وفاة خائن جاسوس - الشيخ عزيز الهاشم


الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 54، 15/10/1942

بين الأخبار الواردة من الوطن في الثلاثة الأشهر الأخيرة خبر وصل إلى الأرجنتين بواسطة بعض الصحف السورية في أميركانية، ومحصّله أنّ المدعو الشيخ عزيز الهاشم قد مات بسبب مرض أصابه. وقد وصفه مراسل جريدة الضلال التي تسمى الهدى كما يأتي:
»كان رجلاً دمث الأخلاق لطيف المعشر كريم المحتد واسع الثقافة، عمل في القضاء مدة فكان القاضي النزيه، ثم تعاطى المحاماة فكان فيها قديراً، وأدلى بدلْوِه في السياسة فجاهد في سبيل ما كان يعتقده حقاً في مصلة البلاد».
ليس هذا الوصف الزخرفي متناولاً شيئاً من المسائل العمومية التي تدخّل فيها الموصوف وأظهر تدخّله فيها نوع أخلاقه ونياته وشخصيته، والرجل يستحق أكثر من هذه الكلمات الإخبارية القليلة. وإننا نفيه حقه. فهو قد مثل دوراً في شؤون سورية السياسية يجب أن لا يذهب بدون مغزى وعبرة.
درس عزيز الهاشم المحاماة في المدارس الفرنسية. ويترجح عندنا أنه زار فرنسة غير مرة. وألّف كتاباً بالفرنسية بحث فيه مسألة الانتداب على سورية، وظهر فيه بمظهر الوطني المدافع عن حقوق البلاد. عين قاضياً في لبنان ثم عزل ثم أخذ يظهر على مسرح السياسة بشكل «مجاهد» استقلالي وعدو للسيادة الأجنبية. فكان من مؤسسي حزب نشأ في بيروت وسمي «حزب الاستقلال الجمهوري» وترأس هذا الحزب كل المدة التي عاشها. وظل هذا شأنه أمام الناس حتى اتصل بالحزب السوري القومي الاجتماعي سنة 1935 فكان بذلك انفضاح أمره. وقد لعب دوراً هاماً في بعض القضايا التي أثيرت حول هذا الحزب القومي الدقيق النظام.
كان اتصال هذا الهاشم بالحزب السوري القومي بواسطة المدعو روفائيل أبو جودة والمدعو جان سرور اللذين كانا شريكين له في «حزب الاستقلال الجمهوري» وفي مسائل أخرى. وأمر هذا الاتصال ذو سلسلة روائية من المفيد سرد وقائعها بالاختصار:
في أوائل سنة 1935 كان الزعيم قد بدأ جهاز الاستخبارات في الحزب السوري القومي الاجتماعي. فابتدأ عدد من القوميين الاجتماعيين يمارسون الاستخبارات بشكل أولي لا فاعلية كبيرة له. ولكن بعض المراقبين أظهروا ذكاءً شديداً ووصلوا إلى معلومات هامة أوصلوها بكل أمانة إلى المراجع المختصة التي أدركت أهميتها وأحلتها المحل اللائق من العناية. بين هذه المعلومات المفيدة وجدت ملاحظات ذات بال تتعلق بشخص يدعى عزيز الهاشم الملقب بالشيخ.
في هذه الأثناء اتصل بالحزب السوري القومي الاجتماعي رجل يدعى روفائيل أبو جودة. وكان اتصاله بواسطة المدعو جورج حداد الخائن المطرود فيما بعد من الحزب. المعلومات عن هذا الشخص كانت قليلة ولكنها تدعو إلى التفكير. فقد بلغ الحزب عنه أنه لعب أدواراً مشبوهة في سياسة «جمعية السواقين». فهو ليس سائقاً بالأجرة، ولكنه يشتغل في مسائل السيارات وله علاقات مع ملاكي السيارات الذين هم خصوم السواقين. وإليه يعزى حبوط بعض مشاريع الإضراب أو الاعتصاب. وجاء في صدده أنه عضو عامل في «حزب الاستقلال الجمهوري» وأنّ له أخاً في دائرة التحري إسمه إدوار أبو جودة. فسمح الزعيم بإدخال روفائيل أبو جودة في الحزب وأمر بوضعه تحت المراقبة.
بعد حين رشّح روفائيل أبو جودة المدعو جان سرور لدخول الحزب السوري القومي الاجتماعي. وأبو جودة مدح جان سرور وأفاد عنه أنه خازن «حزب الاستقلال الجمهوري» ورشّح الإثنان المدعو عزيز الهاشم الملقب بالشيخ والمترأس الحزب المذكور لعضوية الحزب القومي الاجتماعي، فقُبِل، وبعد دخوله ألقى المحامي صلاح اللبكي كلمة ترحيب بالهاشم في اجتماع صغير جرى، على الأرجح، في منزل الرفيق الأستاذ زكي النقاش ناظر مدرسة «كلية المقاصد الخيرية الإسلامية» في بيروت.
بدخول المدعو عزيز الهاشم في الحزب السوري القومي الاجتماعي دخل في هذا الحزب أحد عمال إستخبارات المفوضية الفرنسية واستخبارات «المكتب الثاني» في أركان حرب «جيش اللونت» [Levant] الفرنسي. وهذا كاد يكون مؤكداً في مكتب استخبارات الحزب القومي الاجتماعي فلم يكن الهاشم مجهول الصفة حين دخوله في هذا الحزب.
ابتدأ عزيز الهاشم يشتغل للجاسوسية الفرنسية ضمن الحزب الحزب القومي الاجتماعي منذ بدء دخوله. ولكنه كان يشتغل من وراء الستار بواسطة شريكيه روفائيل أبو جودة وجان سرور. على أنّ حركات هؤلاء الثلاثة كانت تحت مراقبة دقيقة. وقد ظن كثيرون أنّ عزيز الهاشم هو الذي تمكن من إعطاء التفاصيل التي أدت إلى القبض على الزعيم وأركان إدارته في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1935. ولكن دوائر الحزب العليا لم تؤيد هذه الإشاعة لأن الخائن الذي فعل ذلك كان قد صار معروفاً في الدوائر المشار إليها واسمه لا يزال مكتوماً.
بيد أنّ عزيز الهاشم الذي لم ينجح في مهمته الأولى لأن خائناً آخر سبقه إليها تحوّل بكليته إلى المهمة الثانية التي نجح فيها في «حزب الاستقلال الجمهوري» الذي أنشىء لبلبلة الأذهان وقتل حيوية الشباب. هذه المهمة الثانية هي: إفساد الصفوف القومية الاجتماعية وسحق معنويات الحزب القومي الاجتماعي بالدسائس والإشاعات. فحاول أن يدخل في إدارة هذا الحزب العليا بعد اعتقال زعيم ورجال مجلس العمد، منتهزاً فرصة التضعضع الإداري الأول الذي عقب الاعتقالات. ولكنه أخفق. حينئذٍ رتب منهاج إشاعات لتسميم الرأي العام ضد الحزب، فانتظر خروج الزعيم من السجن لينشر في جريدة المساء لصاحبها المضروب عارف الغريب «تصريحات» عن «علاقة الحزب السوري القومي الاجتماعي بإيطالية وتسلُّم الزعيم أموالاً من هذه الدولة». كاد عزيز الهاشم ينجح في هذا المشروع. فقد أحدثت «تصريحاته» ضجة قوية في أوساط الشعب وأوجدت الشك في عدد من ضعفاء الإيمان المنضمين حديثاً إلى الحزب القومي الاجتماعي. فانحدر من زحلة نفر فيه سعيد عقل الشاعر والمدعو يوسف البحمدوني وغيرهما. وجاؤوا دار الزعيم في رأس بيروت لسؤاله عن صحة ما يدّعيه عزيز الهاشم. فأعطى الزعيم القادمين الإيضاحات التي وجدها لازمة فلم يكتفِ هذا «الوفد» وسأل أعضاؤه الزعيم إجراء مقابلة مع عزيز الهاشم.
كان ذلك صدمة مُرّة للزعيم وللإيمان القومي الاجتماعي ولمبدأ الثقة الذي هو من أهم عوامل قوة الحزب. ولكن الزعيم قَبِلَ اقتراح هؤلاء الأشخاص مبدئياً وكلفهم الاجتماع بصلاح لبكي للتداول في الأمر. وقد ظن الزعيم أنّ صلاح لبكي الذي ولاه نيابته أثناء سجنه يعرف كيف يصون حرمة الزعامة ويؤيد روح الثقة ويردع المشككين عن العمل المنحط عن مستوى المناقب القومية الاجتماعية. وعاد الأشخاص في اليوم التالي، يخبرون الزعيم أنهم قابلوا صلاح لبكي واتفقوا على إجراء المقابلة بين الزعيم وعزيز الهاشم. وكان الصواب أن يطلبوا محاكمة عزيز الهاشم ليأتي بالبيِّنة على ما يدّعي. ونظراً لضعف الثقة الموروث من تاريخ ماضٍ مشوب رأى الزعيم كظم ما في نفسه وقَبِلَ بإجراء المقابلة في فندق على ساحة البرج. وتمَّ الموعد مع الزعيم ومع عزيز الهاشم. وفي الموعد المعيّن توجه الزعيم بصحبة صلاح لبكي وسعيد عقل وواحد أو إثنان آخران من القوميين الاجتماعيين. ولكن عزيز الهاشم لم يطل. ومضى ربع ساعة على الموعد المضروب وذاك الهاشم توارى عن الأنظار. فطلب سعيد عقل السماح بالذهاب إلى بيته لجلبه فسمح له، وبعد نحو عشرين دقيقة أو أكثر عاد سعيد عقل يقول إنّ عزيز الهاشم ليس في بيته وإنه ترك خبراً بأنه «انشغل» فلم يستطع القيام بالوعد!
بعد عودة الزعيم إلى منزله في رأس بيروت انصرف سعيد عقل ومن جاء معه وصلاح لبكي لوضع بيان بما حدث ليذاع في الصحف. وقد وضع البيان ووقّعه سعيد عقل وصلاح لبكي ومن حضر وأثبت فيه تهرّب عزيز الهاشم من الموقف. على أنّ الزعيم أوقف إرساله إلى الصحف لأنه شهادة بضعف إيمان بعض القوميين الاجتماعيين ويدل على إمكان زعزعة الصفوف القومية الاجتماعية بالإشاعات الملفقة والدسائس السياسية.
لم يقف أمر عزيز الهاشم عند هذا الحد. ففي الاعتقالات الثانية التي تعرض لها الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكانت من قِبل حكومة «جمهورية لبنان»، تقدم المدعو عزيز الهاشم للشهادة أمام قاضي التحقيق الأول الأستاذ حسن قبلان عن علاقة الحزب بإيطالية وعمله لمصلحتها. فادّعى أمام القاضي المذكور أنّ الزعيم استدعاه فيمن استدعى من المحامين الذين تقدموا للدفاع ليطلب منه تبليغ النحات المعروف يوسف الحويك «سلامة الأوراق» السرية وأن ينقل ذلك إلى قنصل إيطالية. وادّعى أنه قابل يوسف الحويك قبل الذهاب إلى السجن بدعوة الزعيم وسأله هل له شيء يوصي به إلى الزعيم. فكلفه حمل كتاب إليه وأن يسأله عما يحتاج إليه من مال. وقال إنه بلّغ الزعيم سؤال يوسف الحويك وإنّ الزعيم طلب «عشرين ليرة سورية» فنقل الهاشم هذا الطلب إلى يوسف الحويك.
بناءً على هذه الشهادة استدعى المستنطق الزعيم من السجن وأجرى مقابلة قضائية بينه وبين عزيز الهاشم. وبعد تلاوة شهادة عزيز الهاشم سأل القاضي الزعيم جوابه عليها فأدلى ازعيم بمعلوماته، ومفادها أنّ عزيز الهاشم كان ينتظر مساعدة مالية من الحزب السوري القومي الاجتماعي لإسم «حزب الاستقلال الجمهوري» والمساعدة خمسون ليرة سورية لدفع أجار مركز الحزب المذكور. ونظراً لقلق الزعيم على الحركة القومية الاجتماعية من دسائس عزيز الهاشم استقدمه إلى السجن بصفة محامٍ عنه ليعلم نياته ويبطل مساعيه بالتوجيهات التي يعطيه إياها والتعليمات التي يلقيها إليه. فكان أول أمر أتاه عزيز الهاشم عند مقابلة الزعيم في السجن أنه طلب إليه إصدار أمره بدفع المبلغ الموعود «لحزب الاستقلال الجمهوري» فأنكر الزعيم هذا الطلب الغريب في هذه الظروف العصيبة التي يجتازها الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقال إنه لا يرى ظروف الحزب تساعده على تقديم المبلغ لعزيز الهاشم، وكان في نيّة الزعيم استبقاء «حزب الاستقلال الجمهوري» ومركزه وإدخال عدد من القوميين الاجتماعيين فيه سراً لأغراض سياسية معينة. فما كان من عزيز الهاشم، تجاه رفض الزعيم النظر في مطاليبه، إلا أن أخذ ينتقد إدارة الحزب القومي الاجتماعي القائمة بالعمل في تلك الظروف ويوجّه إليها اللوم، وأخذ يحسن للزعيم إسناد الإدارة إلى شريك الهاشم ومعاونه جان سرور. فأشار الزعيم إلى «رضاه» عن جان سرور ولكنه أظهر حداثة عهده في الحزب وعدم خبرته الإدارية، ووعد بالنظر في تقدمه في المستقبل. حينئذٍ وضع الهاشم أمام الزعيم مؤلفاً بالفرنسية وموضوعه الاستعمار في إفريقيا والنزاع الأوروبي عليه وقال إنّ يوسف الحويك كلفه إيصال هذا الكتاب إلى الزعيم ليتسلى به في السجن. وزاد أنّ الحويك كلفه سؤال الزعيم إذا كان يقدر أن يخدمه بشيء، وإذا كان يحتاج لساعدة مالية. فأجاب الزعيم أنه يشكر للفنان الحويك اهتمامه بأمره وذكر أنّ عليه ديناً قد يبلغ عشرين ليرة سورية ولكنه سيفيها بدون إزعاج أصدقائه. ونهض الزعيم على أثر هذا الجواب وودع الهاشم ودخل إلى محبسه وانصرف الهاشم.
دَوّنَ القاضي جواب الزعيم المتقدم على إفادة الهاشم المنكرة وسأل عزيز الهاشم هل صحيح أنه كان في نية الزعيم مساعدة «حزب الاستقلال الجمهوري» بمبلغ خمسين ليرة سورية فأجاب بالأيجاب، ولم يحاول إنكار أنه طلب هذا المبلغ في السجن، فسأله القاضي هل بلّغ يوسف الحويك ما ادّعى أنّ الزعيم يكلفه بطلبه أي بعشرين ليرة سورية. فأجاب الإيجاب. فسأله القاضي ماذا كان جواب الحويك؟ فأجاب الهاشم إنّ الحويك قال له: «سأرى إذا كان يمكن تدبير هذا المبلغ». هنا أسرع الزعيم ليقول هل هذا كان جواب الحويك، أم ما ادّعاه الهاشم قبل أنّ الحويك أكد له أنّ المبلغ سيصل. فصحح الهاشم قائلاً: إنّ الحويك أكد إيصال المبلغ. فسأله القاضي هل أوصل الحويك المبلغ إلى الزعيم؟ فقال إنه لا يعلم.
بهذه الأسئلة وأمثالها تبيّن للقاضي كذب الهاشم، وقال للزعيم إنّ جواب الهاشم الأول عما قاله له الحويك كان أقوى شهادة ضد الهاشم، لأن من يقول «سأرى إذا كان يمكن تدبير المبلغ» لا يكون على اتفاق لإيصال مبالغ مالية، ولكن تصحيح الهاشم لم يفده كثيراً إذ تبيّن كذبه بمراجعة كلامه وتبيّن اختلاقه، إذ إنّ الزعيم الذي يكون مديوناً بعشرين ليرة سورية ليس بالرجل الذي يتسلم أموالاً من دولة أجنبية، وإنّ العلاقة التي بلغ بسخافة الهاشم أن يحاول إيهام الناس أنه يمكن أن تُبنى بين زعيم نهضة وحركة سياسية ودولة أجنبية على عشرين ليرة سورية هي علاقة وهمية.
وذكر الزعيم فيما ذكر لقاضي التحقيق أنّ غير واحد من أصدقائه عرض عليه مساعدة مالية وغيرها ومن جملتهم الدكتور رئيف أبي اللمع، الذي أشرف مدة على حالة الزعيم الصحية، وأنه شكر الجميع ولم يقبل مساعدة أحد. فاستدعاه القاضي فشهد أنّ هذا الكلام صحيح.
بعد ذلك استعدى القاضي شريكي الهاشم روفائيل أبو جودة وجان سرور فزادت إفاداتهما شهادة الهاشم تناقضاً، وظهر كذبهما ونفاقهما. فغضب القاضي عليهما غضباً شديداً وصاح بهما «كفاكما ورئيسكما كذباً وخداعاً وشهادة زور، قبّح الله هذا اللؤم».
هذا كان آخر عهد الحزب السوري القومي الاجتماعي بعزيز الهاشم وزمرته. وكان الحزب القومي الاجتماعي يعلم أنّ جميع الوقائع الهامّة لجلسات إدارة «حزب الاستقلال الجمهوري» الذي كان الهاشم رئيسه كانت تصل في اليوم التالي إلى المفوضية الفرنسية بواسطة عزيز الهاشم نفسه. وكان أعضاء إدارة ذلك الحزب يبحثون عن الخائن أو الجاسوس ولا يدرون أنه رئيسهم «الوطني الكبير الشيخ عزيز الهاشم» الذي عزله الفرنسيون من القضاء ذراً للرماد في العيون وليستخدموه في ما هو أفضل لهم من القضاء!

 

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.