الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 63، 15/7/1943
لا مشاحة في أنّ الحزبية الدينية لا تزال من أعظم مشاكل سورية الداخلية ومن أكبر العراقيل التي تعترض سير النهضة القومية الاجتماعية في سورية. وقد عالجت الصحافة القومية الاجتماعية في الماضي بعض المسائل التي أثارتها تلك الحزبية المشؤومة، ونريد الآن أن نعالج المسألة الجديدة القديمة الناشبة بين مؤسسات وأوساط التعصب الحزبي الديني المحمدي وحكومة «الجمهورية اللبنانية». فقد ورد مؤخراً في برقية عن أنقرة صادرة في 10 مايو/أيار الماضي أنّ «أخباراً من بيروت تعرف أنّ قصد الحكومة إرصاد عدد من المراكز في المجلس الذي سيتشكل قريباً، للبنانيين المهاجرين، قد أثار غضباً شديداً في أوساط لبنان المحمدية، والسبب هو في أنّ كل هؤلاء المهاجرين تقريباً، الذين يعيش معظمهم في أميركا الشمالية والجنوبية، هم مسيحيون. وتصف الأوساط المحمدية المذكورة تدبير ا لحكومة «بأنه ضد مصالحها الطائفية في المجلس، والمسألة تشمل نحو ثمانين ألف مهاجر».
الخبر يكاد يكون غريباً، وإنه لغريب لكل من اطّلاع له على مجرى الأمور ودخائل القضايا في الوطن.
لكن مهما ظهر هذا النبأ غريباً فهو الواقع. وهذه حقيقة محزنة، لأن هذه الحوادث هي ذريعة الانفصاليين والداعين إلى اليأس وحجة المسيحين على تعصّب المحمديين الديني على «استحالة التفاهم والاتفاق مع المحمديين»، التي يوردونها كلما دعا داع من القوميين الاجتماعيين إلى توحيد الصفوف والتآخي القومي.
ليست هذه أول مرة تظهر فيها هذه الظاهرة النكراء من قِبل بعض الأوساط الرجعية من المحمديين، ففي سنة 1937 رفعت فئة من هؤلاء الرجعيين، تسمي نفسها «المجلس القومي الإسلامي»، عريضة إلى المفوض الفرنسي ــــ إلى مفوض الدولة الأجنبية المحتلة البلاد! ــــ تستنكر فيها عزم حكومة لبنان على تسوية مشكلة جنسية المهاجرين بما يبقي لهم حقوقهم في الانتساب إلى وطنهم، وتحتج على هذه الفكرة، وتحارب بجميع الحجج الباطلة والصحيحة حفظ حقوق المهاجرين السوريين من لبنان في الهوية التابعة للأوضاع الحاضرة في الوطن وإليك نص العريضة، منقولاً عن عدد جريدة النهار الصادر في 13 فبراير/شباط 1937:
»يا فخامة السفير
»إنّ المسلمين، رعم تعلقهم بمبدأ الوحدة قد قنعوا بالترّيث في تحقيقها، ريثما تتهيأ أسبابها وظروفها باعتبار أنّ قضية الوحدة قضية زمن فحسب وأنّ إحقاق الحق والمساواة بين الطوائف في الجمهورية اللبنانية أمر ضمنته الوعود التي قطعتها حكومة فرنسة، ووعودكم الشخصية ونصوصا المعاهدة الفرنسية اللبنانية.
»على هذا الأساس استقبل المسلمون الوضع الحاضر بأمل وتفاؤل، غير أنه جاء بالبيان الوزاري ما يصح أن نسمّيه مفاجأة إعادة شعور القلق والتشاؤم إلى نفوس المسلمين، إذا تلمّسوا فيها بوادر الرجوع إلى خطة قديمة مرسومة. ولقد رأينا، اتباعاً لخطة الصراحة التي تعودتهموها منا، أن نُفضي إليكم بما يساور نفوسنا من القلق لهذه البوادر فتتخذوا منذ الآن ما يحول دون تحقيقها ويزيل المخاوف من النفوس لكي يمكن الوصول إلى استقرار يصح السكوت عنه.
»إن البيان الوزاري المؤرخ في 4 فبراير/شباط 1937 تضمَّن فقرة خاصة بالمهاجرين تقول فيها الحكومة «إنها تسعى لتصل إلى حل نهائي لمشكلة الجنسية».
»إن فخامتكم تعلمون أنّ الركن الرئيسي الذي يقوم عليه النظام السياسي في لبنان هو نسبة عدد الطوائف بعضها إلى بعض، لذلك كانت قضية عدد السكان والنسبة بين طوائفهم قضية حيوية بنظر المسلمين خاصة، لأن على أساسها تتوزع الحقوق ومنها يجب أن يبتدىء الإنصاف الذي يطلبون، والذي وُعدوا به، والذي عليه يتوقف الاستقرار، إستقرار ينشده أبناء البلاد جميعاً وتسعى إليه فرنسة.
»وبعد، فلو كان ما ورد في البيان الوزاري يعني السعي لعودة المهاجرين إلى هذه الديار ليشتركوا في خدمتها ويتمتعوا بحقوق الوطن ويقوموا بما عليهم من فروض وواجبات لكنّا أول من يرحبون بهذا السعي.
»ولكنّ لهذه القضية وجهاً آخر يتلخص بتضخيم بعض الطوائف تضخيماً وهمياً على حساب طوائف أخرى. وهذه خطة قديمة اتُّبعت في الماضي وكانت عاملاً كبيراً من عوامل التبرم والتذمر والاضطراب.
»إنّ قضية المهاجرين اللبنانيين قد بُتَّ فيها دولياً بموجب معاهدة لوزان في المواد 30 وما يليها، وقد جاء في هذه المواد أنّ العثمانين الموجودين في المهاجر من أبناء البلدان المنسلخة عن السلطنة العثمانية (واللبنانيون منهم) لهم الحق أن يطلبوا التجنس بجنسية بلدهم المنسلخ عن السلطنة، أو بجنسية البلد الذي يقيمون فيه، وقد أُعطوا مهلة سنتين انتهت في 11 آب سنة 1924 لاستعمال حق الاختيار المذكور. وبعد انقضاء هذه المدة إذا لم يستعملوا هذا الحق يعتبرون محتفظين بجنسيتهم العثمانية القديمة.
»ولقد تبيّن، بعد انقضاء الموعد المضروب في معاهدة لوزان أنّ عدد الذين طلبوا الجنسية من المهاجرين كان ضئيلاً. فقد آثر معظمهم عدم اختيار الجنسية اللبنانية، في حين أنه كان من المنتظر عكس ذلك، أي كان منتظراً أن يعود المهاجرون اللبنانيون إلى وطنهم ويجدّدوا صلتهم به بعد الانقلاب، إذ زالت السيطرة العثمانية عن بلدهم وحلّت فيه فرنسة حامية ووصية ومنتدبة.
»على أنّ انصراف أولئك المهاجرين عن اعتناق الجنسية اللبنانية في تلك الظروف التي كان مفهوماً لديهم خاصة أنها ملائمة لهم متفقة مع مصلحتهم وأمانيهم، قد أكد انصرافهم عن النظر إلى لبنان كوطنهم الحقيقي وبيَّن عزمهم على اتخاذ مهجرهم وطناً نهائياً لهم.
»وإنّ مشيئة هؤلاء المهاجرين الصريحة بعدم اختيار الجنسية اللبنانية وتثبيت هذه المشيئة دولياً بموجب معاهدة لوزان وانقضاء المهلة الممنوحة في المعاهدة، كل هذا جعل مسألة جنسيتهم أمراً مبتوتاً فيه من الوجهة القانونية الدولية. فإعادة البحث في هذا الموضوع يكون مناقضاً للأمر المقضي ومنافياً للحقوق المكتسبة للطوائف المقيمة في هذه البلاد.
»ولا يمكن أن يُفهم منه إلا أنه في النية العودة إلى خطة التضخيم القديمة التي كان من جملة مساوئها أن قُيّد كثير من المهاجرين في عداد الغائبين مؤقتاً عن البلاد، في حين أنهم انفصلوا مختارين جنسية وفعلاً عن لبنان وقد قضوا خارجه مدة لا تجيز اعتبارهم غائبين مؤقتاً.
»لقد كان، يا صاحب الفخامة، من وراء هذه الخطة اللبقة ضياع حقوق سياسية للمسلمين في بلد يقوم فيه التمثيل الانتخابي وتوزيع الحقوق على نسبة عدد الطوائف بعضها إلى بعض.
»وبينما نعتقد أنّ الدور الحاضر سيزيل الحيف الموروث عن مثل هذه الخطة القديمة، إذا بالبيان الوزاري يعيد إلى نفوس المسلمين القلق الذي أشرنا إليه في صدر هذا الكتاب ويحملهم على الاعتقاد أنّ تنفيذ خطة التضخيم سيكون أشد خطراً وأوسع مدى في هذا العهد مما كان عليه في السابق.
»إنّ المسلمين في هذه البلاد لا يريدون أن يغمطوا حق أحد، ولا هم يريدون أن يأخذوا أكثر من حقهم، ولكن في الوقت نفسه لا يريدون أن تُغمط حقوقهم بأساليب لبقة دقيقة من هذا النوع.
»إنّ المسلمين يرون أنّ حسن النيّة في هذا الموضوع لا يمكن إثباته لدى الجميع إلا بأن تكل الحكومة أمر الإحصاء المقبل إلى خبيرين فنيين من الأجانب (كذا!) الموثوق بتجردهم، كما فعلت كثير من الدول الفتية قطعاً لكل اعتراض وشكوى على أن لا يدخل في هذا الإحصاء من المهاجرين إلا من ثبت أنهم اختاروا الجنسية اللبنانية بصورة صحيحة وفاقاً لنصوص معاهدة لوزان.
»إنّ هذا احصاء النزيه وحده يعطي الأكثرية لأصحابها، هذه الأكثرية التي يدّعيها الطرفان معاً، والتي طالما صرّحت بعض المقامات المحترمة بأنها لطائفة وليست لأخرى.
»وتفضلوا، يا فخامة السفير بقبول فائق الاحترام».
»في 8 شباط 1937» انتهت.
في العريضة المثبتة آنفاً نجد الموقف الواضح للفئة التي سمّت نفسها «المجلس القومي الإسلامي» وأرادت أن تنزلها منزلة التعبير عن إرادة المسلمين المحمديين جميعهم (وسنبحث قيمة هذه التعبير في ما يلي) وجمعت فيها جميع الحجج التي يمكن إيرادها لتأييد وجوب الاستغناء عن بضع مئات أو عشرات ألوف من أبناء الوطن المغتربين لمجرد أنهم مسيحيون وإبقاء جنسيتهم يمكن أن يُضعف تأييد بعض الطامعين في وظائف الحكم من الحزبين الدينيين. فلننظر في الحجج الواردة في العريضة ونفحص جوهرها.
تبتدىء العريضة بتوكيد تعلّق المحمديين «بمبدأ الوحدة» من غير أن تعيّن أية وحدة تعني، هل هي الوحدة السورية أم الوحدة العربية؟ ولكننا نرجح أنها تعني الوحدة السورية، إذ لا يوجد بين الطوائف المحمدية في لبنان من يرفضها، إلا أن يكون ممالئاً أو نفعياً. ومع ترحيبنا بفكرة الوحدة السورية التي هي الفكرة الوحيدة التي تمثّل حقيقة شعبنا وتشق له طريق السيادة والارتقاء أيّاً كان مصدرها ومهما كانت العوامل الوقتية الدافعة إليها عند فئات معينة، فلا يمكننا إزالة النفرة من الأسباب الدينية التي تدفع فئة «المجلس القومي الإسلامي» إلى طلب الوحدة التي لا ترى فيها غير الوحدة الدينية، كما هو واضح من أغراض العريضة وحججها، ولا مَحْو الاشمئزاز من الالتجاء إلى سلطة أجنبية ومن الاستناد إلى نصوص معاهدة فرضت على الشعب فرضاً بحيث يكون الاستناد إلى المعاهدة اعترافاً بها.
تنتقل العريضة إلى بحث مسألة المهاجرين من لبنان الذين هم سوريون ويجب الاحتفاظ بجنسيتهم السورية أو بالهويات الفرعية التي جزأت الإرادة الأجنبية سورية إليها فتتناول هذه القضية الحيوية الخطيرة من وجهة نظر ديني بحت وتجعل نظام لبنان الطائفي المؤقت الأساس اللازم لبحثها. فتقول تلك الفئة الرجعية إنه بما أنّ نسبة عدد الطوائف بعضها إلى بعض هو الركن الرئيسي الذي يقوم عليه نظام لبنان الفاسد فإن استبقاء جنسية المهاجرين من لبنان يجب أن لا يكون، ويجب أن لا يكون لهم اشتراك في مسائل لبنان لكي يتسنى للطوائف المحمدية أن تكتسب حقوقاً أوسع في المجلس. وهذا الرأي يفتح قضية من أغرب القضايا التي تتصارع فيها القومية والمذهبية الدينية. فإن طلب ترك ما يزيد على مئة ألف مهاجر يمدون أهلهم وأقربائهم في الوطن ومشاريع الوطن نفسه بالمساعدات ويمكن أن يكونوا قوة لوطنهم في الخارج وفي الداخل لهو من ادعى الأمور إلى الدهشة لما فيه من الغفلة عن المصالح القومية العامة في مجرى التاريخ وفي المستقبل القومية الذي يجب أن تذوب فيه قضية «نسبة عدد الطوائف بعضها إلى بعض» في قضية «النمو القومي وحشد القوى السورية جميعها في الداخل والخارج لشق طريق الحياة والسيادة والسؤدد لسورية».
تحتج العريضة بالقول إنّ البيان الوزاري لم يشتمل على خطة صريحة لإعادة المهاجرين إلى وطنهم. وأصحاب العريضة لا يفهمون أنّ حفظ الجنسية هو شرط أولي لإمكان العودة في الظروف المناسبة، وأنّ مشروع استقدام المغتربين ليس أمراً يمكن الحكومة اللبنانية تقريره، لأنه يتناول مسائل اقتصادية خارجة عن صلاحية الحكومة اللبنانية التي لا سيادة لها تخوّلها البتّ في هذه المسائل. وليس صحيحاً أنّ أصحاب العريضة يرحّبون بعودة المغتربين المسيحيين الذين يزيدون نسبة عدد الطوائف المسيحية، لأنه ما دام الموضوع قائماً على «نسبة الطوائف بعضها إلى بعض» فلا يوجد طائفة تشتهي أن يزيد عدد غيرها لا زيادة حقيقية ولا زيادة وهمية. ومسألة عودة المغتربين تتطلب تشريعاً لحماية الرأسمال القومي. وهذا أمر لا تملكه الحكومة اللبنانية، ولا الحكومة الشامية، ولا أية حكومة بلدية أقامها الاستعمار المسمى انتداباً. فكم من مغترب عاد إلى وطنه ليوظف رأسماله فيه فخسر ما حصّله في عقود من السنين بالكد والكدح؟ وكم من مغترب عاد إلى المهجر يائساً، حزيناً، لأنه لم يجد ما يضمن له توظيف ماله في وطنه ليحيا ويعمل فيه؟ فإلغاء جنسية هؤلاء المغتربين الأمناء لوطنيتهم، لأنهم لا يتمكنون من الإقامة والعمل في وطنهم، أمر لا يستند إلى حق ولا تسوغه الروحية القومية الصحيحة ولا تقبله غير عقلية «النسبة الطائفية».
تتطرق العريضة إلى الاستناد إلى معاهدة لوزان الجائرة التي تعتبر مؤامرة على وحدة الشعب السوري وعلى القومية السورية وقواها في الخارج لتثبت أنه لا وجه لإعادة النظر في مسألة المغتربين الذين لم يسجلوا أسماءهم في القنصليات الفرنسية ضمن المدة التي نصّت عليها معاهدة لوزان المشؤومة. ولا يريد أصحاب هذه العريضة الغريبة في بابها أن يبحثوا الدوافع الوطنية التي دفعت كثيراً من المغتربين إلى الإحجام عن تسجيل أسمائهم في القنصليات الفرنسية. فأكثر المغتربين الذين لم يسجلوا أسماءهم امتنعوا عن التسجيل لاستغرابهم ما تفرضه عليهم تلك المعاهدة المذلة ولإبائهم الخضوع للتدابير الفرنسية والالتجاء إلى القنصليات التي كان لها في معاملتهم قضايا لا مجال لفتحها الآن. وبين رافضي التسجيل عدد من المغتربين المحمديين والدروز فجميع هؤلاء القوميين الشرفاء يجب أن يخسروا جنسيتهم وحقوقهم في وطنهم لأن الفئة التي تسمي نفسها «المجلس القومي الإسلامي» توافق على معاهدة لوزان الذي عاملت مواطنيهم المغتربين معاملة الإهانة والتحقير، وعلى جميع الاتفاقات التي تحرم الأمة السورية جماعة كبيرة قوية من أبنائها، بينهم مئات وألوف من غير المسيحيين، فأصحاب العريضة يريدون أن يضحّوا بكل الاعتبارات القومية وبجميع السوريين في الخارج من أجل تأييد ارتفاع النسبة الطائفية» إلى ما يشاؤون منها!
لا غرو، فهذا هو منطق «القومية الدينية»!
إلى هذا المنطق وإلى هذه الأسباب عينها تستند أعمال التهييج الجديد في الأوساط المحمدية في لبنان للحؤول دون تنفيذ مشروع الحكومة الرامي إلى منح اللبنانيين المغتربين حق التصويت وانتخاب ممثلين لهم في المجلس.
بعد التحليل المتقدم لموقف فئات الرجعة الدينية والحزبية الدينية المحمدية، هل يجب أن نستنتج أنّ التعصب الديني موجود في الأوساط المحمدية فقط، وأنّ الحزبية الدينية لا وجود لها إلا فيها، وأنّ اللوم يقع على أصحاب العريضة النكراء التي رفعت [سنة] 1937 إلى المفوضية الفرنسية؟
لا شك في أنّ أصحاب الرجعة الدينية والحزبية الدينية المسيحية يريدون أن يعتقد العالم أنّ هذه هي الحقيقة. ولكن الواقع يخالف هذا الاستنتاج. فالذي لا جدال فيه أنّ الحكومة اللبنانية لم تفكر في هوية المهاجرين من لبنان لغرض قومي أو وطني بل لغاية حزبية طائفية فقط.
الحكومة اللبنانية التي وجدت بفضل الحزبية الدينية والطائفية والفئة التي سمّت نفسها «المجلس القومي الإسلامي» تتخاطبان بلغة واحدة وعقلية واحدة وأسلوب واحد. فالحكومة اللبنانية التي أكثر أعضائها مسيحيون أو يجب، في عرف طائفيتها الممقوتة أن يكونوا كذلك، لم تلجأ إلى الاهتمام بأمر جنسية المهاجرين، إلا عندما رأت أنّ عدد السكان المحمديين صار يهدد غاية الحزبية الدينية المسيحية من وجود «الدولة» اللبنانية المنفصلة. فإن المهاجرة من لبنان، وأكثرها مسيحية، أنقصت الزيادة النسبية المسيحية في عدد الطوائف. وما تجرّه المهاجرة من نقص المواليد أيضاً في الجانب المسيحي مع بقاء نسبة المواليد المحمدية في ارتفاع بسبب قلة المهاجرة من الطوائف المحمدية جعل قضية الدولة المسيحية في لبنان في خطر كبير.
لهذا السبب لا لغيره تنشأ المشادّة بين الحزبيتين الدينيتين، المحمدية والمسيحية، في «دولة» لبنان، التي أرادت المقامات الدينية المسيحية أن تكون «دولة مسيحية»، ولذلك صارت الطائفية أساسها. فأوساط الرجعة المحمدية تقاوم الاحتفاظ بجنسية السوريين المهاجرين من لبنان ومنحهم حقوق الانتخاب والتمثيل في المجلس النيابي اللبناني، لأن ذلك يفقدها الامتيازات التي يمكن أن تحصل لها بسبب تناقص الطوائف المسيحية بعامل المهاجرة. وأوساط الرجعة المسيحية تريد تحقيق تلك الغاية للأسباب التي عرضت لها عريضة الفئة المسماة «المجلس القومي الإسلامي». وهي أسباب حقيقية، وإن كانت لا تجيز للفئة المذكورة اتخاذها ذريعة لطلب تجريد المغتربين من هويتهم، الذي يعني إفقاد الوطن قوى هامة ضرورية للعمل القومي العام الذي توضحه الحركة السورية القومية الاجتماعية.
ولا يظنّنّ المسيحيون أنّ الفئات المحمدية الرجعية التي هي من نوع فئة «المجلس القومي الإسلامي» هي كل المحمديين أو ممثلة لجميع رغائبهم. فإن النهضة السورية القومية الاجتماعية قد برهنت على وجود عناصر محمدية قابلة التفكير القومي الصحيح ولمحاربة الحزبية الدينية في أوساطها. ولا يظننّ المحمديون أنّ حزبة الحكومة اللبنانية الدينية تمثل التفكير الصحيح لجميع الأوساط المسيحية. فقد برهنت الحركة السورية القومية الاجتماعية على وجود عناصر مسيحية صالحة للتفكير القومي الصحيح ونبذ السياسة الدينية الطائفية في القضايا القومية.
بناءً على الشروح المتقدمة نقول إنّ وجهة النظر السورية القومية الاجتماعية تعتبر وجهتي نظر الحزبيتين الدينيتين، المسيحية والمحمدية، في لبنان وفي كل بقعة سورية أخرى، خاطئتين ومسؤولتين عن كل شقاق وهياج ديني يسببه تزاحمهما، وعن كل خسارة قومية تنتج عن مقاومة إحداهما الأخرى. وفي الوقت عينه يمكن، من وجهة النظر القومية الاجتماعية، قبول نزعة الأوساط المحمدية في إلى الوحدة السورية، مع رفض الأسباب الحزبية الدينية الداعية إليها، وقبول نزعة الحزب المسيحي في الحكومة اللبنانية لحفظ حقوق المغتربين وهويتهم وتوثيق عرى اتصالهم بوطنهم، مع رفض الأسباب الحزبية الدينية الباعثة عليها.
وإننا، لزيادة الإيضاح، نقول إنه لا داعي للتخوف من هذه المظاهر الحزبية الدينية، لأنها ليست قائمة على أسباب دينية، بل على أسباب سياسية شخصية مختصة بالأشخاص من المسيحيين والمحمديين الذين لهم مطامع في الحكم، وليس لهم وسيلة غير الطائفية لينفّذوا بواسطتها مطامعهم ولو خربت الأمة في الشقاق الديني. ولنا أدلة كثيرة على ذلك منها أنّ الحكومة اللبنانية التي احتجت عليها عريضة الفئة المدعوّة «المجلس القومي الإسلامي» كان على رأسها رجل محمدي، هو خير الدين الأحدب، الذي أوعز إلى مؤيديه من المحمديين بإنشاء فئة أخرى محمدية لمناوأة فئة «المجلس القومي الإسلامي»، فأنشئت الفئة التي عرفت باسم «المجلس الإسلامي الأعلى». وهكذا في الأوساط المسيحية انحازت فئة المعارضة لإميل إده إلى الاتفاق مع أعضاء «المجلس القومي الإسلامي»، الذين منهم أمثال رياض الصلح، في مواقف عديدة.
فئتا الحزبية الدينية تنافقان في الدين وفي الوطنية. والحزب السوري القومي الاجتماعي ينادي جميع المخلصين إلى الاتحاد في مبادئه القومية الاجتماعية لتقويض الحزبية الدينية وإزالة الحالة السيئة التي وصلت إليها الأمة من جرّائها، ولإنشاء العهد القومي الاجتماعي الجديد الذي تنهض فيه الأمة السورية كلها، لاستعادة سيادتها وحقوقها التي هضمتها الإرادات الأجنبية المحالفة للحزبة الدينية في وطننا.