دروس قومية اجتماعية - معلومات وانتقادات واقتراحات


الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 59، 1/1/1943

عندما رأت الزوبعة أن تردَّ على ترهات صاحب جريدة السائح وتكشف القناع عن حقيقة ما صارت إليه تلك الحلقة التي عرفت باسم «الرابطة القلمية» في نيويورك لكي لا تظل جماعات كبيرة منخدعة بها، وكان ذلك أمراً ضرورياً جداً ليس فقط للنتيجة المباشرة، بل لما يمكن أن يتلوها من النتائج التي تكون النتيجة الأولى المباشرة تمهيداً ومقدمة لها، ورد على الإدارة كتابان من رفيقين متقدمين في الصفوف القومية فيهما ما يمكن أن يُعَدَّ فصلاً جديداً من فصول الحملة على هذه الأبحاث. وإلى القارىء ما ورد، في هذا الصدد في أحد هذين الكتابي:
«عندما بدأت الزوبعة بنشر الأبحاث القيّمة الأخيرة، التي أخذت فئة «الرابطة القلمية» مثالاً آخر لتجار الأدب السوري شعرت أنه من واجبي تقديم رأيــي الخاص وما أسمعه من الأوساط السورية عما يتعلق بهذه الأبحاث.
«وبديهي أنّ إعجابي بهذه الدروس لا يفوقه إعجاب ليس لأني صرت أفهم أنّ معظم أمراضنا الاجتماعية، وبالتالي السياسية، تعود أسبابها إلى هذه الفئة المنحوسة، فقط، بل لأني أؤمن إيماناً حياً بثقابة نظر الزعيم وسهره على المصلحة السورية وخبرته في معالجة الداء.
«وإذا قدمت رأيــي ونقلت أقوال سواي فما ذلك إلا لأني أعرف أنّ حضرة الزعيم يريد أن يعرف كيف تنزل هذه المقالات على مختلف طبقات شعبه فيعالج فيهم عدم الإدراك حتى يكون تفهمهم للأمور تاماً كما يلزم.
«أعود فأقول إنّ إعجابي بهذه الدروس لا يناله وصف، ومقدرة حضرة الزعيم على استخراج العبر، حتى من الأمور التي ظاهرها بسيط، تجعلني أن أقول ويل لمن لا يفهم سعاده وطوباك يا سورية إذا تفهّم بنوك تعاليم سعاده وعملوا بها.
«لكن ما أشعر به، يا زعيمي، هو أنّ هذه الأبحاث المتتابعة أظهرت الكثير من أمراضنا وصرنا نكاد لا نرى من سورية غير وجهها العليل. أفليس لسورية وجه حي؟ أين هو وكيف نراه؟
«نحن نعلم ونؤمن أنّ رسالة سعاده هي رسالة بنيان وحياة لا رسالة هدم وموت. ومع علمنا أنه لا يقوم جديد موضع قديم دون دكّ هذا، نشعر أنه من الأحسن أيضاً أن نتحدث عن البنيان الجديد، القائم على أساس لا تدكه هستيرية «القروي» ولا بلاهة الحداد، ولا سفالة وانحطاط أبي ماضي.
«لقد قال لي أحدهم ــــ «إذا كان الشعب السوري كله على هذا النمط، والظاهر أنه كذلك، فماذا ترجون من هذه الأمة وأي مستقبل تنشدون لها؟ ألستم تقتلون أوقاتكم بدون أمل ورجاء؟».
«وأنا أشعر أنّ الأمة ليست كلها «على هذا النمط» وأنّ في النهضة القومية براهين متعددة على ذلك. لكن أين هذه البراهين والحوادث والجماهير من الشباب الحي الناهض لا نقدمها للمهاجرين حتى نبعث فيهم الأمل بمستقبل أمتهم. لماذا لا نعطيهم من صور الحياة السورية ما يحبّب إليهم الحياة السورية؟
«إنّ آخر ما طلع به «المعتدلون» هو أنّ مبادىء سعاده ممتازة، وشخصية سعاده ممتازة، وتنظيم سعاده ممتاز، وإخلاص سعاده وتضحيته وسعيه لا غبار عليه، لكن الشعب لا أمل فيه. وبعض هؤلاء العلاكين يستشهد بأقوال الزوبعة لأنهم لا يرون في الشعب السوري غير الفئة المنحطة التي تحاربها الزوبعة.
«من بإمكانه أن يتحدث للسوريين عن نهضة سورية القومية ويذكر لهم الحوادث والأسماء أكثر من الزوبعة؟ من بإمكانه أن يدل المهاجرين على نبض سورية وقلبها وعقلها غير الزوبعة؟ لماذا لا نقدم لهم أكثر من هذه الأبحاث والدروس والصور؟ «هذا رأيــي وبعض ما أسمعه في الأوساط السورية أقدمه بعامل الإخلاص فقط ليكون زعيمي مطّلعاً على كل شيء. وإذا كنت غلطاناً فإني من كل قلبي أحب أن لا أبقى على غلطي».
لو لم يكن هذا الكتاب من أحد المسؤولين عن بعض الفروع والذين يُنتظر من روحيتهم شيء فعليّ لتقدم الحركة لكان الأرجح أن يكون الزعيم قابله بتلك الابتسامة الهادئة المحيرة التي وصفها وصفاً جيداً صاحب الصحافي التائه [إسكندر الرياشي] في سلسلة المقالات الروائية التي نشرها في جريدته في بيروت على أثر ظهور أمر الحزب السوري القومي، وأجاب عليه مثنياً على روحية الكاتب ودقة نظره ومعتذراً عن تطويله في الأمور التي انتقدها الكاتب بهذا الأسلوب اللطيف.
ولولا طول أناة الزعيم، والكتاب من أحد المسؤولين، لكان الأرجح أن يكون جوابه هكذا:
«حضرة الرفيق والصديق المحترم
«إني أشعر أنّ الإدارة الإذاعية وغيرها من الشؤون، كالمسائل النفسية العامة والعملية، أصبحت تحتاج لمقدرة فوق مقدرتي ولنظر أبعد من نظري، فأقترح عليكم، أن تختاروا مديراً لهذه الأمور يحل محلي. متعهداً لكم وله أني أجعل فكري وقلمي رهن إشارته وأن أتفرغ لجميع الأعمال الكتابية التي يكلفني القيام بها على قدر ما تترك لي أعمالي المعاشية من الوقت للقيام به. فأكتب في كل موضوع يأتيني أمر أو توجيه للكتابة فيه. وأقبل تعيين عدد المقالات التي يجب أن تكتب في كل موضوع، ولا أتدخل في شيء من أمور الطباعة والنشر والتوزيع، ولا أحمل شيئاً من مسؤولية النتائج والعواقب الناتجة عن سياسة الإدارة الإذاعية، وأتحمل تجاه المراجع العليا مسؤولية كل عبارة أكتبها وأقبل كل تعديل تشير به هذه المراجع. فإذا لاقى اقتراحي هذا قبولاً عاماً كنت سعيداً بالرضى العام عني وبارتياح ضميري لعلم الصالح للقضية. وتفضلوا بقبول جزيل احترامي وسلامي. ولتحيــى سورية».
لكن الزعيم لم يعمل بأحد الوجهين وكتب إلى المسؤول صاحب الكتاب لافتاً نظره إلى واجباته المهملة وإلى أغلاطه النظرية، متحملاً بصبر هذه الجهود الإضافية التي يكلفه إياها الرفقاء، وسببها عدم إحاطتهم بالموضوع، وقلة اختبارهم في الأعمال النظامية، وعدم إلمامهم بشيء من أشياء «المتدلوجية» والتنظيم في الحركات العمومية.
وإننا نعود إلى هذه النقاط ونعالجها من جديد ونشرحها على صفحات الزوبعة، لتكون دروساً نظرية وعملية مفيدة ولاكتساب الوقت، فلا نعود إلى كتابة كتب خصوصية في هذه المسائل، تستغرق مثل المجهود الذي يقتضيه إنشاء مقالات الزوبعة ويكون فيه إرهاق لقوى فرد واحد يقوم بأعمال لا يمكن ولا يفيد الفائدة اللازمة أن يقوم بها فرد واحد.
في الدرس المنشور، في العدد السابق، إشارة إلى سوء نتائج صرف وقت طويل وجهود كثيرة في هذه المراسلات الخصوصية في مسائل يجب أن يترك النظر فيها لصاحب الشأن الأعلى. ولكن الرفقاء المراسلين يكلفون الزعيم شرح خططه ونظرياته لهم تكليفاً. فعبارة صاحب الكتاب الذي أثبتنا منه الفقرات المتقدمة «وإذا كنت غلطاناً فإني من كل قلبي أحب أن لا أبقى على غلطي» توجه إلى الزعيم دعوة للجواب على رأي الكاتب وانتقاداته الموضوعة في قلب تساؤل. وفي كتاب آخر للكاتب نفسه يتحدث المراسل عن صديق ورفيق له يرى رأيه في هذه المسائل أنه قال له: «إنّ حضرة الزعيم يرى ما لا نراه في هذه الأمور ولا شك في أنه سيشرح لنا نظريته».
إذاً الرفيقان المكاتبان يعتقدان أنّ الزعيم يرى ما لا يريانه هما في هذه الأمور، فلماذا هذه المناقشة الحارة والمطالبة المستعجلة بالشروح والتفاصيل لهما، من غير نظر في الظروف الحرجة المحيطة بمكتب الزعيم الخالي من نواميس وكتبة تتوزع عليهم الأعمال الكثيرة الواجب القيام بها لسير الحركة؟
نفترض أنه يوجد في البرازيل ستة أو ثمانية أشخاص من نوع هذين الرفيقين، يحبّون أن يبدي لهم الزعيم رأيه ويشرح نظرياته في كتاباته وخططه وسياسته، وأنه يوجد مثل هؤلاء أربعة في الأرجنتين، وثلاثة في شيلي، وخمسة في المكسيك، وستة في الولايات المتحدة، وواحد في الإكوادور، وواحد في جزائر الكنار، يريدون مراجعة الزعيم ومناقشته في الشؤون الإذاعية أو غيرها، مما هو من صلاحيات المراجع العليا، فكم هو العبء الذي يلقى على دماغ الزعيم المعروف عنه أنه غير بخيل في الكتابة إلى رفقائه؟ هذا فضلاً عن طائفة المكاتبات الخصوصية التي ترد الزعيم في شؤون ومسائل أخرى، وفضلاً عن الرسائل الإدارية والمقابلات الشخصية التي يجب أن يتسع لها وقته، وفضلاً عن إنشاء الزوبعة وإدارتها عملياً وغير ذلك كثير من المسائل التي يزحم بعضها بعضاً في مكتب الزعيم.
نعود إلى الفقرات التي نقلناها من كتاب المراسل المسؤول. فبينما الكاتب يضع شكوكه في صوب اهتمام الزوبعة بأمر «الرابطة القلمية» وانتقاداته لنهج الزوبعة الإذاعي في شكل «معلومات» لا يتمالك من حض الزوبعة على تغيير نهجها وإعطائها التوجيهات التي يحسن بها العمل وفاقاً لها. والواضح من مجمل آراء صاحب الكتاب أنه لم يستصوب إيضاح الزوبعة حالة «الرابطة القلمية» في نيويورك وأنه يظن أنّ من الواجب عليه تنبيه الزعيم إلى هذا الغلط ولفت نظره إلى مبلغ الحاجة إلى الأبحاث التي تكشف عن عظمة مستقبل سورية في الحركة السورية القومية الاجتماعية. والظاهر أنّ الكاتب لا يريد أن يكلف نفسه حساب أنه لا بدّ أن تكون عند الزعيم أسباب موجبة، وأنه إذا كان الأمر كذلك فمبدأ الثقة والروحية القومية العالية يوجبان عدم تعكير خطط الزعيم بكثرة الأسئلة. أما المعلومات فليست هذه طريقة إيرادها. فالشيء الوحيد، من باب المعلومات، الذي ورد في الفقرات المثبتة آنفاً هو قول «أحدهم» «إذا كان الشعب السوري كله على هذا النمط، والظاهر أنه كذلك، فماذا ترجون من هذه الأمة وأي مستقبل تنشدون لها؟ ألستم تقتلون أوقاتكم بدون أمل ورجاء؟» وهو وارد في معرض الاستشهاد على صحة رأي صاحب الكتاب في ما كان الأفضل أن تعنى به الزوبعة من الأبحاث.
في رأي إدارة الزوبعة، من حيث هي مؤسسة مهمتها ليست منحصرة في تقديم الإنتاج الفكري القومي الاجتماعي وأخبار الحركة القومية الاجتماعية، بل تتعداها إلى «شق الطريق للفكر القومي الاجتماعي وإزالة الحواجز القائمة بين هذا الفكر والشعب». إنّ الكاتب ليس على صواب في رأيه، لا نظامياً ولا فكرياً.
لو تمعّن المنتقد في الحركة القومية الاجتماعية كلها وكيفية نشوئها وتغلبها على الصعوبات وحقق في خطتها، لوجد أنّ السبب الرئيسي، في كل ذلك، عائد إلى هذه الحقيقة الواقعية التي أصبحت قاعدة ــــ إنّ نظريات الزعيم وخططه، فضلاً عن تعاليمه، كنت كلها مخالفة لما كان منتظراً ومقبولاً أو معقولاً عند غيره فجاءت نتائج تلك النظريات والخطط فوق ما كان منتظراً ومعقولاً. وهذا برهان كافٍ لتأييد رأينا أنه كان الأفضل للمنتقدين والمجادلين لو اكتفوا بأخذ النتائج والاستفادة منها لتقوية الحركة، بدلاً من التوجه إلى الزعيم بهذه الروحية المشككة، التي ليست روحية الجندي تجاه القائد، ولا روحية التلميذ تجاه المعلم، والتي تكاد تقلل ثقة الزعيم بالعناصر العاملة معه وتكاد تثبط عزيمته.
إنّ من يقول: «إني أؤمن إيماناً حياً بثقابة نظر الزعيم وسهره على المصلحة السورية وخبرته في معالجة الداء» لا ينتظر منه أن يبدي فيما يلي من كلامه هذه الشكوك، بل ينتظر منه أن تكون ثقته غير متزعزعة، وأن يعلم أنه لا بدّ أن يجيء بعد الدك والهدم البناء والتشييد. أما متى يكون ذلك وبعد كم درس وكم مقالة فأمر يتعلق بالتقديرات التي هي عند الزعيم شيء وعند غيره شيء آخر؟ وما هي الضرورة الملحّة للعجلة في إنشاء الأبحاث الأساسية عن الحلول الاجتماعية والاقتصادية التي تقدمها النهضة؟ هل يظن الكاتب أنه لو نشر الزعيم سلسلة مقالات، نفترض أنها عشرون أو خمسون مقالة، لَبَعثَ في المهاجرين الأمل بمستقبل أمتهم ونهضوا يؤيدونها ويعززونها روحياً ومادياً، ويتبرعون لها بالأموال حتى تفوق ما يتزلفون به من المبالغ المالية إلى دول مهاجرهم، فتنشأ مؤسسات الإذاعة العديدة بمختلف اللغات، وتتعين المقادير المالية لتغطية نفقات السفراء والوفود والسعاة، وتفتح الاعتمادات الكبيرة لمختلف أنواع التجهيز، ويتمكن الزعيم من تحويل كل قواه إلى المسائل السياسية الكبرى، في هذه الظروف المليئة بالصعوبات وبالممكنات، ويجهّز مكتبه بالنواميس والكتبة، ويتمكن من تنظيم المؤتمرات في المهجر لوضع أفضل البرامج العملية والقيام بأعظم المساعي للاستفادة من الظروف ووضع القضية السورية في المساق الإنترناسيوني؟
ألا يظن الكاتب الانتقادي أنه بعد أن يكتب الزعيم خمسين مقالة في المسائل الاجتماعية والاقتصادية سيسمع «أحدهم» يقول ــــ «الآن شبعنا من حلولكم الاجتماعية والاقتصادية فأخبرونا عن نظرياتكم الحربية. وبعد كتابة خمسين مقالة في النظريات الحربية يقول «أحدهم» ــــ «هاتوا الآن ما عندكم من الوجه السياسي»، وبعد كتابة عدد من المقالات يقول «أحدهم» «أخبرونا الآن عن تجهيزاتكم الكيموية»، ثم يأتي «أحدهم» قائلاً ــــ «وما هي نظرياتكم في الفلك وفي تأثير الأشعة الكونية على الأجسام ونموها»، ثم يذهب «أحدهم» ويجيء «أحدهم» قائلاً ــــ «ما الفائدة من جميع هذه النظام البديع وتوحيد هذه المواهب السورية الكبيرة وبريطانية وأميركانية ستعطيان سورية لليهود إذا ربحتا الحرب. وإذا لم تربحا وانتصرت ألمانية وإيطالية فلا شك أنّ مصير سورية سيكون في قبضة إيطالية أو إيطالية وألمانية معاً؟».
ألم يسمع الناس أنّ للزعيم مؤلفاً هاماً اسمه نشوء الأمم فهل يهتمون بالاطلاع عليه؟ ألم يقرأ المهاجرون في سورية الجديدة وفي الزوبعة من الأبحاث والحوادث الباعثة الأمل ما كان يكفي قليل من مثله لتحريك حتى اليهود؟ وإذا كان «أحدهم» ميت الوجدان وعديم النخوة وفاقداً قوة التمييز إلى حد أنه لا يدرك أنّ وجود حركة جديدة آخذة في هدم نفسية قديمة عامة بكاملها هو في حد ذاته، دليل قاطع على أنّ الأمة ليست «كلها على هذا النمط» وأنّ فيها روحاً جديداً يريد أن يقضي على هذا النمط الزري.
ألم يكن الأجدر بمنتقد الزوبعة أن يقول لذلك «الأحدهم» ــــ «حطِّط عن جحشك» ودع الشعب والحكم على الشعب لمن له ذلك وأجب عن نفسك أأنت ميت أم حي؟ مع الأحياء أنت أم مع الأموات؟» بدلاً من أخذ قول ذلك «الأحدهم» حجة على مواضيع الزوبعة؟
إنّ تغيير عقلية شعب أو مجموع من شعب لا يكون بترك بعض المواضيع والاهتمام بمواضيع أخرى في جريدة تصدر مرتين في الشهر فقط، يكتب فيها صاحبها وكاتب آخر، وتأتيها كتابات شعبية بين الفينة والفينة. إنّ تغيير عقلية شعب هو عملية طويلة. وفي المنظمات يجب أن تكون المعالجة منظمة، فمتى رأت الإدارة العليا وجوب هدم حاجز وجب على كل عضو من أعضاء المنظمة القيام بنصيبه من عملية الهدم ليتم ذلك سريعاً ويكون كاملاً لا قيام له بعده. ومتى رأت الإدارة العليا أنه يجب بناء جدار أو حاجز وجب على كل عضو أن يقوم بنصيبه من عمل البناء، فواحد يأتي بالطين أو السمنت وآخر يأتي بالحديد وغيره يقتلع الحجارة وغيره يقطعها وغيره يشذبها وغيره ينحت أطرافها وغيره يجر العربة وآخر يرفع الأثقال وآخر يقدم الطعام، وكل ذلك بنظام في خطة مرسومة. أما أن يقوم فرد واحد بالتخطيط وبالهدم وبالتعمير والآخرون يساعدونه بالآراء والانتقادات والنصائح والتمنيات، بينما المعاكسون يهاجمون ذلك الفرد ويرمونه بالافتراءات ويطعنون فيه عند مئات من الناس يصغون السمع لأولئك المعاكسين، فافتراض صادر عن عقلية يجب أن تتغير بعد لتصبح أصلح للقيام بنصيبها من النهضة.
وإنّ نفسية المهاجرين لا تتغير بسرعة بمقالات فيها براهين وحوادث وجماهير من الشباب الحي الناهض البعيد في الوطن. فهذه المقالات قد قرأوا عشرات منها ومروا بها ونسوها. ولكن معدل السرعة يمكن أن يزيد بما يظهره القوميون، وخصوصاً المسؤولون من نشاط في محاربة الدعاوات الفاسدة في أوساطهم، وفي لمّ شمل القوميين الاجتماعيين والتذاكر والتناقش في الدروس التي أعطيت في مناسبات كثيرة، لترسخ في الأذهان وتتحول إلى قوة مقنعة.
أما الزعيم، صاحب الدعوة ومؤسس التعاليم، فقد أعطى حتى الآن أشياء أساسية كافية لقيام النهضة، بدليل أنها قامت عليها. وهو ليس للمهاجرين فقط وإن يكن الآن موجوداً في المهجر بحكم الظروف الغالبة، بل لجميع الشعب. ليس للجيل الحاضر فقط، بل للأجيال المقبلة أيضاً. وعمله الفكري يجب أن لا يكون إلا ضمن هذه النظرة. وفي الشؤون الحاضرة يجب أن يكون عمله في المسائل والقضايا الكبرى المتعلقة بمصير النهضة والشعب. فما يكتبه الزعيم يجب أن يكون في المسائل الأساسية وكتابة ذلك في جريدة ليس كطبعه في كتاب وتوزيعه بعشرات الألوف. ثم إنّ الكتابة في المواضيع الأساسية لا يمكن أن تجري في هذا الجو المشوش المضطرب الذي لا استقرار فيه لا مادياً ولا روحياً. وحين انصراف الزعيم إلى المسائل الكبرى والقضايا الحيوية يجب أن يعوّل على صحيفة أخرى وعدد من الكتّاب على الأقل يعنون بمقاومة معكري الماء ومفسد الشعب.
إنّ الكتاب الأول من نشوء الأمم ألّفه الزعيم في فترة السجن. وهو بين أيدي الناس يعمل عمله في تغيير العقلية العامة والنظرة إلى الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وكان الزعيم قد أعد الملاحظات الرئيسية لكتابه الثاني في نشوء الأمم وهو المختص «بنشوء الأمة السورية» وقد سرقت هذه الملاحظات والمراجع من سجل دعوى الحزب في المحكمة، أفيظن المنتقد أنه من السهل الوصول إلى مجموعة الحقائق والملاحظات للعودة إلى تأليف الكتاب الثاني الذي تدعو إليه حاجة عظيمة، وأنه يمكن الزعيم العمل في هذا الكتاب وهو مرهق بالأعمال. ولم يوجد من يكفيه مؤونة الرد على ترهات أصحاب «الرابطة القلمية» ولا صحف ولا كتاب للعناية بشؤون الشعب وبالمعارك السياسية وتحطيم الخصوم بينما الزعيم منصرف بكليته، في جو مريح، لمعالجة القضايا الكبرى والنظر في المسائل الأساسية وتهيئة الأبحاث التي يمكن أن تتناولها الأجيال فتغيّر نفسية الشعب وترقيها جيلاً بعد جيل.
هل سأل المنتقد نفسه ــــ كيف يعيش زعيمي، وكيف يعمل، وكيف يمكن أن يعطي شعبه كل ما يريد إعطاءه، وما هي واجباتنا لتسهيل عمل الزعيم ومساعدته على تنفيذ خطته؟
هذه الأسئلة هي التي يجب أن تمر في مخيلة من «يؤمن إيماناً حياً بثقابة نظر الزعيم»، وتوجيه الجهود في هذه الناحية هو أكبر مساعدة فاهمة يمكن أن يقدمها الموظف أو العضو البسيط للزعيم في خططه وعمله، تدميرية كانت أو تعميرية. هذا ما ينتظر أن يشعر به من يقول ــــ «ويل لمن لا يفهم سعاده وطوباك يا سورية إذا تفهّم بنوك تعاليم سعاده وعملوا بها». ولكن يظهر أنّ كل هذا الإيمان العظيم تزعزع لدى جمود اللامبالين وسفسطة السفسطائيين حتى صار الزعيم يحتاج لتوجيهات تدله على أنّ لسورية وجهاً آخر، وأنه يحسن إظهار هذا الوجه وترك الأبحاث المتتابعة التي أظهرت الكثير من أمراضنا!
من هو الذي أكد للمتسائل المنتقد أنّ الزعيم لا يريد أن يهتم إلا بهذه الأبحاث. وإذا كان الزعيم يريد أن يطرق مواضيع أخرى يحتاج لها القوميون الاجتماعيون وبقية الشعب، فهل يحتاج لتوجيه بعض الرفقاء وإرشاداتهم ليقوم بذلك؟ ألم يرَ المنتقد كيف ابتدأت سلسلة مقالات جنون الخلود وكيف انتهت؟ ألم تبتدىء تلك السلسلة بشكل حملة تهديمية للمكانة الأدبية الزائفة ظن جميع الذين لا يعرفون طبيعة تفكير هاني بعل أنها ستقف عند حد التهديم، حتى لقد وردت كتابات تقول قد طال البحث والناس يتساءلون متى ينتهي؟ ثم ألم يحدث الانتقال الذي لم يكن ينتظره أحد من التهديم إلى التنظيف والتخطيط والبناء، فإذا هناك بحث فلسفي اجتماعي أجمع المتنورون والمفكرون على أنه أشد ما تحتاج إليه الأمة لتخرج من تخبطها النفسي والاجتماعي والسياسي، ووردت الزعيم تمنيات كثيرة بالتبرع لطبعه وكادت تصير هذه التمنيات مشروعاً عملياً، حتى إذا طلب تحويل هذا المشروع إلى مشروع آخر أعظم فائدة لأنه يسهل زيادة المعلومات والأخبار والأبحاث عن النهضة القومية الاجتماعية ويمكن من طبع كتب كثيرة في المستقبل، وهو ما يتمناه على الزعيم صاحب الانتقاد التوجيهي على أبحاث الزوبعة، وقف كل شيء بانتظار تطور ظروف الحرب ولا يزال واقفاً. ونعني بهذا المشروع الآخر مشروع إنشاء مطبعة خاصة بالزوبعة ليزداد صدورها ويضاف إليها بعض المنشئين الذين يعهد إليهم ببعض المواضيع والأبحاث الفرعية ليبقى لرئاسة الإنشاء الاهتمام بالمواضيع الرئيسية.
إنه لمن أسهل الأمور الاتجاه نحو الزعيم بالمطاليب الكثيرة، التي لا تُحصى، كلما حدث نقص أو تقصير أو شلل في وسط من أوساط الحركة في المغترب. ولكن هذه المطاليب البعيدة عن الوضع وعن اللازم لا تسبب غير التشويش والإزعاج وألم النفس وزعزعة الثقة وسوء التفاهم، لأنها ليست في محلها وغير متفقة مع النظام ولا مع روحية النظام القومي الاجتماعي. إنّ المسؤولين والمهتمين في الحزب السوري القومي الاجتماعي يتعرضون لسماع سفسطات وتمنيات كثيرة. فيجب أن يكون لهم مبلغ كافٍ من متانة الأخلاق والرصانة لاستبقاء رباطة الجأش والثقة برسوخ خطط الزعامة وانتظار النتائج باطمئنان وهدوء أعصاب، وإلا جلبوا على الحزب والقضية أضراراً كثيرة لا يمكنهم تقديرها، ولات ساعة مندم.
منذ نحو سنتين ونيف كتب الأمين فخري معلوف، بعد وصوله إلى أميركانية ببضعة أشهر، إلى الزعيم يقول ما خلاصته.
«إني سأضع الاهتمام بتقوية مكتب الزعيم وتعزيزه في صدر أعمالي الحزبية في المغترب، لأن مكتب الزعيم هو مصدر التوجيهات ومدار الحركة كلها، وبتقوية تقوى الحركة ويزداد تأثيرها على الرأي العام».
والأمين الدكتور فخري معلوف هو الآن في مقدمة نوابغ الحركة السورية القومية الاجتماعية ونوابغ الأمة السورية قاطبة. ونظراً لمعرفته مقدرة الزعيم وفهمه طريقة تخطيطه وعمله، ولإدراكه أهمية الأبحاث والمواضيع ومبلغ تعقدها، ولرسوخ روحية النظام فيه لم يرَ أن يقلق راحة زعيمه بالاقتراحات والتوجيهات التكنية. فهو يعلم أنّ زعيمه لا يحتاج لهذه الأمور، وأنه مصدر التوجيهات جميعها. وكل ما اقترحه الأمين معلوف كان تحويل الزوبعة إلى مجلة، لأنه يقدّر لهذه انتشاراً أكثر في الولايات المتحدة، فضلاً عن أهمية أبحاث المجلة للحركة وتقدمها الفكري. ولم تصدر منه انتقادات ولا رغبات يعرضها على الزعيم، ليس لأنه يخشى مقام الزعامة، ولا لأنه يظن أنّ الزعيم لا يلتفت إلى هذه الأمور ولا يعتني بها، بل لأنه يثق بمقدرة الزعيم على فهم الموقف وإعطاء ما يقتضيه من العلاج.
لم يتمكن الأمين الدكتور فخري معلوف من تنفيذ عزمه على تقوية مكتب الزعيم وإمداده بالمال بسبب اضطراره لصرف كل عنايته إلى دروسه الفلسفية التي لم تقف عند أخذ رتبة معلم علوم في الفلسفة. كما كان القصد الأولى، بل تعدت ذلك إلى الدكترة في الفلسفة، ثم إلى التخصص وراء الدكترة وكل ذلك نظراً للتقدير الكبير الذي حازه الأمين معلوف في الدوائر العلمية الأميركانية وسهّل له الارتقاء في علومه. فيا ليت المسؤولين الجدد يتخذون قدوة من كبار رجال الحركة القومية الاجتماعية ويشاورونهم في ما يرون اقتراحه على الزعيم، أو على بعض إدارات الحزب العليا، لخير الحركة. وليثق هؤلاء وجميع المهتمين أنّ النظريات البسيطة الواردة في اقتراحاتهم وتوجيهاتهم لا يمكن أن تفوت الزعيم، وإذا كان الزعيم لا يعمل بها فلأن له رأياً آخر ليس من الضروري تكليفه شرحه، لأن ذلك، كما يراه الزعيم بكل دقته وتفاصيله، أمر يطول تفصيله ويستغرق مجلداً ضخماً، على الأقل. فلْيُعْنَ كل ذي شأن بشأنه في هذه الظروف، ولا يظنّن أنّ إدارة حركة كالحركة القومية الاجتماعية، أمر بسيط بهذا المقدار، حتى أنّ كل ذكي متنور يقدر على التدخل فيه وإعطاء رأيه وطلب تفصيل أسباب عدم قبوله أو عدم العمل به.
نحن نعتقد أنّ الزعيم يعرف ما تحتاجه نفسية المغتربين، وما يلزم لبناء أخلاق ومناقب جديدة فيهم، إذا كان ذلك ممكناً في جميعهم، وإلا ففي القسم القابل التجديد منهم، أما الباقون فليهتموا بعضهم ببعض.

 

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.