقرير مصيرهم بمطلق إرادتهم. لا يجوز في هذا العصر، للأب أن يبيع ابنه أو بنته التي بلغت سن الرشد. ولا يمكن لأبٍ اليوم إكراه ابنه أو بنته على اتخاذ زوج لا رغبة له أو لها فيه. أما إنكار لبنان وعدم إنكاره فمسألة غير مثارة ولا موضوعة على بساط البحث. فكل من كان مسقط رأسه في جبل لبنان يفتخر بذلك ولا ينكره. وسورية كلها تفاخر بجبالها اللبنانية وجمالها. وجبران خليل جبران الذي هو من نوابغ لبنان ومن أرز لبنان ومن قح الموارنة (أو من اللبنانيين الأقحاح كما سمى الموارنة أحد نواب المجلس اللبناني) قال للمتلبننين المتواطئين مع الإرادة الأجنبية على تفريق وحدة الشعب السوري: «لكم لبنانكم ولي لبناني».
فيا أيها المواطنون الكرام الذين تريدون الانفصال، إننا نحترم حقوقكم المدنية والسياسية في لبنان وفي سورية كلها، التي تخوّلكم إبداء رأيكم في مصير وطنكم أو مصير جزء منه. ولكن إذا تجاوزتم حدودكم وتعديتم حقوقكم وجعلتم رأيكم في مقام إرادة الشعب كله، ضاربين بحقوق مواطنيكم المدنية والسياسية عرض الحائط ومنكرين على الشعب حق إبداء إرادته العامة، فنحن نصار حكم أنكم على ضلال.
إننا ننكر عليكم، والحق والواقع ينكران عليكم، التكلم باسم لبنان والشعب اللبناني. فلا لبنان ولا الشعب اللبناني خوّلكم حق التكلم باسمه. وإذا كان لبنان الأجنبي يحبذ دعواكم الباطلة فلبنان السوري الصميم ينبذها.
أيها المدّعون التكلم باسم لبنان والشعب اللبناني،
نضرع إليكم، جاثين على ركبنا ومبتهلين إلى قدرتكم الكلية، أن تكتبوا بالهيروغليفية أو المسمارية، حين تكتبون عن كيفية إعلان ممثل سلطة أجنبية إرادة شعب تحتل بلاده احتلالاً عسكرياً، وعن حقوق الأبوَّة والبنوَّة وغيرها من الحقوق المدنية والسياسية، لئلا تجلبوا عار جهلكم على شعبكم كله!