الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 60، 15/2/1943
(جرى الاحتفال بمرور عشرة أعوام على نشوء النهضة السورية القومية الاجتماعية في الجماعات القومية في الأرجنتين في أوقات متباعدة، وكان الأجدر أن يكون ذلك في يوم واحد في جميع الأماكن التي فيها جماعات سورية قومية في العالم، أي في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني ولكن الظروف غير الاعتيادية أخّرت الاستعدادات لذلك. ومهما يكن من الأمر فإن إصرار الرفقاء على إجراء الاحتفال التذكاري، بعد مرور يوم الذكرى، دليل على تملّك العقيدة القومية الاجتماعية منهم وشعورهم بواجب الالتفاف حول الفكرة والنظام القوميين الاجتماعيين.
لعل رفقاء قرقمينة كانوا الوحيدين الذين أجروا الاحتفال بذكر اليوم العظيم في موعده. أما في المدن الأخرى فقد جعلت كل فئة تختار يوماً مناسباً. وبعض الأسباب كانت من الغفلة عن التاريخ. أما في بيونس آيرس فقد وجدت أمور عملية رؤي الفراغ منها قبل إجراء الاحتفال ليكون أكثر بهجة وأسنى رونقاً.
جرى هذا الاحتفال في العاشر من شهر يناير/كانون الثاني الماضي، فكان احتفالاً مهيباً ارتفعت فيه النفوس إلى سماء المثال الأعلى وامتدت الأبصار إلى المستقبل العظيم الذي يعدّه الإيمان القويم.
جلس الرفقاء والرفيقات في فناء ظليل، في هذه الأيام الحارة، يواجهون منصة الخطابة. فلما دخل الزعيم وقف الحضور بهمّة وحمية إجلالاً وشخصت الأبصار إلى الرجل الذي يحمل في دماغه خطط المستقبل وفي قلبه إيمان أمة بالحياة والارتقاء والتفوق. وصل الزعيم إلى المنصة وأجاب على تحية القوميين الاجتماعيين واستقر في مجلسه وقعد الرفقاء.
نهض على الأثر أحد العاملين وألقى خطاباً فتحه بهذه الفقرة:
»مولاي الزعيم
»هذه فئة من القوميين تتجه إليكم في هذا الموقف مستعدة لبذل كل مرتخص وغالٍ في سبيل انتصار القضية القومية الاجتماعية المقدسة بقيادتكم المنصورة وها هي تهتف معي:
ــــ لمن الحياة؟ ــــ لنا
ــــ لمن نحيا؟ ــــ لسورية
ــــ من هو قائدنا ــــ سعاده
ــــ يحيى الزعيم يحيى
ــــ يحيى الزعيم يحيى.
ــــ يحيى الزعيم ــــ يحيــى، يحيى، يحيى!».
بعد ذلك وقف الزعيم وأخذ في ارتجال خطبة استغرقت ساعة ونيف أتى في ما يلي على خلاصتها، قال):
»أيها الرفقاء،
»إنّ إقامة السوريين القوميين الاجتماعيين مثل هذا الاحتفال التذكاري لمرور عشرة أعوام على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي لبرهان قاطع على وجود الوعي القومي الاجتماعي في النفوس، الذي يميّز الأمم الحية عن القطعان الحيوانية أو البشرية.
»إنّ هذا العمل يعني حياة الوجدان وإدراك عظمة النتائج من مجرد معرفة الأسباب ونوع الأعمال. بمثل هذا الاجتماع يُعرف أنّ في سورية جماعة حية تخفق قلوبها بحب وطنها وتشتغل عقولها في قضية أمتها الممثلة في مبادىء هذه الجماعة».
(إستطرد الزعيم في شرح هذه الحالة النفسية وتعيين مرتبتها وأهميتها، وكيف أنها تميّز أصحاب الوجدان القومي والإدراك الصحيح عن الغافلين والخاملين الذين لهم الدرك الأسفل من سلّم الارتقاء الإنساني. وانتقل الزعيم إلى وصف كيفية تأسيس النهضة القومية الاجتماعية والحالة التي نشأت فيها عن الوطن فأظهر صورة رائعة من فعل الإيمان القومي، قال):
»كانت الحالة في الوطن حالة يأس وخوف. الجاسوسية منتشرة في كل مكان، والخيانة كامنة عند كل منعطف. الجيوش الأجنبية محتلة المواقع الاستراتيجية، ومكاتب الاستخبارات تبث عيونها في جميع أوساط الشعب. الأفكار قلقة والناس في بلبلة تمنع التفاهم. النفوس بظلمة والمستقبل مظلم والإنسان قد أنزل إلى درجة الحيوان فهو لا يعرف الماضي ولا يفهم الحاضر ولا يدرك المستقبل ولا يشارك غيره في فكره الصحيح، إذا كان له فكر. الاجتماعات محظورة، وتأليف الأحزاب جريمة، وخوف السجون والأحكام والرصاص يقطع طريق الأمل. هذا هو، بالاختصار وصف الحالة التي نشأ فيها الحزب السوري القومي الاجتماعي.
»كان الجو مظلماً والذين قبلوا الدعوة نفرٌ قليلٌ من الطلبة بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين من العمر. كانت الصعوبات عظيمة ولكن إيمان أصحاب العقيدة القومية الاجتماعية، على قلّة عددهم، وعزيمتهم الصادقة كانتا أعظم من الصعوبات وأقوى. كان أولئك الرفقاء الأُوَل القلائل عظماء جداً في نفوسهم حتى أمكن أن تصدر عنهم هذه الحركة العظيمة المباركة التي تفتح للأمة السورية عهداً جديداً وتشق لها طريق مستقبل مجيد وتنشىء لها تاريخاً جديداً يظهر مواهبها الجميلة ويبرز فضائلها الكبيرة.
»إنّ هذه النهضة العظيمة قامت بالنفوس العظيمة، لا بالعدد العظيم. وبالعقيدة الصحيحة والإيمان العظيم أمكن أن تصير الحركة السورية القومية الاجتماعية حركة عظيمة بعددها وقوتها ونظامها، فرهبتها الدول وقام الاستعمار المحتل أرض الوطن بالجيش المسلح يحاربها بلا مهادنة ولا توانٍ».
(وتطرّق الزعيم لذكر انكشاف أمر الحزب وانتشار عقيدته. وأوضح كيف أنّ الرجعية وأصحابها المتمسكين بسلطة الدين الزمنية أو بسلطة الإقطاع المستعبِد قسماً عظيماً من الشعب أجفلت وهبّت مذعورة لتمنع تآخي أبناء الأمة الواحدة باسم القومية. ثم أسهب الزعيم في كيف ثبت الحزب على الحملات الاستعمارية والدينية والإقطاعية عليه، وكيف خرج من جميع المعارك التي خاضها منصوراً مظفراً.
(عزا الزعيم انتصار الحزب السوري القومي الاجتماعي وتقدمه، على الرغم من مقاومة أعداء الأمة وأعداء أنفسهم، إلى عدة أسباب أهمها: وحدة العقيدة. وحدة الشعب. وحدة القيادة. وحدة العمل. وحدة الجهاد).
»أما الجهاد (قال الزعيم) فليس بالخطب والقصائد والمقالات في مأمن من كل خطر. ليس بالقلب وحده، ولا باللسان وحده، ولا بالقلم وحده، ولا باليد وحدها، بل بجميع ذلك. كان جهاد تعرضنا فيه للموت قتلاً مراراً، وللقتل اغتيالاً تكراراً، فما اضطربت نواظرنا ولا ارتجفت عضلاتنا. سرنا ونسير في جهادنا نقول ونعمل وننظم ونقاتل واثقين بالنصر سواء أكنّا قاتلين أم مقتولين. كم مرة رأيت الموت مقبلاً إليّ في أشكال مختلفة فما تجنبته قط، بل أقبلت إليه كما أقبل إليّ، وثبّتُّ نظري فيه كما ثبّت نظره فيَّ، وكنت واثقاً في كل حين أني أسحقه. وكان في كل آنٍ يقطع الرجاء من إيصال الخوف إلى قلبي أو الشك إلى يقيني فيرتد خائباً ويرجع عوده على بدئه». (هتاف بحياة الزعيم).
(أوصل الزعيم كلامه إلى العمل القومي في المغترب، فقال):
»كثيراً ما طرق سمعي تساؤل المغتربين ماذا يمكننا، ونحن في المغترب، أن نفعل لخير القضية القومية الاجتماعية؟ ليس لهذا التساؤل غير جواب واحد: إنّ السوريين القوميين الاجتماعيين ليس لهذا التساؤل غير جواب واحد: إنّ السوريين القوميين الاجتماعيين لهم حقوق واحدة، وعليهم واجبات واحدة حيثما وجدوا. وهذه الواجبات هي أن يكونوا في المغترب كرفقائهم في الوطن، واقفين في مراكزهم المعيّنة لهم وناظرين إلى القيادة ليتلقوا كل أمر، ويقوموا بكل عمل يوكل إليهم، وجواب كل منهم لكل نداء هو: مستعد.
»إنّ الذين يتوهمون أنهم يتممون كل واجباتهم القومية بدفع المرتب الشهري الزهيد، وترك كل ما وراء ذلك، لا يمكن أن يكونوا رفقاء قوميين بكل معنى هذه الجملة. وإني أخجل من رفقة أشخاص يتركون تحمُّل الضيم لسواهم، ويريدون تحمُّل فخار جهاد لم ينالوا منه ولم ينل منهم شيئاً.
»إنّ واجب القوميين الاجتماعيين الذين تصح عليهم هذه التسمية هو الجهاد المنظم. إنّ القوميين الاجتماعيين في المغترب هم أبناء سورية وسورية تطالبهم بشرفها وحقوقها المهضومة. إنها تطالبهم بدمها الذي يجري في عروقهم. إنه دم سوري هذا الذي تخفق به قلوبكم. هو من الأمة السورية، والحق والشرف يقضيان بأن هذا الدم هو للأمة. والأمة في محنتها العظيمة تطالب جميع أبنائها بدمها، والقوميون الاجتماعيون يجب أن يعلموا أنّ دماءهم وقفٌ على شرف أمتهم وفلاحها وعزها. إنّ دماءهم رهن لا يُفكّ إلا بحريّة سورية وسيادتها ورفعتها.
»لتحيى سورية».
(فأجاب الرفقاء
ــــ تحيى
ــــ تحيى سورية
ــــ تحيى
ــــ تحيى سورية
ــــ تحيى، تحيى، تحيى
بهذه الزوبعة الروحية خُتم خطاب الزعيم. ثم نهض معاليه ودخل غرفة استراحة. وبعد هنيهة خرج وسار يحف به المقدمون إلى مائدة أعدت عليها كؤوس شمبان حلوى سورية من أشكال عديدة. فشرب الجميع نخب سورية والزعيم والرفقاء المجاهدين في الوطن. وانفرط عقد الرفقاء في آخر السهرة والجميع شاعرون بسمو الحياة القومية الاجتماعية التي جعلت منهم أمة حية واحدة، بعد أن كانوا مذاهب دينية متباينة وقبائل دموية متنافرة).