الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 67، 1/10/1943
»إنّ الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون، فيُفتون برأيهم فيُضِلّون ويُضَلّون».
[محمد ]
متى تحولت العقائد الدينية الخالصة، الرامية إلى تقوية نفسية الإنسان وتقريبه إلى عمل الخير لنفسه ولأبناء مجتمعه ومن تحصل له علاقة وثيقة بهم، إلى تعليم يزرع البغض بين أبناء الجنس والوطن، وينمي الحقد ويرمي إلى سيادة بعض أبناء الأمة الاجتماعية على حساب عبودية البعض الآخر من أبنائها، فقد فسد الدين واختلت العقائد، واحتاج المجتمع الذي أصيب بهذه البلبلة إلى هداية جديدة وإصلاح نفسي واسع.
لا يوجد في العصر الحاضر مجتمع من مجتمعات العالم المتمدن أشد نكبة بفساد الدين واختلال العقائد من المجتمع السوري، الذي نهشت قلبه الأحقاد الدينية المتنوعة، وأفسد دمه مكروب الإفتاء المظلّل، حتى عميت البصائر وذهبت الفضائل من الكرامة والوفاء والعز القومي، وحلّت محلها الرذائل من المكر والخديعة والغدر، فتمزقت العصبة السورية واستولى الأجانب على وطنها وأكلوا حقوقها، والمفتون الجهال لا يفتأون كلما نامت فتنة أيقظوا فتنة أخرى يرمون قومهم في نارها، تهلك من هذه الفئة تارةً وطوراً من تلك الفئة، وكلما هلك فريق هلل الفريق الآخر أو كبَّر، وما يهللون أو يكبَّرون إلا لخراب وطنهم وذهاب عزهم وتسلط الأجنبي عليهم.
جاءت المسيحية بتعليم المحبة والتساهل، وتقريب الإنسان من أخيه الإنسان، وإقناع كل واحد إقناعاً لا إكراه فيه، مع وجوب مجاهدة الذين يقاومون التعليم الجديد مجاهدة لا تبلغ حدّ الإكراه والإذلال، لأن المسيحية نشأت في بيئة عريقة في التمدن، كانت اليهودية تحاول وقف سيرها التمدني بتعاليمها وشرائعها الجامدة.
وجاءت المحمدية بتعليم القضاء على عبادة الأصنام، وبتشريع يرفع الناس من عادات وحشية الجاهلية، وبالدعوة إلى الله واعتبار حق الرسالة واستعمال الإقناع مع أهل التمدن (الذين وصفوا «بأهل الكتاب» الذين جاءت فيهم الآية {زجد لهم بالتي هي أحسن}1 من غير إكراه ولا إذلال، واستعمال العنف والقوة مع أهل التوحش والأصنام ومع «أهل الكتاب» الذين أخذوا عادات التوحش في بيئة بعيدة عن التمدن، خصوصاً اليهود الذين لم تصل تعاليم دينهم إلى تمدن صحيح مطرد، فقاموا ينافقون مع محمد ويحالفون سراً على إهلاكه وإبطال دعوته بالقوة الوحشية التي لا وازع لها من حق أو شرع.
هذا هو شأن هذين الدينين العظيمين الخالص. ولكن التحمس يدفع إلى الغلو. فبعد أن انتصر الإسلام المحمدي على أعدائه في العُربة وأمن الخطر الخارجي، بعد خضد شوكة الفرس والروم واتصال المحمديين بالبيئات المتمدنة في سورية وفارس والأندلس، لم تعد موجودة الأسباب التي نزلت فيها آيات الإكراه والقتل، ولم يبقَ غير الأسباب التي أوجبت الدعوة إلى المجادلة بالتي هي أحسن، واعتبار أنّ محمداً والمسيح «يقومان من قبر واحد». والمسيحية بعد أن انتصرت بالإقناع والتساهل والتضحية في البيئات المتمدنة وأتمّت رسالتها فيها، لم يكن لها أن تنظر إلى الرسالة المحمدية نظرة الكره لأن هذه الرسالة اضطرت لإخضاع الوحشية المنافية لحكم العقل والضوابط الشرعية بالقوة والإكراه. ولكن الغلو في المسيحية وفي المحمدية سبَّب انتزاع العلم وأوجد ناساً جهالاً يستفتون فيُفتون برأيهم فيُضِلّون ويُضَلّون.
لم يقتصر أهل الإفتاء المضلّ في المسيحية على إحداث الكره وتنمية البغض والحقد ضد أصحاب الملل الأخرى، بل تناول المسيحيين أنفسهم. فصار الكاثوليك يرمون الأرثوذكس والبروتستنت واليعاقبة بالبدع والهرطقة، لأن هؤلاء الطوائف لم يجدوا أنّ من أساس الإيمان الاعتراف بخلافة البابا وأنّ الرسول بطرس عيّنه المسيح رئيساً على الرسل يقوم له خليفة بعد موته، ولأن بعض هذه الطوائف رأت أن تفهم المسيح على غير ما فهمه الكاثوليك. وصار الأرثوذكس يفعلون مثل ذلك تجاه الكاثوليك والبروتستنت واليعاقبة لمثل هذه الأسباب. وكذلك البروتستنت والنساطرة واليعاقبة. وقام أهل الإفتاء من هذه المذاهب يوغرون الصدور ويحرضون على العداء، ولولا خوفهم من أن يُرموا بالخروج الظاهر على أقوى التعاليم المسيحية لطلبوا إعلان الحرب والأخذ بالإكراه في الدين، كما حدث لهم في حرب البروتستنت والكاثوليك في ألمانية، وفي حرب الكاثوليك والهوكونوت في فرنسة. ولولا أنّ تعاليم جديدة قومية ووطنية واجتماعية نشأت في أمم أوروبا المسيحية، ممتدة إليها من منشآت الفكر السوري العظيم. وأوجدت فهماً جديداً لأحوال العالم ونظامه، لكانت الحروب الدينية المسيحية استفلحت أيما استفحال. وإلى هذه التعاليم الوطنية والقومية يعود الفضل في عدم نجاح تعاليم الفتن الدينية، وفي حصر التحريض الديني المسيحي ضمن نطاق لا يتعداه.
لم يقتصر أهل الإفتاء المضلّ في المحمدية على إحداث الغلّ والكره والحقد ضد عابدي الأصنام، ولا ضد أبناء الملل الأخرى، بل تناول المحمديين أنفسهم. فصار أهل السُنَّة يرمون أهل الشيعة بالبدع والمروق من الدين، وقامت السُنَّة والشيعة على المعتزلة، وطعنت الشيعة في صحة مذاهب السُنَّة، وناهضت الجبرية القدرية. واختلفت الشافعية والمالكية والحنبلية والحنيفية في الفروع، وجرت في بغداد وأماكن أخرى مواقع دموية في أيام العباسيين، وما بعدهم، بسبب هذه الاختلافات. وقام أهل الإفتاء من هذه المذاهب يوغرون الصدور ويحرضون على العداء، ولولا خوفهم من أن يرتد كيدهم في نحورهم لما اقتصروا على إيغار الصدور والتحريض على الكره والعداء، بل لطلبوا إعلان الحرب والإيقاع بأبناء ملّتهم. على أنه إذا فات أولئك المفتين بجهل إيقاد نار الفتنة من جديد بين لمحمديين أنفسهم وفضلو إبقاء هذه النار خامدة مؤقتاً، فلم يفتهم أن يتمسكوا بنصوص وأحاديث وجدت لمعالجة أهل الجاهلية الوحشية ليوقدوا نار الفتنة الدينية المعلونة ضد أبناء أوطانهم. إنّ الإقناع أمر مختص بالجماعات البشرية الراقية، المتمدنة فلا سبيل له في الجماعات المتوحشة. بل إنّ من فطرة هذه الجماعات وطرق تفكيرها الإكراه والغزو والسبي والسلب. فلما عرضت عليها دعوة أرقى من مستوى تفكيرها أرادت مقاومتها بالقوة والوحشية فاضطرت الرسالة لمقاومة القوة بالقوة والوحشية بالوحشية. ولكن الرسالة نفسها لم تكن رسالة وحشية بل رسالة ارتقاء وتثقيف. وإذا كانت قد استعملت مع المتوحشين اللغة التي يحسنها هؤلاء فإنها، لاتصالها بالفكر المتمدن، قررت أساليب متمدنة لمخاطبة المتمدنين. ولكن الجهال الذين يدّعون العلم لم يقدروا أن يميزوا بين لغة الوحشية ولغة التمدن، ولا بين الأساليب التي تعالج بها الوحشية والأساليب التي تليق بالتمدن، فخلطوا بين تلك وهذه واستعملوا تلك حيث يجب أن تستعمل هذه، وجعلوا الدين وقفاً على السياسة، وجعلوا السياسة وقفاً على المآرب الخصوصية والمنافع الفردية.
أشارت الزوبعة في عدد سابق (ص 488 أعلاه) إلى جهالة ذلك السياسي المسيحي في لبنان الذي وقف في المجلس النيابي، منذ نحو عشرين سنة وقال: «إذا كان المسلمون (المحمديون) لا يرضون بهذه الدولة فليتركوا البلاد وإلا أخرجناهم على رؤوس الحراب».
ولا بدّ لنا من الإشارة إلى جهالة عدد من السياسيين المحمديين، ومن الذين يدّعون العلم بالدين منهم، الذين يعلّمون بتجريد أبناء وطنهم المسيحيين من حقوقهم المدنية والسياسية، ولا يزالون يحرضون البسطاء من العامة على كره أبناء وطنهم الذين هم على غير مذهبهم الديني. وقد بلغنا أنّ أحد هؤلاء الجهال المدعو سيف الدين رحال يجلس في القهوات ويقول: «نحن (أي المحمديين) وحدنا أصحاب الحق في تقرير مصير البلاد، وعلى المسيحيين أن يخضعوا لمشيئتنا». وهذا الجاهل والذين على شاكلته لا يرون أنّ مصيبة المسيحيين والمحمديين على السواء، هي منهم، وأنهم هم علَّة التفرقة التي يستغلها الأجنبي، كما يستغلون هم البسطاء بها ليصلوا إلى شهواتهم.
هؤلاء هم الذين يقول محمد فيهم إنهم يبقون بعد أن يأخذ الله العلماء بعلمهم يُستفتون فيُفتون برأيهم الجاهل فيُضلّون الناس ويُضَلّون هم أنفسهم أيضاً.
إنّ الإصلاح القومي أنقذ الأمم المسيحية المذهب من العداوات والأحقاد الدينية. والإصلاح القومي، الذي جاءت به الرسالة القومية الاجتماعية إلى سورية، وسائر الأقطار العربية، هو الذي يتكفَّل بإنقاذ الأمة السورية، وأمم العالم العرب المحمدية طراً، من دعاوات الحقد والتعصب المذهبي، التي ينشرها المفتون برأيهم الجاهل، فتحلّ سكينة المحبة والإخاء القومي محل فتن التعصبات الدينية العمياء الذميمة، ولا تبقي لهذه الفتن محلاً ولا سبيلاً.
الهداية الجديدة قد أعلنت نفسها باسم النهضة القومية الاجتماعية، ومبادئها ستقضي على إفتاء الجهال.