الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 71، 15/1/1944
العقيدة أقوى من الأفراد. الحرب الداخلية. مؤتمر موسكو. إستقلال لبنان. إنتصار مبادىء الحزب السوري القومي ونظرياته في العالم العربي. الثقة بالنصر الأخير.
(توكومان في 45 ديسمبر/كانون الأول 1943
كان الاحتفال بمرور أحد عشر عاماً على نشوء النهضة السورية القومية الاجتماعية، في توكومان، احتفالاً عظيماً شائقاً. وقد أُخّر عن موعده بانتظار قدوم معالي الزعيم فتقرر أن يكون يوم الأحد في الثامن والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني. وقسم الاحتفال إلى قسمين: القسم الأول خطابي بين الساعة الثامنة عشرة والحادية والعشرين، والقسم الثاني اجتماعي قُدّم فيه عشاءً للزعيم والرفقاء من الساعة الثانية والعشرين.
أما الاحتفال الخطابي فكان رائعاً. وقد أقيم في الفناء الفسيح من دار الرفيقين إلياس أنطكلي ونبيهة الشيخ أنطكلي، وبعد أن امتلأ المكان بالقادمين أطل الزعيم نحو الساعة 18 والدقيقة 45 فتعالى هتاف القوميين الاجتماعيين بحياته وتصفيقهم لحضوره. لتقدم إلى كرسيه على المنصة المعدّة خصيصاً لهذا الاحتفال وحيّا الرفقاء الذين كانوا نهضوا عن كراسيهم. ثم جلس معاليه وجلس إلى جانبي المنصة المشارف الرفيق جبران مسوح ورئيس فرع الجمعية السورية الثقافية مؤقتاً الرفيق مرشد دلول، وأخذ رفيقان موقفاً وراء المنصة.
إفتتح الاحتفال المجاهد جبران مسوح، فأخبر عن تاريخ ابتداء الحركة السورية القومية الاجتماعية وأهميته وعن هذا الاحتفال ومغزاه. ثم انتقل إلى تقديم الخطباء فقدّم الرفيق دلول الذي ألقى خطاباً متقداً بالغيرة متدفقاً بالإخلاص للعقيدة القومية الاجتماعية وللزعيم. وتلاه الرفيق جورج باظا بخطاب أظهر فيه مميزات القوميين الاجتماعيين وتبعه الرفيق إدوار نمر بكلمة حماس. ثم ألقى الرفيق أنطكلي قصيدة الرفيق يعقوب ناصيف التي لم يمكن إلقاؤها في احتفال بيونس آيرس.
عند الساعة التاسعة عشرة والربع تقريباً نهض الزعيم ليخاطب القوميين الاجتماعيين فشخصت إليه الأبصار وتطاولت الأعناق وأرهفت المسامع. وكان معاليه هادئاً، منبسط الوجه فابتدأ خطابه قائلاً):
«أيها الرفقاء القوميون الاجتماعيون،
«يا رفقاء توكومان،
«إنّ سروري لعظيم بوجودي بينكم واشتراكي معكم في إجراء هذا الاحتفال الكبير تذكاراً لنشوء نهضتنا القومية الاجتماعية العظيمة منذ أحد عشر عاماً. إني مسرور جداً، لأن هذا الاحتفال والمجموع القومي الاجتماعي الذي يقوم به يقيمان دليلاً قاطعاً على نمو حركتنا بين مواطنينا. وإنّ في هذا المظهر من مظاهر حياتنا القومية الاجتماعية لبرهاناً ساطعاً على أنّ العقيدة أقوى من الأفراد والحالات العارضة.
«ليس ما حدث في توكومان سوى حلقة من سلسلة طويلة من تاريخ حركتنا، أقامت البرهان بعد البرهان على صحة هذه النظرية، فقوة إيماننا وأساس قوتنا المعنوية هما في عقيدتنا القومية الاجتماعية الصحيحة. فالأفراد يذهبون ويجيئون ويتبدلون ويتغيرون، أما العقيدة فتبقى راسخة لا تتبدل ولا تتغير ولا تتزعزع مع النفوس المتزعزعة، وإذا سقط أفراد ضعفاء في عزائمهم وإيمانهم فالعقيدة لا تسقط بسقوطهم والقضية تبقى قائمة بقيام العقيدة «إنّ أساس قضيتنا هو في عقيدتنا المقدسة ــــ في مبادئنا، التي لا قضية بدونها. وإنّ نظامنا هو الطريق الوحيدة لتحقيق قضيتنا. وجميع الأفراد الذين سقطوا من صفوفنا، لم يقدروا، مع كل غرروهم وادعائهم، أن يكونو شيئاً. ونحن نثق أنّ جميع المترددين والمنحازين عنا سوف يكونون معنا والذين ضلو سيعودون إلينا، لأن قضيتنا هي قضية أمة واحدة. هي قضية الجميع، والجميع سيدركون شيئاً فشيئاً أنهم يجب أن يكونوا للقضية إذا كانوا يريدون أن تكون القضية لهم (هتاف وتصفيق شديد).
«إنّ سروري اليوم أعظم كثراً منه في بدء نشوء حركتنا في توكومان. وهو ينسيني الآلام التي كنت أشعر بها في زياراتي السابقة. كنت أتألم، حتى في إبّان النشاط الماضي، لأن الحركة كانت مقتصرة على جانب واحد من المواطنين. كان المنضمون من العناصر المسيحية فقط، وأظهرهم أبناء مدينة أو منطقة معينة. وكان يبدو لي أحياناً أنّ معرفتهم الشخصية وصداقاتهم الخصوصية كانت تجمعهم أكثر مما كانت تجمعهم العقيدة والقضية والنظام. وكان ألمي يشتد كلما نظرت وفكرت، لعلمي أنه إذا لم تكن عقيدتنا أقوى رابطة لنا فلا قيام لنهضتنا. وقد حاولت أن تسيطر على نهج الحركة في توكومان نظرة ضيقة أهملت الدوائر الشعبية الواسعة. فكان هناك تردد كبير في قبول من يبيع البقول والأثمار في السوق الكبيرة ومن يدور يبيعها في الشوارع، وكل من لم يكن معروفاً في دائرة أصحاب الوجاهة من الجانب الذي انضم إلى الحركة أولاً. أخيراً أصاب الحركة الفشل وأحاقت تلك النظرة الضيقة بأهلها. وإذا لم يكن بد من سقوط ذاك الكيان لقيام هذا الكيان الجديد الشامل جميع العناصر التي يتألف منها شعبنا فبوركت ساعة تفككت فيها صفوف حزبنا في توكومان.
«بوركت ساعة تكسرت فيها تلك الدوائر المغلقة. وبوركت ساعة انفسح فيها المجال ليصير فرع الحزب السوري القومي الاجتماعي حركة شعبية عامة، كما هي غايته الأولية وكما أنتم الآن (هتاف وتصفيق).
«يزداد سروري بكم، يا رفقاء توكومان، لأنكم حققتم بسرعة مشروع فرع الجمعية السورية الثقافية للاهتمام بالأمور الثقافية التي يحتاج إليها مجموعنا. وإنّ نجاحكم ليجلب إليكم وإلى حركتكم أكبر الفخر، خصوصاً بسبب ما لاقيتم من استهزاء الفئات التي عميت بصائرها عن الحق وفتك فيها مرض الكبرياء ومن تصعيبها المسائل لكم. إنهم قد أساؤوا فهمكم وغلطوا في تقديركم وعموا عن غايتكم النبيلة.
«إنهم، لجهلهم، يظنون الجمعيات الثقافية للعلماء والمخرّجين من الجامعات الكبرى ويستكبرون عليكم أن تؤلفوا جمعية ثقافية. ولكنكم ثبتم في هداكم وحققتم مشروعكم.
«إنّ الذين يؤلفون الجمعية السورية الثقافية في توكومان لا يدّعون أنهم مخرّجون من جامعات سورية وأوروبا، ولا يقولون إنهم يؤلفون هذه الجمعية ليلقوا هم أنفسهم المحاضرات في التاريخ والجغرافيا والأدب وبقية العلوم والفنون. وهم لم ينشئوا هذه الجمعية للاهتمام بالمعلومات الكمالية، بل أنشأوها لتثقيف أنفسهم في الوعي القومي والمبادىء القومية الاجتماعية التي هي أساس كل ثقافة. وبعد فماذا يفيد إلقاء المحاضرات في هذه الحقبة أو تلك من التاريخ العام، أو في الفلك أو الأدب أو الفنون، إذا لم يكن هنالك اتجاه قومي اجتماعي تتعلق به تلك المحاضرات وتخدمه؟ إنّ الذين يستهزئون بالذين أنشأوا هذه الجمعية يجدر بهم أن يتعلموا منهم ويقتدوا بهم، لكي يمكن أن تصير للسوريين عامة ثقافة واحدة تفيدهم وتفيد أمتهم وجنسهم.
«إنّ تأليف القلوب وجمع فئات الأمة في مطلب واحد وعقيدة واحدة ونظام واحد وإرادة واحدة وقيادة واحدة، هو أول ثقافة يجب أن تُعنى بها الأمة السورية التي أخرجتها الفتوحات البربرية عن محور حياتها، وأفقدتها مُثلها العليا وخطط نفسيتها. كل ثقافة أخرى، قبل تمكين هذه الثقافة، تكون عملاً باطلاً، نحن بحاجة إلى تثقيف نفوسنا بالتعاليم القومية الاجتماعية التي تصيّرنا أمة واحدة حية قبل حاجتنا إلى محاضرات طائشة، مبعثرة في التاريخ والأدب والفلك والهلك والفنون الجميلة. لا فائدة لنا من جميع العلوم والفنون، إذا لم يكن لنا غرض موحّد في الحياة. الثقافة القومية الاجتماعية هي أساس كل ثقافة. هذا ما أدركتموه بفطرتكم السليمة وهذا ما عجز عن إدراكه أصحاب ثقافة الوسكي وخوان البوكر بسفسطة عقولهم.
«إنّ أسمى ثقافة لهؤلاء الذين أفسدت العادات السيئة مواهبهم الفطرية هي أن يتقن المرء مزج الكأس وتبريدها ورفعها إلى شفتيه بهدوء وتأنٍ، وأن يتعود الواحد منهم خسارة الألف والألفين و العشرة آلاف فاس دون أن يحمّر له وجه أو يضطرب له عصب. وأرفع فضيلة لهم أن يخسر الواحد الخسارة تلو الخسارة بارتياح نفسي كبير ويتحول بعد ذلك إلى المزاح والسخرية والاستهزاء بهذا الأمر أو ذاك، واحتقار المطامح النبيلة التي تحرّك شعباً نحو العلاء. دعوهم في استهزائهم فلن يضرّوكم في شيء ولن يحصدوا غير ما زرعوا!
«إنّ تطور الفرع القومي الاجتماعي في توكومان يمثّل، نوعاً ما، تطور الحركة السورية القومية الاجتماعية كلها في صعودها وهبوطها. فقد ارتقى فرع الحركة هنا، ثم تراخى ثم هبط ثم عاد فصعد هذا الصعود الكبير وبرهن أنّ كل هبوط جزئي، وقتي في سيرنا نحو مطالبنا العليا لا يلبث أن يعقبه ارتقاء، لأن أساس عقيدتنا متين. وإنّ أصحاب النفوس الضعيفة الذليلة، وحدهم، لا ينهضون بعد سقوطهم، أما الحركة ذات المبادىء الصحيحة فسيرها دائماً إلى فوق نحو قمة مطالهبا، مهما اعترض سيرها من انحناءات هبوطية. لم يوجد ولا يوجد نهضة أو حركة في العالم، مهما كانت عظيمة وقوية، تمكنت أو تتمكن من بلوغ أهدافها من غير صعود وهبوط في سيرها. ونحن نعلم أنّ المنحدرات التي تتخلل طريقنا الصعودية كثيرة، ولكننا نعلم أننا بعد كل انحدار نرتقي إلى قنة أعلى من التي سبقتها. وتاريخ حركتنا، منذ يوم نشوئها حتى اليوم، يقيم البراهين القاطعة على أنّ خط صعودنا لم ينكسر بالانحناءات التي اعترضته، بل ظل يرتفع بعد كل انحناءة إلى أعلى مما كان (تصفيق شديد وهتاف).
«أيها الرفقاء،
«بعد أحد عشر حولاً كاملاً من الجهاد نجد قوة حركتنا القومية الاجتماعية وحيويتها قد زادتا زيادة محسوسة، ونجد أننا ثابتون ومتقدمون وسط معارك عنيفة وأعلامنا وألويتنا خفاقة في كل جبهة.
«إنّ أشد حروبنا هي الحرب الداخلية. وهي آلمها وأمرّها، لأنها بيننا وبين فئات من أمتنا نعمل على رفعها وتعمل على خفضنا، نريد لها العز وتريد لنا الذل، نتوجه إليها بالاحترام وتتوجه إلينا بالاحتقار، نأتيها بالجد وتأتينا بالاستهزاء! (هتاف شديد وتصفيق متواصل).
«إنها لحرب مؤلمة جداً، لأنها بيننا وبين جماعة تريد أن تنتصر علينا وتخذلنا، ونريد أن ننتصر بها ونعززها (هتاف وتصفيق شديد).
«هنالك فئة خاصة من أهل الفساد والنفاق لا تفتأ تطعن فينا عند العامة بالتّهم الزائفة والاختلاقات الخسيسة، لتعوّض عن عجزها عن أخذ شيء على مبادئنا ونظامنا. هذه الفئات قد تحولت إلى المطاعن الشخصية وجعلت شخص الزعيم هدفاً لنبالها السامة.
«من مطاعن هذه الفئة رميهم الزعيم بالهرب من الوطن إلى أميركا تاركاً الحزب لمصيره في معارك عنيفة ناشبة بينه وبين أعدائه. وكثيرون صدّقوا هذه الترهات الغريبة عن الواقع الصادرة عن جهل مطبق وسوء نية فاضح. إني ما برحت الوطن إلا بناءً على خطة سياسية مقررة وما قررت السفر إلا بعد أن انتصرت في أشد المعارك السياسية ضدّ قوات الانتداب الفرنسي والحكومات المحلية، وبعد أن أوصلت الحزب إلى حالة هدنة مكّنته من إعادة تنظيم صفوفه وتعزيز جبهاته، ومن إنشاء جريدة النهضة التي أوصلت صوته إلى أوساط الشعب المغلق عليها والمحاصرة بالإشاعات والإذاعات المفسدة. (تصفيق شديد).
«غادرت الوطن بعد أن مرّت السجون الثلاثة وخرجنا منها ظافرين وبعد أن مرّت عواصف الانتخابات في لبنان والشام. وما خرجت من الوطن إلا والحالة هادئة ولتنفذ خطة سياسية خطيرة.
«نما الحزب السوري القومي الاجتماعي، بين سنة 1935 وسنة 1938، نمواً كبيراً واتسعت تشكيلاته وصار أعظم قوة سياسية ــــ حربية منظمة في سورية كلها. ولكن هذه القوة العظيمة من الوجهة الداخلية كانت تحتاج إلى مكملات وإكمال تجهيز لتتمكن من القبض على مصير الأمة في الساعة المناسبة. كنت أرى أنه لا بدّ من إيصال الحركة القومية الاجتماعية إلى السوريين المغتربين وجمع شملهم تحت ألويتها الظافرة، وأنه لا بدّ من درس إمكانيات العلاقات الإنترناسيونية وتعيين أفضلها لسورية. فقررت أن أزور مواطنيّ المغتربين لأدعوهم إلى النهضة القومية الاجتماعية وأن أمرّ في مجيئي إليهم ببعض الدولة الأوروبية، وأن أمرّ في عودتي إلى الوطن ببعض الدول الأوربية الأخرى. ولما حدثت أزمة تشكوسلوفاكية سنة 1938، وكنت حينئذٍ في إيطالية، وكاد يكون من ورائها نشوب الحرب في تلك السنة ولولا مؤتمر مونيخ، أرسلت كتاباً بالبريد الجوي إلى المنفذ العام للشاطىء الذهبي في إفريقيا الغربية الرفيق أسد الأشقر، الذي رافقني فيما بعد إلى هذه البلاد، أقول له فيه إنه إذا نشبت الحرب فإني أعدل عن متابعة سفري إلى أميركا وأعود إلى الوطن لأكون في المركز في هذه الحالة الحرجة (هتاف وتصفيق). وأوصيته بالقيام بالسفر إلى أميركا لدعوة المغتربين إلى مؤازرة حركة نهضة أمتهم. ثم انقشعت غيوم الحرب بانعقاد مؤتمر ميونيخ، فعزمت على السير في الخطة المرسومة من الأول. فجئت البرازيل أولاً وبعد أن قضيت فيها، بين مواطنيّ، نحو ستة أشهر، قدمت الأرجنتين. وقد نشبت الحرب الحاضرة بعد وصولي إلى هذه البلاد بنحو ثلاثة أشهر ونصف. وكان من وراء نشوب الحرب أنّ القنصلية الفرنسية في هذه البلاد الكريمة رفضت تمديد مدة جواز سفري التي كانت انتهت بُعيْد وصولي. وجرت ملاحقة الحزب في الوطن من قبل قوات الاحتلال الفرنسي. ورغماً من بسالة رجال الإدارة الحزبية العليا وحنكتهم، وبسبب خيانة أصول شرف التعامل من قِبَل الفرنسيين، قبض على معظم رجال مجلس العمد وعلى عدد من كبار المسؤولين والموظفين في الحزب، وحوكمت زعامة الحزب وإدارته غياباً ووجاهة في مجلس عسكري فرنسي وحكم عليّ غياباً بعشرين سنة سجناً وعشرين أخرى إقصاء، وحكم على معاونيّ أحكاماً قاسية مختلفة بين خمس عشرة سنة سجناً ومثلها إقصاء، وعشر سنوات سجناً ومثلها إقصاء، وما دون ذلك حسب ترتيب الصلاحيات والمسؤوليات. فاضطررت، على الرغم مني، لأن أكون ضيف هذه البلاد الكريمة وشعبها الشريف. وهي ضيافة أوجدت في نفسي تقديراً كبيراً للأمة الأرجنتينية النبيلة وتقاليدها الممتازة. هذا هو سبب خروجي من الوطن وكيفيته، وهذا هو سبب بقائي في هذا القطر الأميركي. أني أعطيكم هذه الحقائق وأنا أعلم أنّ أهل النفاق والشقاق لا يردعهم شيء عن مآربهم الدنيئة، فهم كلما صعب عليهم تذييع بعض اختلاقاتهم عمدوا إلى اختلاقات أخرى. والأكاذيب لا تنتهي إلا عندما يكون هنالك إخلاص في طلب الحقيقة. وأهل النفاق يطلبون غاياتهم السافلة، لا الحقيقة.
«إنّ الثبات والصبر في المعارك والشدائد هما من أبرز صفات زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولكن هل أنا هنا خارج العراك؟ كلا، بل إني وسط معركة عظيمة نشبت يوم وصولي إلى أميركا ولا تزال نارها مستعرة في كل جانب. إنّ تاريخ كل فرع من فروع الحركة السورية القومية الاجتماعية في المغترب يشهد أنّ كل نمو وكل تقدم لهذه الحركة العظيمة، في ديار الغربة، لم يحدث إلا بعد معارك شديدة وبعد تغلب على صعوبات كبيرة. وهذه المعارك ليست وهمية أو خيالية، بل حقيقية ومليئة بأخطار الدسائس والمؤامرات (تصفيق).
«أنا هنا محارب لا منزوٍ. أنا هنا، وفي كل مكان، لأعادي من يعادي نهضة أمتي ولأسالم من يسالمها ولأودّ من يودّها. (هتاف وتصفيق شديد). ومن المطاعن التي يرمون الزعيم بها قولهم إني قاسٍ ومتكبر. أما أني قاسٍ فلأني لا أعرف في الحق لومة لائم. وأما أني متكبر فصحيح بحق. فقد قلت من قبل وأعيد القول الآن: إني متكبر على كل متكبر على القضية والحركة والنظام. ومن ظن من المتكبرين أنّ رأسه بين النجوم فليعلم أني أرى النجوم مواطىء لقدمي، أما الذي يترك الكبرياء ويحسب نفسه صغيراً بالنسبة إلى القضية المقدسة والعمل العظيم الذي وقفنا نفوسنا عليه فهذا أخي وصديقي ورفيقي يسير معي ولا أتخلى عنه (هتاف وتصفيق متواصل).
«يا رفقائي،
«نحن الآن في الحول الثاني عشر لبدء نهضتنا القومية الاجتماعية وجهادنا لبلوغ غايتها السامية. ومع أننا نأسف لطول مدة الحرب الداخلية، التي امتد وقتها بسبب ما تقيمه فئات الرجعة والنفاق من العراقيل في طريق توحيد الأمة في مطلب واحد وحركة واحدة وقيادة واحدة، فلا تردد عندنا في وجوب متابعة هذه الحرب إلى آخرها، لأنه على نتيجة هذه الحرب يتوقف نهوض سورية أو سقوطها النهائي وتلاشيها. وإنكم تلاحظون من تفضيل جريدة الزوبعة العناية بحوادث معاركنا الداخلية على الاهتمام بشؤون الحرب العالمية الحاضرة، إننا نولي شؤوننا أكثر اهتمامنا. وإذا كانت معاركنا أصغر نطاقاً من معارك الحرب الكبرى الدائرة رحاها فهي لنا أعظم شأناً من هذه. إنّ ما هو من شؤوننا يجب أن يهمنا أكثر كثيراً مما هو من شؤون الغير. قبل أن نهتم بما تدّبره ألمانية لروسية، وما تدبّره بريطانية لألمانية، وما تعدّه أميركانية لليابان، يجب أن نهتم بسير عقيدتنا وبقضايانا الداخلية التي يجب حلها من أجل توحيد أمتنا وتهيئتها للوقوف موقفاً واحداً في ميدان تنازع البقاء والتفوق (تصفيق).
«وربّ أمر صغير يجري في وسطنا يعدّه الخالون من الثقافة القومية شيئاً تافهاً، بالنسبة إلى الأمور الكبيرة التي تجري في الدول الكبرى، هو أجدر باهتمامنا وتفكيرنا من جميع هذه الأمور المتعلقة بغايات بعيدة عن غايتنا...
«بمناسبة ذكر جريدة الزوبعة أرى أن أوضح لكم حقيقةً يحاول أصحاب الأغراض الرجعية والنفعية تشويهها لينسبوا إلى «زعامة الحركة القومية الاجتماعية ما لا يصح نسبته إليها. فكل مقال، مثلاً، يكتبه أحد القوميين ليردّ به على مطاعن دجالي الأدب والصحافة وليعيد إليه الصاع صاعين، وتنشره الزوبعة، يصير سبباً لتآويل كثيرة عند أصحاب النيّات السيئة فيهبّون قائلين: لماذا تتعرض الزوبعة لهذا الصحافي أو ذاك، أو لذلك الرجل وتلك لمسألة ويلقون اللوم، طبعاً، على الزعيم. ومع أنّ لا شيء مما ينشر في الزوبعة يخرج عن تناول حالة أوساطنا وحركة من حركاتها، فإن الحملة على الزوبعة بهذه الحجج الواهية صارت موضوعاً هاماً للتغرير بالذين يميلون إلى غمض العيون على القذى وترك الأمور تجري في أعنّتها. فليعلم الجميع أنّ جريدة الزوبعة هي جريدة قومية اجتماعية عمومية، أي أنها ليست الجريدة الرسمية لمكتب الزعيم أو لإدارة الحزب. فهي مفتوحة لأقلام جميع القوميين لتظهر فيها جميع نواحي العراك العقائدي والصراع النفسي. وهي تتناول المواضيع الشعبية كما تتناول الأبحاث العليا. وقد قضت الضرورة أنه لا يمكن الفصل بين المواضيع والمعارك الشعبية من جهة والمواضيع الأساسية والصدام السياسي من جهة أخرى، وإيجاد صحيفة خاصة لكل قسم من هذين القسمين. فلم يكن بدّ من فسح المجال في الزوبعة لجميع هذه الحاجات.
«لا يعني ذلك أنّ الزوبعة جريدة منفلتة. كلا، فهي جريدة قومية اجتماعية عامة وموجهة في المسائل السياسية. فما نشرته الزوبعة في هذه المسائل يحمل طابع النهضة القومية الاجتماعية وينطبق على خططها. ولا يعني ما قلته في صدد عنايتنا بمسائلنا الداخلية أولاً، أننا نهمل تتبُّع ما يجري في العالم. فالحقيقة أننا نتتبع كل أمر يحتمل أن يوجد حالة جديدة أو تأثير في مجرى شؤون العالم. وقد جرت مؤخراً أمور كنا نتوقع حدوثها من زمان.
«كنت أتوقع نشوب الحرب الحاضرة، وكنت أرى أسباب التزاحم الإنترناسيوني الباعثة عليها. وبعد وصولي إلى الأرجنتين بأيام غير كثيرة وقبل ابتداء الحرب بثلاثة أشهر وجّهت إلى القوميين الاجتماعيين والشعب السوري (انظر ج 3 ص 360)، كافة، نداء صوّرتُ فيه الحالة المقبلة ودعوتهم إلى اتخاذ الموقف الذي يكون فيه إنقاذ مصالح أمتنا. ثم عدت فوجهت نداء آخر في سنة 1940 (انظر ج 4 ص 47). ومن يراجع هذين الندائين والتصريحات السابقة التي أدليت بها في مواقف متعددة يجد أنه ليس في كل ما يحدث اليوم ما يمكن أن يسمّى مفاجأة لنا.
«منذ أسابيع معدودة جرى في موسكو مؤتمر عقده وزراء خارجية روسية وبريطانية وأميركانية لإيجاد تفاهم بين هذه الدول على سياسة الحرب، وعلى الشؤون التي يمكن أن تتضارب فيها مصالحها ومراميها بعد الحرب. لم ينشر شيء يدل على المواضيع المعينة التي بحثت وما تقرر في صددها. ومن البلاغات الرسمية يستنتج أنه يبقي مجال واسع لحرية التزاحم على النفوذ السياسي في مناطق كثيرة. ولكن يحتمل أن تكون قد تقررت أمور ذات بال. والمؤسف جداً أن لا نكون الآن في موقف نقدر فيه على طلب إيضاح في ما يخص مستقبل أمتا ووطننا. فالإرادات الأجنبية العارفة بانشقاق السوريين وتخاذلهم لا تشعر أنها تحتاج إلى مراعاة حقوق سورية ومطامحها في ما تقرره، خصوصاً في أمر وطننا والشرق الأدنى والبحر المتوسط. هذه القضايا الخطرة لا تبقي مجالاً للشك في أنّ الوحدة السورية القومية التي تقررها مبادئنا ويحققها نظامنا هي طريق الإنقاذ الوحيدة لسورية وحقوقها ومصالحها.
«حدثت مؤخراً في الوطن حوادث سياسية ذات أهمية لنا. وهي غريبة جداً ومستغربة إلا في دوائر الحركة السورية القومية الاجتماعية العليا. فإن رئاسة الجمهورية اللبنانية وحكومتها ومجلسها أجمعت على إدخال تعديلات على الدستور اللبناني معناها التحرر من السيادة الفرنسية على لبنان. وقد ظن الناس أنّ هذه الحركة قائمة على نزعة تحريرية في نفوس القائمين بها. والحقيقة أنّ أسباب هذه الحركة موجودة في تنازع النفوذ بين بريطانية وفرنسة على شمال سورية. وهو تنازع قديم اشتهر أمره عقب الحرب الماضية. إنّ أكثرية أعضاء المجلس النيابي في لبنان هم من النواب السابقين ومن الذين اشتهرت المواقف التي أظهروا فيها «تعلقهم» بالدولة الفرنسية «الكريمة» و«باستقلال لبنان الممنوح من فرنسة» ومن الأمور التي يهمنا ملاحظتها أنّ البطريرك الماروني، الذي كان لعهد قريب يشرب نخب فرنسة مع المندوب الديغولي ويشيد «بالصداقة التاريخية» بين لبنان وفرنسة وباعتماد اللبنانيين عليها، هو في عداد الذين يطالبون اليوم بالاستقلال ورفع يد الفرنسيين عن لبنان!
«إنّ حركة هؤلاء الأشخاص والشخصيات لا تتفق مع مواقفهم الماضية. فحين كان الحزب السوري القومي ينكر أنّ لبنان دولة مستقلة، كانت الفئات الحاكمة والمستندة إلى القوة الفرنسية تنعته بالكفر. وجميع الصحافة الانفصالية في لبنان والمغترب كانت تعدّ لبنان مستقلاً وتُعيّدُ لاستقلاله في أول سبتمبر/أيلول. والبطريرك الماروني كان يؤكد أنّ لبنان مستقل. ففي خطابه السياسي سنة 1937، الذي أوجب ردّي عليه وتصحيحي أغلاطه، قال: «أما لبنان، الذي كان له شبه استقلال، (يعني في العهد التركي) فقد منح الاستقلال التام بعناية جامعة الأمم وفضل الدولة الكريمة فرنسة المحبوبة». فإذا كان لبنان مستقلاً منذ أعلن استقلاله الجنرال الفرنسي غورو فلماذا يجحد الآن البطريرك والنواب الذين «رتعوا» في بحبوحة «الاستقلال اللبناني» نعمة فرنسة وفضلها على لبنان؟!.
«ليست الغاية الاستقلالية هي التي حفزت جمهور الحكومة اللبنانية إلى طلب رفع الانتداب الفرنسي، بل ضعف السلاح الفرنسي وسقوط فرنسة ووجود قوة أخرى مسلحة في البلاد لها مصلحة في زوال السيادة الفرنسية، هي الدوافع الحقيقية لهذه الحرة المنعوتة بالاستقلالية. ومن الأدلة الناصعة على ذلك طلب البطريرك الماروني حماية الجيش الإنكليزي للبنانيين من «صداقة فرنسة التاريخية» وطلب الحماية الأجنبية ليس حركة استقلالية.
«كاد يبح صوتنا ونحن ننادي اللبنانيين إلى طريق الاستقلال الصحيح. فكان المتعلقون بفرنسة والمنافع الفرنسية، ومنهم أكثر طلاب الانفصال عن فرنسة اليوم، يتهموننا بالكفر وجحد نعمة الاستقلال اللبناني الذي أعلنه القائد غورو. وعبثاً كنا نقول لهم إنّ الاستقلال الصحيح هو الذي تعلنه الأمة لا الذي يعلنه قائد جيش أجنبي محتل البلاد وإنّ الاستقلال الذي يعلنه ذو سلطة أجنبية يعلن أنّ الحق فيه هو لتلك السلطة لا للشعب لمعلن له. لقد أبوا إلا أن يتابعوا تلك المهزلة فكان لهم استقلال واحد معلن من قِبَل الجنرال غورو، ثم جاء كاترو ومنحهم استقلالاً ثانياً فصار لهم استقلالان (ضحك من الجمهور). وفجأة يقف الآن أصحاب الصداقة التاريخية» مع فرنسة ليطلبوا الاستقلال عن فرنسة وحماية الجيش البريطاني!
«قلنا من قبل ونعيد القول اليوم إنّ الذين قبلوا السيادة الفرنسية في البلاد باسم الحرية والاستقلال والديموقراطية هم الذين يقبلون بكل سيادة غيرها عندما تسقط فرنسة. والذين اتهموا الحزب السوري القومي الاجتماعي بالعمل لمصلحة ألمانية أو إيطالية، لأنه رفض ذلك الاستقلال السخري وعمل للوحدة القومية والاستقلال الصحيح، هم الذين يكونون في مقدمة طالبي الحماية الألمانية أو الإيطالية إذا قُدّر لألمانية أو إيطالية الانتصار واحتلال البلاد. وها هم قد أعلنوا أنفسهم. فبين ليلة وضحاها انتقلوا من حالة التغني «بفضل» فرنسة إلى حالة جحد نعمتها وهي ساقطة. ولو كانت فرنسة واقفة على قدميها كالأول لكان تغنّيهم بفضلها وصداقتها عديم النهاية.
«مهما يكن من أمر هذه الحركة الجديدة في لبنان فهي مفيدة من وجهة نظرنا. وأهم فائدة هي تنبيه الشعب إلى الخداع الماضي وعدم إمكان خدع عامة الموارنة في المستقبل بالأصل الفرنسي والصداقة الفرنسية. أما الاستقلال الصحيح فليس موجوداً في مطاليب الحكومة اللبنانية.
«ليس للبنان أساس اجتماعي ــــ اقتصادي للاستقلال. فمن الوجهة الاجتماعية لا تكوّن هذه الجمهورية اللبنانية مجموعة دينية واحدة، كما قصدوا أن تكون. ولم تبقَ اليوم للبنان أكثرية مسيحية. والمسألة الدينية هي أساس كيان لبنان، وما دام كيان لبنان لم يحل هذه المسألة فمن العبث التشبث بفكرة هي ضد مصالح الشعب السوري في لبنان وجميع المناطق السورية. وقد وُجد من ادّعى، تضليلاً للناس، أنّ المسألة اللبنانية ليست مسألة دينية، بل سلالية ــــ اجتماعية ــــ تاريخية محتجاً بانتساب اللبنانيين إلى الفينيقيين، تمييزاً لهم عن باقي السوريين، وبأن لبنان كان دائماً دولة مستقلة، وغير ذلك من الحجج الفاسدة. إنّ انتساب سكان جبال لبنان إلى الفينيقيين باطل وقد أثبتت بطلانه التحقيقات العلمية الأنتربولوجيا والدموية. فسكّان لبنان هم، في الغالب، من السلالة المفلطحة الرؤوس، في حين أنّ الفينيقيين هم سلاسلة مستطيلة الرؤوس، وشكل الرأس اللبناني هو وريث الشكل الحثي لا الفينيقي. ولم تكن فينيقية تنتسب إلى لبنان، بل إلى سورية. وإذا رجع المسيحيون إلى كتابهم، الإنجيل، وجدوا أنّ فينيقية معرفة فيه بفينيقية سورية، لا بفينيقية لبنان أما ما نشأ في لبنان من إمارات فلا يبرر القول إنّ لبنان كان دولة قومية مستقلة. فالإمارات هي من صفات العهد الإقطاعي، لا العهد القومي. وفي فرنسة كانت عشرات الإمارات الكبيرة، فضلاً عن الصغيرة، وكذلك في إيطالية وألمانية وإسبانية وفي كل بلاد مرّت في طور الإقطاع. فإمارة فخر الدين المعني في لبنان، مثلاً، كانت إقطاعة كبّرها السلطان سليم التركي. وتاريخ فخر الدين المعني يدل على أنه رجل سياسي كبير عرف بثاقب رأيه أنّ لبنان وحده لا يكفي لتكوين دولة مستقلة فحاول إيصال حدود دولته إلى أبعد حدود سورية. ومن الوجهة الاقتصادية لا يشكل لبنان سوقاً منفصلة عن الشام وفلسطين، والموارد الطبيعية تكمل بعضها بعضاً في هذه الأجزاء الثلاثة الرئيسية، بحيث لا تكون هنالك وحدة اقتصادية إلا بها جميعها.
«ليست مطاليب الحكومة اللبنانية استقلالية بالمعنى الصحيح، لأنها خالية من شروط الاستقلال، ولكنها خطوة موافقة. أما الاستقلال الصحيح فهو الذي يقوم على الوحدة القومية الاجتماعية لجميع السوريين، التي تعلنها وتجاهد لتحقيقها حركتنا القومية الاجتماعية.
«كما أنه لا أساس اجتماعي ــــ اقتصادي لإنشاء دولة في لبنان كذلك لا أساس اجتماعي ــــ اقتصادي لإنشاء أمة واحدة ودولة واحدة من أقطار العالم العربي المنتشرة في قارتين، والمتباعدة فيما بينها بما يتخللها من صحارى وبحور، والمتباينة شعوبها بالأمزجة والنفسيات والثقافة والمصالح. إنّ فكرة الوحدة العربية هي هوس ديني أكثر منها حقيقة.
«قام كثير من المنافقين والرجعيين يحاربون الحزب السوري القومي الاجتماعي ويتهمونه بالعداء للعرب لأنه لم يجعل غايته الوحدة العربية، ولم يقل بقومية عربية واحدة غير موجودة إلا في مخيلة الواهمين وأهل الأحلام. ولكن مبادئنا التي يحاربها أولئك الجهال هي التي تفعل اليوم في العالم العربي كله.
عند هذا الحد تناول الزعيم كرّاس مبادىء الحزب وغايته وقرأ آخر فقرة من الشرح وهي:
«ومن ناحية العالم العربي يرى الحزب سلك طريق المؤتمرات والمحالفات التي هي الطريق العملية الوحيدة لحصول تعاون الأمم العربية وإنشاء جبهة عربية لها وزنها في السياسة الإنترناسيونية».
(وتابع الزعيم قائلاً):
«أليست هذه الخطة التي قررها الحزب السوري القومي الاجتماعي هي ما تحاول الأقطار العربية اليوم السير عليها؟ أليس هذا ما دعا إليه رئيس الوزارة المصرية طالباً إلى رئيس وزارة العراق وإلى حكومة العربية السعودية وغيرها عقد مؤتمر يقرر فيه التعاون بين هذه الأمم؟ أليس هذا تنفيذاً للخطة التي أعلنها زعيم الحزب السوري القومي قبل حكومة مصر أو غيرها من الحكومات؟ بلى، هذه هي الحقيقة الصريحة.
«وقد رأينا سنة 1936 كيف أنّ مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي ونظامه أصبحت الأساس لقيام الحزب العراقي في العراق ولإيجاد منظمة «شباب الوفد» في مصر، كما كانت القدوة «للقمصان الحديدية» التي أنشأتها «الكتلة الوطنية» في الشام إغراءً للشباب. وها نحن نرى اليوم مؤتمر حزب الوفد الذي عقد في أواسط هذا الشهر يقرر تطبيق منهاج الحزب السوري القومي الاجتماعي. ففي مقررات هذا المؤتمر التي وردت بها برقية في الثامن عشر من هذا الشهر هذه البنود:
1 ــــ «إستقلال مصر وحريتها.
2 ــــ إنشاء جيش قومي.
4 ــــ الحياد في الحرب.
6 ــــ تنشيط التفاهم المتبادل مع الشعوب العربية».
هذه أهم النقاط التي قررها مؤتمر حزب الوفد المصري. ومشابهتها لبعض مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي ونقاط منهاجه البارزة واضحة. فعدا عن فكرة الاستقلال الذي هو أمنية كل شعب حي نجد البند الثاني القائل بإنشاء جيش مصري قوي منطبقاً على نص المبدأ الإصلاحي الخامس من مبادىء حركتنا وهو «إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن». وكذلك الحياد في هذه الحرب هو ما قررته لسياسة الحزب القومي الاجتماعي. ومن أبرز مظاهر تأثير خططنا في تفكير مصر السياسي البند السادس من مقررات مؤتمر الوفد القائل بتنشيط التفاهم المتبادل مع الأقطار العربية، فهو ينطبق كل الانطباق على قواعد نهجنا السياسي وعلى الفقرة من شرح هذا النهج المتعلقة بموقفنا من العالم العربي التي قرأتها لكم منذ هنيهة.
«يذيع مؤتمر حزب الوفد المصري هذه المقررات ولا يجد مقاومة من أوساطنا الرجعية والنفعية، لأن هذه المقررات المصرية لا تهدد منافع هذه الأوساط مباشرة، ولأن تنفيذها يجري في مصر، ولأن الذين ينظرون إلى الأمور بنظّارات الحزبية الدينية لا يجدون اعتراضاً على ما يقرره حزب هو كله، تقريباً، محمدي أو سُنِّي خاصة، وزعامته من أبناء الملّة المحمدية. كذلك المسيحيون أو الموارنة خاصة في لبنان قبلوا رفض البطريرك الماروني وشخصيات مارونية أخرى استقلال غورو وكاترو ولم يقبلوه من زعامة الحزب السوري القومي الاجتماعي، لأن الزعيم ليس من أبناء الطائفة المارونية، ولأنه لم يبنِ الحزب على نزعة أو حزبية مسيحية. فالحقيقة عند المصابين بعمى الحزبية الدينية لا تكون حقيقة إلا إذا جاءت من الجانب الديني المرغوب فيه ووفاقاً لخطط الحزبية الدينية.
«مهما يكن من مكابر الرجعيين ومقاومة المنافقين والنفعيين، فلم يعد في الإمكان ستر انتصار مبادئنا وخططنا وسيطرتها على أساليب التفكير والعمل السياسيين، ليس فقط في وطننا، بل في جميع الأقطار العربية الناهضة (هتاف وتصفيق شديد). ونحن يهمنا حصول الحقيقة ولا يهمنا اعترف بها المكابرون في الحق أم لم يعترفوا (تصفيق).
«أيها الرفقاء القوميون الاجتماعيون،
«إنّ أحد عشر حولاً مرّت، في جهاد متواصل ومعارك شديدة مع قوات داخلية وخارجية كبيرة، قد برهنت على أنّ عقيدتنا ونظامنا هما الأساس الذي لا أساس غيره لإصلاح شؤوننا وتوحيد أمتنا. وكثير من الذين أنكروا هذه الحقيقة الكبرى يضطرهم الواقع للعمل بها طوعاً أو كرهاً. ومهما ظهرت لكم من بروق فثقوا أن لا شيء يُغني عن تحقيق مبادئنا بكاملها. واعلموا أنّ الساعة التي تقوم بها حركتنا قومتها الكبرى لتسترجع لسورية حقوقها المهضومة، وتوجد لها مكانها الممتاز تحت الشمس تقترب بسرعة. فليكن إيمانكم قوياً وثابروا، فإنكم تعتنقون قضية كُتِبَ لها النصر!» (هتاف شديد وتصفيق).
(تكلم الزعيم نحو ساعتين وختم خطابه بالهتاف بحياة سورية فردد الرفقاء هتافه ترديداً دوّى في الجو. وقد فاتنا تسجيل بعض عبارات خطابه ولكننا نعتقد أننا لم نترك إلا القليل.
وقد نزل الزعيم من المنصة وسط عاصفة من التصفيق وانتقل إلى غرفته الخاصة ليغيّر ثيابه التي ترطبت من العرق. وبعد نصف ساعة خرج لنزهة قصيرة فأُعدّت عجلة ركبها ورافقه إثنان من القوميين الاجتماعيين، فجالت العجلة بمعاليه نحو نصف ساعة ووقفت أمام المطعم الذي أعدّ فيه العشاء الرسمي فتقدم الزعيم وأخذ مركزه في وسط المائدة الرئيسية وقد حياه الرفقاء حين دخوله.
كانت حفلة العشاء رائقة شائقة وانتهت بالأناشيد والأهازيج القومية اشترك فيها جميع الرفقاء فكانت من أجمل دلائل الحياة ويقظة الشعور).