الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 60، 15/2/1943
تتناول الزوبعة، في سلسلة الدروس القومية الاجتماعية التي ابتدأت إعلانها منذ مدة، الشؤون المختصة بالشعب السوري عامة وقضاياه العامة والخاصة، والشؤون المختصة بالحركة السورية القومية الاجتماعية خاصة، وقضاياها العامة والخاصة.
تعلم إدارة الزوبعة أنّ قضايا الحزب كان يجب أن تعالج في نشرة خصوصية توزع في داخلية الحزب لتبقى لها صفتها الداخلية. ولكن لمّا لم تكن هذه النشرة موجودة، ولم يكن منتظراً إحداثها قريباً في المغترب لما يقتضيه ذلك من نفقات، لم يكن بد من العرض لهذه القضايا المستعجلة في الزوبعة لكي لا يحرم القوميون وغير القوميين فوائد الدروس الناتجة عنها.
المسألة التي نعرض لها اليوم هي مسألة عقلية شائعة يمثّلها بعض الأفراد الذين حين يدخلون الحزب السوري القومي الاجتماعي يتوهمون أنّ أعظم القضايا سَتُقْضى بسرعة البرق فلا تمضي بضعة أشهر حتى يروا حوادث عظيمة تجري أمام أعينهم فلا يغمضونها ويفتحونها مرة، حتى يتحققوا أنّ الحالة السياسية أو الاجتماعية أو الحربية قد تغيرت تماماً.
من هؤلاء الأفراد عدد غير قليل يجهل جهلاً تاماً الحالة العامة ومتطلباتها وشؤون التنظيم وصعوباته ومقتضياته، ولا يحسنون غير الكلام والتعليق والانتقاد والاعتراض على المقررات والسفسطة بكل ضروبها. إنهم قد تعوّدوا هذه الخصال السيئة في بيئة الفوضى والتقلقل وعهد الانحلال النظامي. ولعدم تأدبهم في أي أمر من الأمور الاجتماعية أصبحوا يظنون أنّ طبيعة الأمور الاجتماعية والسياسية هي الفوضى، فكل محاولة تأديب نظامي وإخضاع للنظام تُعَدّ عندهم محاولة طغيان وحرمان لهم من آرائهم وحقوقهم. وإذا قيل لهم، مثلاً، إنه لا يجوز للأفراد التدخل في شؤون الإدارة العليا قالوا: هه! هل نحن هنا لنساق سوقاً ولا يكون لنا من الأمر شيء؟
هذه نتيجة الفوضى التي عاشوا فيها والجهل بالأنظمة الاجتماعية وبقيام الأمم وعلاقة الصلاحيات بالمسؤولية. فهم يجهلون أنه متى فوّض الشعب الأمر أو السلطة إلى فرد أو مجلس، دائماً كان أو لمدة معينة، امتنع على ا لأفراد الذين لم يفوِّض إليهم الشعب شيئاً التدخل في أي شأن من الشؤون والأعمال المتعلقة بصلاحيات صاحب السلطة. ويجهلون أيضاً أنّ الوظائف لها حدود لا تتجاوزها، وأنّ الأوامر الإدارية العليا الصادرة وفاقاً للقانون لا يمكن للمأمورين منعها أو توقيفها أو إلغاءها من تلقاء أنفسهم. هم يجهلون أنّ أي تصرف من هذا النوع الشاذ هو تمرّد على إرادة المجموع التي يقوم بها النظام واحتقار لهذه الإرادة. فإذا خاطبوا الزعيم، مثلاً، لم يخطر لهم أنهم يخاطبون الحزب السوري القومي الاجتماعي كله باعتبار أنّ الزعيم «قائد قواته الأعلى ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية». إنّ فكرة النظام وقواعده بعيدة جداً عن أفهامهم. ولذلك يتوهمون أنّ الزعيم ليس سوى فرد مثلهم، فإذا تدخلوا في شؤون عمله فإنما هم يتدخلون في شؤون فرد ويجب أن لا يصعب على هذا الفرد أن يتدخل أي من شاء في خططه وتدابيره ومراسيمه وقراراته، ولا يهمهم أن يفهموا أنّ وراء هذا الفرد شخصية الحزب العامة وإرادته، وأنه ليس وراءهم هم غير شؤونهم الفردية الخصوصية، وأنه ليحق لهم التدخل في شؤون الزعامة يجب أن يحصلوا على تفويض حزبي عام بذلك.
هذه حالة فاشية في الجيل السوري الحاضر بسبب انتشار الفوضى فيه أجيالاً متعاقبة بلا انقطاع. والحزب السوري القومي الاجتماعي ورث هذه الحالة التي يعالجها بنظامه وتأديبه. والنظام بطبيعته قاس وشديد، وإلا بطل أن يكون نظاماً. إنه قواعد مقررة لتسيير المجموع أو الجماعة. وكل خروج عنها أو عليها هو خروج عن إرادة المجموع أو عليها. والزعيم الذي يتساهل في النظام وحقوق المجموع وإرادته هو زعيم ضعيف الرأي، واهن العزيمة، ولا يصلح لتمثيل المجموع والتعبير عن إرادته وصون حقوقه. وإذا وجدت مسائل يمكن التساهل فيها فالزعيم الصالح هو الذي يعرف أكثر من غيره مدى هذا التساهل والحد الذي يقف عنده لكي لا يفسد الروحية ولا يهدم المبادىء العامة.
يوجد أفراد غير قليلي العدد يريدون زعيماً لين العريكة، سهل الانقياد، غير مدرك عظم المسؤولية التي يحملها ليكون لهم تأثير شخصي عليه، فيحسنوا له فعل هذا الأمر فيفعله ويدلّوه على تلك الطريق فيسلكها. وبذلك يصير لهم الحق بالتباهي فيقول أحدهم أنا الذي دللت الزعيم على أمر كذا، ويقول آخر أنا الذي أشرت عليه بكذا ولولاي لما استقر شيء، الخ.
واحد من هذا النوع حسن النية، اقترن فيه جهل المسائل العمومية والنظامية ببساطة تفكيره وسلامة نيته، دخل الحزب السوري القومي الاجتماعي متمماً المعاملات القانونية ومقسماً اليمين، التي تنص على حفظ النظام وطاعة الأوامر والقيام بالواجب، وهو مع بساطة تفكيره، فيه مقدار من الذكاء الفطري، له نظر عملي في بعض المسائل المحدودة. ونظراً لحسن نيته وذكائه ونظره العملي أسندت إليه وظيفة إدارية صغرى محدودة. ولكن بساطة تفكيره المتضاربة مع سرعة ذكائه الفطري والممزوجة بنظره العملي حسنت له إدخال رأيه، بصورة غير قانونية، في المسائل التي من شأن المراجع العليا تقريرها، فأوقف تنفيذ عدة مقررات وتعليمات، لأنه كان يرتأى أنّ أمر كذا غير موافق، وأنّ مشروع كذا يجب أن يؤجل الفرصة أخرى، وأنّ حالة كيت وكيت ليست هي المطلوبة، إلخ. إلى أنه اتخذ جميع صلاحيات المراجع العليا النهائية، المفوضة من مجموع الحزب، وجعلها من خصوصياته. فاضطر الزعيم أكثر من مرة لشرح أسباب بعض الأوامر ونتائجها المنتظرة لإقناع المأمور المذكور أنّ الأمور ليست كما يرتأيها هو، وأنّ نظرة الزعامة إلى المسائل تختلف عن نظرة المأموريات المحدودة. وكان الزعيم يفعل ذلك من أجل تنوير المأمور ودائرة الموظفين معه، فلا يعود إلى تدخلاته في ما هو من شأن أصحاب المسؤوليات العليا. ولكن الموظف لم يغيّر شيئاً من تصرفه، بل عاد إلى العمل برأيه الخاص في كل مشروع وأمر طُلب منه تطبقه في محلته. واتخذ في بعض الحالات موقف من يجب أن يكون الزعيم نفسه مسؤولاً تجاهه، بدل من يجب أن يكون مسؤولاً تجاه الزعيم، أي أنه عندما طولب بالتنفيذ وحوسب على عدم تنفيذ التعليمات التي ينص عليها قَسَمان: قَسَم العضوية وقَسَم الوظيفة، احتجّ بأن الزعيم لم يوضح له ما سأله إيضاحه!
كان هذا الشذوذ الإداري ذا تأثير سيّىء جداً على حالة الفرع. واضطر الزعيم للفصل في مسألة تصرفات الموظف الإداري المذكور وتحميله مسؤولية تعطيل القانون وقتل بعض المشاريع الهامّة التي كان يرى الزعيم إمكانياتها ونتائجها الحسنة المقبلة. فما كان من المأمور إلا الإلتجاء إلى تأويل المسائل أمام أصدقائه من الرفقاء بطريقة تجعل اللوم والحق على الزعيم نفسه، مثيراً في نفوس أولئك الرفقاء الشك في صلاح تدابير الزعيم، مفسداً إيمانهم القومي وثقتهم النظامية ليبرر نفسه من مسؤوليته، التي هي مسؤولية قانونية صريحة قبل كل شيء، والتي جرت محاسبة بموجبها علناً أمام الرفقاء الذين حضروا الاجتماعات المعينة للنظر في هذه القضايا.
طالت معالجة العضو المخالف للقوانين ولنص اليمين نحو سنتين والزعيم يأمل إصلاحه. وفي هذه الأثناء، نقله الزعيم من وظيفته الإدارية إلى وظيفة سياسية الصبغة لعله ينجح فيها، فأهملها بالكلية. ولما حوسب على نتائج الإهمال السيئة عاد إلى عادة التنصل من التبعة ووضع الحق على بعض الأسباب التي حين سئل عن تفصيلها لم يمكنه إثباتها. وعاد إلى محاولة التأثير على أصدقائه من الرفقاء ليجعلهم يرون رأيه. وقد تمكن من التأثير الفعلي على بعض الرفقاء ففسدت روحيتهم وتزعزع إيمانهم وحلّت الشكوك في نفوسهم محل اليقين.
آخر الوسائل التي استعملها ليصل إلى غايته كانت وسيلة التأثير على تفكير الأشخاص بجيوبهم. وهذه نقطة حسّاسة جداً لا يمكن أن يغفل عنها ذو الذكاء الفطري وصاحب الغاية الصغيرة المحدودة. فالمغتربون قد جاؤوا ليجمعوا مالاً وليس لأمر آخر. والبخل على القضية القومية والمشاريع الثقافية لتوفير لمال للأشياء الخصوصية الفردية هو شبه مذهب ديني عند عدد غير قليل. فألقى المخالف قنبلة وقال على مسمع من بعض أشخاص يعرف جيداً مبلغ تأثرهم بالتفكير المادي: «دفعنا وما شفنا شي». والظروف التي قيلت فيها هذه العبارة تجعلها ذات صبغة دبلوماسية بحتة، لأنها لو كانت ذات صبغة حقوقية لكان يجب أن تقال في اجتماع أو جلسة رسمية ليصير السؤال والجواب بوضوح أمام الجميع.
لسنا ننظر في الغاية الروحية من العبارة المتقدمة ولا في الاعتبارات الدبلوماسية الدافعة إليها. بل نناقشها لنبيّن فسادها لكيلا ينخدع بمثلها كثيرون. نسأل الشخص المذكور، ماذا دفع وماذا كان ينتظر مما دفع؟ تبرع هذا الغيور في خلال ثلاث سنوات تقريباً ببضع مئات من الفاسات الأرجنتينية. والذين تبرعوا مثل تبرعه هم أشخاص لا يزالون يعدّون على أصابع اليد الواحدة. لنفترض أنه دخل صندوق الحزب، في ثلاث سنوات، خمسة أو ستة أو سبعة آلاف فاس، ولنفترض أنّ مدخول إشتراكات الرفقاء بلغ مثل هذا المبلغ، فماذا يظن هذا الذكي الحسن النيّة أنه يمكن أن يعمل بنحو خمسة عشر ألف فاس دخلت نتفاً نتفاً في مدة ثلاث سنوات ونيف؟!.
نعلم أنه قد مضى على دخول الولايات المتحدة الأميركانية الحرب سنة ونيف، قرر في خلالها المجمع الأميركاني، مبالغ مالية يحصل لرأس المرء دوار حين يتتبع أرقامها. ونعلم أنّ أميركانية كانت قد خصصت اعتمادات حربية كبيرة جداً قبل دخولها الحرب بنحو سنة على الأقل. ونعلم فوق ذلك، أنّ تجهيزات الولايات المتحدة الحربية وحدها استغرقت أموالاً طائلة في السنوات الأخيرة التي عقبت الحرب الماضية، فضلاً عما سبقها. ونعلم أيضاً أنه على الرغم من مضي سنة ونيف على دخول أميركانية الحرب لمّا تقم هذه الدولة الضخمة بغير مناوشات حربية في جزائر سليمان وإنزال بعض القوات المسلحة في المستعمرات الفرنسية في إفريقيا الشمالية بدون حرب تقريباً. وآخر اعتماد قرأنا عنه في أخبار أميركانية هو مئة وتسعة آلاف مليون دولار فقط لا غير. وهو شيء لا يذكر بالنسبة إلى المبالغ الأخرى!
فهل يجوز أن يقوم أحد أذكياء الأميركان ويتحدث إلى أصدقائه في خلوة قائلاً: «دفعنا وما شفنا شيء؟».
هل يعلم ذكيّنا الكبير القائل «ما شفنا شي» كم هي المبالغ الطائلة التي ينفقها اليهود على دعاواتهم وحدها؟
ضربنا الولايات المتحدة مثلاً لنبيّن أنّ المبالغ المالية هي على نسبة كبر العمل وعظم لمهمة. إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي يقوم بقضية أمة بأسرها ويهتم بجميع مسائلها. وهذه القضية والمسائل ذات طبيعة داخلية معقدة وشكل خارجي مختلف وحاجاتها الإذاعية والثقافية والتنظيمية والتجهيزية كبيرة جداً جداً. فهل يظن صديقنا، الذي ينفق على بيته وشؤونه المنزلية وحدها في السنة الواحدة ما يزيد على الخمسة عشر ألف فاس التي نفترض أنها دخلت صندوق الحزب في مدة ثلاث سنوات ونيف، أنه يمكن سد هذه الحاجات العظيمة أو بعضها بهذا المبلغ الزهيد الذي لا يكفي لدفع معاش ماسك دفاتر أو كاتب بسيط في مدة ثلاث سنوات ونيف؟!.
وماذا يقول ذكيّنا في الزوبعة والمجهود الذي يبذل فيها لتغيير النظرة إلى الحياة ونوع العقلية في الشعب وهو تغيير لا نهضة بدونه. أيعلم أو يفكر في نفقات هذه الجريدة من أين تأتي؟ هل حسب كم هي نفقات الطبع وثمن الورق فقط، من غير حساب تعويض الإنشاء وأجرة التحرير؟ هل يقوم ذلك بدون مال؟ أمّا مسألة المشتركين في الصحف السورية فلا نظن أحداً يجهلها. من أكبر كبير في جميع النزالات السورية إلى أصغر صغير فيها لا يؤدي غير أفراد نادرين بدل الاشتراك بدون مطالبة متواصلة أو رحلات خصوصية تكلف مجهوداً آخر ونفقات إضافية.
إذاً العبارة التي بلغنا أنها صدرت من المأمور السابق هي عبارة فاسدة. إذا لم تكن صادرة عن قصد سيِّىء فهي لا يمكن أن يكون لها غير نتائج سيئة، إذ إنها تفسد نفوس أشخاص كان يمكن الاعتماد على إيمانهم وروحيتهم الحسنة وتعاونهم الخالص. وهذا الضرر لا يلحق الزعيم بل يلحق الناس وقضية الشعب. فهذا الإفساد يقتل الثقة ويعدم الإيمان. ومتى ماتت الثقة فقد مات العمل.
إنّ مثل العبارة المذكورة لا يمكن أن يميت غير ثقة الأفراد الذين لا حظ كبير لهم من الاطلاع والمعرفة. إنها لا تقتل العمل ولا تعطل القضية، ولكنها تفسد عدداً من العاملين وتوجد صعوبات في بعض النواحي تحتاج الحركة لبعض الوقت للتغلب عليها.
ونعود فنقول إنّ الهدم والإفساد ليس بطولة. وإننا في الأخير، نود أن لا يكون حقيقة ما بلغنا عن قول العبارة المذكورة التي جعلناها عنوان هذا المقال، لأننا لا نحب هذه المهازل لأحد.