الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 53، 1/10/1942 ــــ العدد 56، 16/11/1942
بعد الاعتقالات الأولى التي تعرّض لها الحزب السوري القومي الاجتماعي في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1935 وهو لا يزال حزباً سرياً، وقبض فيها على الزعيم وجميع أعضاء مجلس العمد الأُوَل وبعض مأموري منفذية بيروت وبعض الموظفين الآخرين، وكان من ورائها الحكم على الزعيم بالسجن ستة أشهر، وعلى أعضاء مجلس العمد أحكاماً تتراوح بين شهر ونصف ونصف شهر مع وقف التنفيذ، عدا عن الغرامات المالية على الزعيم ومعاونيه، عادت الاعتقالات مرة ثانية ولمّا يمضِ على خروج الزعيم من سجنه الأول سوى أربعين يوماً تقريباً. وكانت الاعتقالات صادرة هذه المرّة من الحكومة اللبنانية التي كان إميل إده رئيس جمهوريتها وأيوب ثابت «أمين سر الدولة» فيها. وكان إميل إده المصاب بجنون العظمة وهوس الطغيان يريد أن يبرهن للفرنسيين، في أول عهد عمالته من قبلهم، أنه يقدر أن يُخضع الشعب اللبناني بالسياط و العقارب ويقمع كل حركة ترمي إلى تغيير الحالة السيئة التي يئن منها الشعب في لبنان، كما في الشام وكما في فلسطين. ويقال إنه كان قد تعهد لسادته أن يقضي على الحركة السورية القومية الاجتماعية القضاء المبرم. يؤيد هذا القول أنّ هذه الاعتقالات الثانية كانت مصحوبة بموجة اضطهاد قليلة النظر.
ابتدأت هذه الاعتقالات في أواسط شهر يونيو/حزيران 1936 بشكل تحقيق في قضية ضرب الصحافي عارف الغريب صاحب جريدة المساء التي كانت تصدر في بيروت في بيته. ثم تطورت هذه القضية وامتدت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي كله بسبب اكتشاف نسخة من «مرسوم الطوارىء» (انظر ج 2 ص 37) مع المدعو جورج حداد الذي طُرد فيما بعد من الحزب على أثر اكتشاف دوائر استخباراته وثيقة تُثبت خيانة المطرود المذكور وعمله لمصلحة الجاسوسية الفرنسية. والمرسوم المتقدم ذكره يشتمل على تدبير وإعلان العصيان المدني في جميع منطقة الانتداب الفرنسي إذا لم تكفّ الحكومة اللبنانية عن الاضطهادات التي أخذت توجهها إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي.
أدى وقوع هذا المرسوم السري في أيدي رجال التحري إلى فتح تحقيق جديد في قضية الحزب كله. وهذا كان غرض حملة الاضطهاد في الصحف وفي القرى والمدن بواسطة رجال التحري والجندرمة اللبنانية والشرطة وفي دور القضاء. فأخذ رجال التحري ينبثون ويتعقبون الزعيم في حركاته وسكناته ويتحينون الفرص للقبض عليه. وأخيراً بلغ مدير الشرطة أنّ الزعيم في منزله في رأس بيروت، وأنه يمكن القبض عليه في الحال. فأمر مدير الشرطة أسعد البستاني بتوجيه قوة من رجال التحري لتأتي بالزعيم وتسلّمه إلى القضاء. فتوجهت حملة مؤلفة من نحو 15 رجلاً من رجال التحري بقيادة الكومسيار فريد شهاب (المير) وأحاط معظمها بمنزل الزعيم وخمسة منها، على رأسهم الكومسيار نفسه، طرقوا باب المنزل فلما فُتح لهم دخلوا بدون استئذان. وكان منزل الزعيم محروساً بستة من رجال الحرس يبيتون في داخله. فلما اقتحم رجال التحري المدخل صفَّر حارس الباب فخرج الحرس الموجودون من غرفتهم الأمامية واعترضوا رجال التحري الذين كانوا قد صاروا في البهو. فعلت ضجة فخرج الزعيم من غرفته وإذا الجدل قائم بين رجال الحرس ورجال التحري، وقد أبدى الشر ناجذه. فسأل الزعيم ما الخبر فأجابه أحد الحرس «التحرّي دخلوا بدون استئذان ونحن نحاول إقاعهم بوجوب العودة إلى الخارج». فسأل الزعيم رجال التحري «من رئيسكم؟» فتقدم الكومسيار وقال إنه مأمور بطلب الزعيم إلى دار القضاء، وإنّ «الشبان» يحاولون اعتراض مهمته، وإنّ التحرّي يريدون إفهامهم أن لا يعترضوهم. فأجاب الزعيم ــــ «لا أحد غيري يأمر في هذا البيت، وهؤلاء الشبان لا يعرفون سلطة غير سلطتي، وإني أنصح لكم بالرجوع إلى الخارج، وأن لا تدخلوا منزلي من غير استئذان وإلا فأنتم المسؤولون عن عواقب عملكم». أدرك رجال التحري أنّ الموقف حرج جداً، وأنّ الخطر أصبح أدنى من قاب قوسين. وكان كل واحد من رجال الحرس قد وضع يده على مسدسه وكلام الزعيم حاسم لا يحتمل أخذاً ورداً. فأسقط في أيديهم ولم يرَ رئيسهم بداً من الإذعان فأمر رجاله بالعودة فخرجوا وبقوا في الشارع.
في هذه الأثناء جرت مخابرة مع بعض مراكز الحزب فجاءت قوة حزبية مسلحة بالمسدسات ونزلت في منزل قريب من منزل الزعيم. وأخذت قوات حزبية أخرى تتحرك، وجاء قائد القوة الحزبية يرجو الزعيم باسم الجنود أن لا يسمح بوضع الحكومة يدها عليه. فأمر الزعيم الضابط بالعودة إلى موقفه وأن يبلّغ المتطوعين سلامه وأمره بالمحافظة على النظام تحت جميع الظروف. بعد ذلك أرسل الزعيم فاستدعى أعضاء مجلس العمد فوفدوا عليه، وفي مقدمتهم رئيس مجلس العمد، نعمة ثابت، فتداول الزعيم معهم في الأمر، وبعد درس الحالة قرر الزعيم التوجه إلى دار القضاء ليضع نفسه تحت التحقيق ويحول دون حصول اصطدامات دامية تؤول إلى تدخّل القوات الفرنسية، والحزب لمّا يستعدّ لهذه الحرب الدامية. وعلى الأثر وضع الزعيم المراسيم بالتدابير الإدارية التي يقتضيها الموقف وكيفية سير الأمور أثناء غياب الزعيم عن الإدارة وسلّمها إلى المختصين. ثم أرسل فبلّغ الحرس الإذن لكوميسار التحري بالدخول وحده فدخل المنزل إلى البهو، وبعد أن صرف الزعيم رئيس مجلس العمد وأعضاء المجلس أَذِن للكوميسار بالدخول عليه فدخل فلاطفه الزعيم وشرب معه فنجان قهوة ثم نهض ودعا الكوميسار لمرافقته إلى دار القضاء. فركب الزعيم سيارة يرافقه الكوميسار، وركب التحري سيارتهم، وركب عدد من القومييين سيارة أحد الرفقاء، وتوجه الجميع نحو دار القضاء. فأدخل الزعيم على قاضي التحقيق الأول حسن قبلان الذي أخذ إفادته الأولى عن «مرسوم الطوارىء» واستمرار الحزب السوري القومي الاجتماعي رغم صدور قرار الحكومة اللبنانية بحلّه.
بعد فراغ قاضي التحقيق من أخذ إفادة الزعيم، دخل المدعي العام المركزي وجيه الخوري ووجّه إلى الزعيم كلاماً خارجاً عن الأصول فردّ عليه الزعيم بلهجة شديدة. فاضطرب المدعي العام وفاه بقول فضح نيّات الحكومة اللبنانية وهو ــــ «إنّ الحكومة اللبنانية قد قررت القضاء على الحزب السوري القومي فإذا أبدى الحزب أية مقاومة عمدت الحكومة إلى إجراءات فاصلة. ولا تتأخر الحكومة، لتحقيق غايتها، عن أن تحملك على كتابة ورقة تعترف فيها بأنك انتحرت ثم تقتلك». فأجابه الزعيم: «إنك تتكلم بلهجة المجرمين وليس بلهجة من هو في مركز الادّعاء العام. وإني أكلفك سؤال كومسيار التحري أتمكّن هو من المجيء بي بالقوة أم أتيت بمطلق اختياري؟ وأبلغك لتبلّغ حكومتك أنها إذا أسقطت شعرة واحدة من رأسي بدون موافقتي واختياري فلا يبقى من أفرادها وعائلات أفرادها من يخبّر بخبر».
يتضح مما تقدم نوع الحالة السائدة في صدد اعتقال الزعيم المرّة الثانية واضطهاد الحزب السوري القومي الاجتماعي من قِبل الحكومة اللبنانية وبإيعاز المفوضية الفرنسية. وبعد القبض على الزعيم قبضت الحكومة على بعض الرجال المركزيين، ولكنها لم تتمكن من القبض على الأمين نعمة ثابت الذي كان أبرز رجال الإدارة بعد الزعيم، ولا على الأمين مأمون أياس الذي كان شديد السهر على الأعمال الحزبية، ولكنها وسّعت أعمال الاضطهاد في جميع أنحاء «الجمهورية اللبنانية».
تجاه هذه الحالة رأى الأمين نعمة ثابت بحكم مركزه العالي في نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي وإدارته أن يضع، بالرغم من الظروف الحرجة المحيطة به، مذكرة باسم الحزب ويوجهها إلى الجمعية الأممية لتكون كبيان بالأسباب الموجبة لنشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي ووجوده، تبريراً لعمله وموقفه، وتقبيحاً للسياسة العامة المتّبعة في سورية وخصوصاً في صدد النهضة القومية الاجتماعية في سورية. فانصرف إلى هذا العمل في مكان أمين في بعض أنحاء جبل لبنان وآزره فيه الأمين فخري معلوف. وكان وضع المذكرة باللغة الإنكليزية رأساً التي يجيدها الأمين ثابت إجادة كبرى. ثم صار ترجمتها إلى العربية فظهرت عليها مسحة الترجمة التي لازمت الأصل الإنكليزي. وعلى الرغم من ملاحقات الحكومة اللبنانية تمكنت إدارة الحزب من طبع هذه المذكرة بالإنكليزية والعربية. وأرسلت نسخاً منها إلى الجمعية الأممية بواسطة المفوضية الفرنسية، وبعد مدة ورد جواب لجنة الانتدابات في الجمعية المذكورة فنشر في جريدة النهضة في بيروت. ولما كانت هذه المذكرة وجواب العصبة الأممية تشكلان وثيقتين تاريخيتين ونظراً لقيمة الدروس السياسية ــــ الاقتصادية ــــ الاجتماعية الواردة في مذكرة الحزب رأينا نقل المذكرة تباعاً إلى أعداد الزوبعة ونقل جواب الجمعية الأممية في آخرها الذي يشهد أهمية المذكرة وعلو قيمتها.
نص المذكرة:
(1) المقدمة:
تمرُّ على الأمم في تاريخها فترات تنتشر فيها الفوضى وتطمو عليها موجة من اليأس تتصل حتى بنفوس الطبقة الراقية المخلصة من أبناء الأمة فتخمد فيها جذوة الجهاد لرفع الأمة مما هي فيه. وفجأة في هذه الحالة تظهر فيها حركة جديدة تعيد كل أمل بالبعث القومي وتنقذ قواها من خطر الانحلال بفعل النقائص الاجتماعية والسياسية المتعددة. ومهما اختلفت هذه الحركات، حركات البعث القومي، بعضها عن بعض من حيث الدقائق والتفاصيل، فإن هنالك قواعد أساسية عامة متماثلة في جميعها، كأن تثب الأمة في الساعة الخطرة وثبة حاسمة جريئة تكفل لها حياة حرة راقية.
مثل هذا ما يحدث اليوم في سورية، فإنها بعد أن قضت سنين عديدة، إن لم نقل أجيالاً، في جهاد خائب لبلوغ حريتها المنشودة، تجد اليوم ما يبرّر أملها باجتناء ثمار التضحيات الغالية المتكررة في النفوس والماديات التي قدّمتها على مذبح الحرية. نقول إنّ لهذه الآمال اليوم ما يبرّرها أكثر من أي وقت سابق بفضل الحركة التي خلقها الحزب السوري القومي. لنا على ذلك دليل واضح في التعليقات العديدة التي علّقتها عليه الصحافة الوطنية والأجنبية، ودليل أوضح في المقاومة الشديدة التي يلاقيها من السلطتين الانتدابية والمحلية اللتين لم تهملا أية وسيلة من وسائل التضييق والاضطهاد. إنّ هذه المعاملة لم تثبط مطلقاً من همّتنا لأنها تدل على حيوية الحزب فلو لم يكن للحزب قوة جبارة لما حرّك تقريباً جميع قوى السلطتين القائمتين في هذا البلد. وبعد فلي الشرف أن أبسط في هذه المذكرة رأي هذا الحزب الذي أصبح أمراً واقعاً في حياة الأمة، ليعلم العالم الأسباب الحقيقية التي تتكاتف من أجلها السلطتان المنتدبة والمحلية على تهديمه. فإذا كان الحزب قد حُرم حق الاعتراف الرسمي به فقد دلّت على حقيقة قوّته في الأمة الوسائل المستعملة لحرمانه من هذا الحق.
لا يتبادر إلى الأذهان أنّ القصد من هذه المذكرة إنما هو رفع الاحتجاج على المعاملة التي يلاقيها الحزب السوري القومي من السلطات، فإن أعضاءه قد تدربوا على فضائل الرجولة والاستعداد لتحمل مسؤوليات أعمالهم، وقد أقاموا الأدلة على هذه المزية في مختلف مواقفهم، ولكن القصد منها، وليكن ذلك مفهوماً من البداية، هو إعطاء شرح عام للمشاكل المعقدة التي تواجهها بلادنا، والتي لم يزدها نظام الانتداب مدة 14 عاماً إلا تعقيداً ورسوخاً، والتي أنشىء الحزب بنيّة معالجتها وإنقاذ الأمة من مخاطرها.
إننا، لنكون عمليين في بحثنا، نعترف بالانتداب كأمر واقع ونحمّل عصبة الأمم مسؤولية كل النتائج غير المحمودة التي آل إليها تطبيق هذا النظام، على أننا إذا توسّمنا أي أمل في الأعمال المبنية على حسن النية سنكون مستعدين لمعاونة العصبة في حلّ مسألتنا السورية، على شرط أن نرى من جانب العصبة عطفاً فعلياً على أمانينا القومية التي صمّمنا على تحقيقها مهما كلفنا الأمر.
لو كنا اليوم في السنة 1922 لبحثنا فيما إذا كان صك الانتداب يعطي الضمانات الكافية لتحقيق الانتداب المنصوص عليها في المادة 22 من دستور عصبة الأمم، وفيما إذا لم يكن قد تعارض منذ حيثياته الأولى مع المادة المذكورة، إذ ينص صراحة على قبول الحكومة الفرنسية نصوص الانتداب ولم ينص على مراعاة إرادة الشعب المنتدب عليه كما يفرض البند الرابع من تلك المادة. ولكنا نبحث أيضاً علاقة هذا الصك بما سبقه من معاهدات ومؤتمرات استعمارية، كمعاهدة سايكس ــــ بيكو ومؤتمر سان ريمو، بشيء كثير من الريبة. غير أننا اليوم في السنة 1936 والانتداب لم يعد مجرّد نظرية جديدة في الشرع الدولي، بل قد تجسّم في الوقائع والاختبار العملي مدة 14 عاماً.
إننا نرتكز على المادة 22 من دستور عصبة الأمم وخصوصاً حيث ينص بندها الأول ــــ «إنّ المستعمرات والأراضي التي سلخت، بنتيجة الحرب الأخيرة، عن حكوماتها والتي يقطنها شعوب لمّا تستطع الوقوف لوحدها في الظروف العصرية القاسية يطبَّق عليها مبدأ أنّ سلامة وتقدم ورقي هذه الشعوب هو وديعة مقدسة بيد الحضارة، وأنّ تأمين القيام بمقتضيات هذه الوديعة يجب أن يدمج في صلب هذ الميثاق». وكذلك بندها الرابع، وهو يتعلق بالانتداب من الصنف الأول المطبّق في بلادنا ــــ «إنّ بعض المجتمعات التي كانت تابعة للامبراطورية التركية قد بلغت في نشوئها مستوى يمكننا من الآن أن نعترف مؤقتاً بكيانها كأمم مستقلة، ولكن تعطى لها استشارة إدارية ومساعدة من دولة منتدبة حتى تصبح قادرة على الوقوف لوحدها. إنّ إرادة هذه المجتمعات يجب أن يكون لها اعتبار أساسي في اختيار الدولة المنتدبة».
نقول إننا نرتكز على هذه المادة ونحلل في ضوئها الوقائع العملية التي أتى بها الانتداب والنتائج التي كانت لها في حياة الأمة وحالتها، ولا يهمّنا بعد ذلك أن لا يكون في صك الانتداب ما يدين بعض هذه الوقائع أو جميعها، فإن المادة الثانية والعشرين هي الأصل أو بالأحرى إنّ مصلحة الحياة لأمة بأسرها وحقها بالرقي والتطور اللذين أقرّت بهما هذه المادة ونصّت عليهما هو الأصل، والمفروض أنّ كل ما تفرّع عنه يجب أن يتلاءم معه، فإذا كان صك الانتداب لم يؤمّن تنفيذ روح ومبادىء الانتداب فالمسؤول هو مجلس العصبة.
علينا في هذ المبحث أن نميّز تمييزاً تاماً بين العوامل المتعددة من اجتماعية واقتصادية التي كانت تعمل قبل الانتداب، وظلت تعمل، لدرجة ما، بعد الانتداب، وبالرغم منه على تقريب الأمة السورية من المستوى القومي، وبين الأعمال والأساليب التي فرضها الانتداب فرضاً عن قصد وتصميم والتي تدلّ جميعها على قصد واحد، كما سنبيّن، هو ــــ مقاومة النشوء القومي لصالح المآرب الاستعمارية.
إنّ دلائل الحياة القومية الصحيحة، ومقتضياتها اليوم، هي من الأمور المعروفة تماماً، فلا فائدة من تقريرها في هذه المذكرة، ولذلك نتقدم فوراً إلى درس أعمال الانتداب وأثرها في تدريب الأمة وتقدمها نحو الحياة القومية المستقلة، وذلك يتضمن وصفاً للحالة الاقتصادية والسياسية في سورية الناتجة عن تطبيق نظام الانتداب مدة 14 عاماً.
وصف إجمالي للحالة الاجتماعية في سورية المشمولة بالانتداب الفرنسي:
إنّ النظام السياسي الحالي في سورية الداخلية وفي لبنان هو نتيجة الفوضى الاجتماعية والسياسية التي نشأت في عهد الإقطاع والإدارة التركية الفاسدة. إنّ الباحث الذي يعتمد في دراسته على تقارير ووثائق حكومية قد يظن أنّ في قولنا شيئاً من المبالغة. فهناك برلمانات ودساتير وانتخابات، وهنالك أيضاً مدارس وجامعات تقدِّم تهذيباً عاماً، وهنالك الراديو والتلغراف والتلفون والجرائد اليومية التي تساعد على ترقية المجموع وتجديده وإيقافه على ما يجري في العالم. ولكن كل ذلك لسوء الحظ لم يساعد على إقامة النظام السياسي على أساس قومي، الأمر الذي كان يجب أن يكون النتيجة الطبيعية لهذه الوسائل والمستحدثات، غير أنّ هذه المؤثرات أدت إلى زوال العادات والتقاليد والعصبيات التي كانت تخلق مجتمعات مختلفة في الأمة الواحدة. كما أنّ الظروف الاقتصادية الصناعية الحديثة والمبادىء القومية الناشئة فينا بعامل تنبّه قوانا عملت على هدم الحواجز بين أجزاء الأمة. فبدأ المجتمع السوري المتضامن الأجزاء يتبلور. ولكن هذه الإصلاحات هي من نوع التطورات الخفية التي تقود إليها العوامل الاقتصادية الاضطرارية للحياة الحديثة دون أن يكون للنظام السياسي أي فضل في إحداثها. والذي نحتاج إليه إنما هو خطة صريحة مفهومة للحياة القومية الموحدة تقوم على تفكير إصلاحي جديد.
إنّ عدم الاستقرار السياسي الذي تدلّ عليه الاضطرابات، والحركات الشعبية الكثيرة وروح الاستياء العامة في البلاد، يمكن أن يعزيا إلى أنّ النظام السياسي لم يكن يتماشى مع المطالب المتعددة والاحتياجات الدقيقة في الحياة القومية الحديثة ومع المستوى الثقافي في سورية، وقد زاد هذه الحالة حراجة، ولا شك، الأضرار المحسوسة الناتجة عن الاختلال الاقتصادي من جرّاء تقسيم البلاد إلى عدد من الحكومات المنفصلة، واتّباع سياسة منظمة لاستثمار موارد البلاد استثماراً معجلاً بواسطة الرأسمال الأجنبي بقطع النظر عما يحدثه ذلك من عواقب على المصالح القومية. إنّ استمرار هذه الإجراءات يقود البلاد حتماً إلى الإفلاس القومي، ويؤدي في النهاية إلى الخراب السياسي والاجتماعي. إنّ هذه العوارض تظهر جلية للمراقب العادي، ونحن نخشى، إذا درس الأمر درساً دقيقاً، أن نرى أنّ المرض قد بلغ منذ الآن حالة صعبة، على أنه بالنظر إلى الدافع الحالي لوضع هذه المذكرة المتعلقة بالمشاكل السياسية الملحّة نعالج الناحية الاقتصادية من المشاكل القومية بكثير من التحفظ هذه المرّة.
(2) الحالة الاقتصادية:
كثيراً ما تعزى النقائص في النظام الاقتصادي إلى الأزمة العالمية العامة. إنّ هذا القول لا يمثّل كل الحقيقة وقد كان تكراره وسيلة لتهدئة الشعب المتذمر بإلقاء اللوم على القضاء والقدر، غير أنّ من يحلل الأمور تحليلاً دقيقاً يرى أنّ الاضطراب الناشىء هو نتيجة محتمة للنظام الاستعماري الانتهازي الذي يقسّم البلاد إلى عدة وحدات سياسية، تزيد في مصاريف الإدارة ويتغاضى عن إحداث تشريع جديد يشجّع وينظّم ويصون المشاريع الحيوية المفيدة، ويتلافى نقائض التشريع الحالي. سنعتمد في بحثنا على المراجع العلمية البحتة حتى يكون انتقادنا وضعياً ما أمكن وحتى لا نقع في أخطاء التغرض.
ــــ نظام الضرائب ــــ:
لقد أُصدر منذ مدة وجيزة بحث قيّم عن الحالة الاقتصادية، داخلاً وساحلاً، جُمع في كتاب بعنوان النظام الاقتصادي في سورية وقف عليه وجمعه السيد سعيد حماده أستاذ علم الاقتصاد في جامعة بيروت الأميركانية. في هذا الكتاب فصل عن نظام الضرائب تظهر منه بجلاء النتائج المضرة التي خلقها وجود عدة حكومات سياسية في سورية. وفيما يلي بعض المقاطع من نقد كاتب هذا الفصل لنظام الضرائب ــــ «لا بدّ من الإشارة إلى أنّ نظام الضرائب السوري هو ليس نظاماً واحداً متجانساً، ولكن هنالك عدة أنظمة مجموعة معاً، وكما ذكرنا سابقاً هنالك أربعة أنظمة من التشريع المالي وخمس موازنات مختلفة في الأراضي الواقعة تحت الانتداب الإفرنسي، ومع أنّ هذه الأنظمة متشابهة في عدة وجوه فإن اختلافها يجعل الكلام عن الحالة في البلاد السورية عاماً بحكم الضرورة وناقصاً.. هذا الاختلاف هو في ذاته غير مرغوب فيه ويمكننا أن نوجه انتقادنا الأول على النظام السوري إلى هذه الناحية فيه، لأنه مهما كانت الأسباب الداعية إلى تقسيم الانتداب الإفرنسي إلى عدة حكومات، فإن الأضرار الناتجة من الناحية المالية جسيمة.
«كثيراً ما يُحكم على فعالية الإدارة الحكومية من نجاحها في جباية الضرائب المباشرة. إنّ الجدول الآتي يرينا عدم الفعالية المدهش في الجمهورية اللبنانية حيث نسبة المال المجموع للمال المطلوب قليلة جداً وإليك البيان.
1933
الضرائب المقررة والرسوم الماثلة |
الاعتمادات |
الرسم المستحقة |
المبالغ المنزلة |
المبالغ المحصلة |
البقايا قيد التحصيل |
1 ــ ضريبة الأملاك المبنية |
435.000 |
1179.000 |
55.000 |
277.000 |
847.000 |
2 ــ ضريبة الأملاك غير المبنية |
215.000 |
993.000 |
23.000 |
225.000 |
744.000 |
3 ــ التمتع |
327.000 |
700.000 |
111.000 |
231.000 |
358.000 |
4 ــ الأغنام |
120.000 |
205.000 |
5.000 |
104.000 |
92.000 |
5 ــ الطرق |
100.000 |
552.000 |
52.000 |
75.000 |
443.000 |
6 ــ الأعشار |
130.000 |
366.000 |
5.000 |
29.000 |
33.000 |
المجموع |
1328.000 |
4009.000 |
251.000 |
948.000 |
2821.000 |
1934
الضرائب المقررة والرسوم الماثلة |
الاعتمادات |
الرسم المستحقة |
المبالغ المنزلة |
المبالغ المحصلة |
البقايا قيد التحصيل |
1 ــ ضريبة الأملاك المبنية |
425.000 |
1141.000 |
27.000 |
353.000 |
1051.000 |
2 ــ الأراضي الموحدة |
366.000 |
1526.000 |
16.000 |
404.000 |
1106.000 |
3 ــ التمتع |
320.000 |
737.000 |
42.000 |
230.000 |
466.000 |
4 ــ الأغنام |
120.000 |
216.000 |
3.000 |
120.000 |
93.000 |
5 ــ الطرق |
100.000 |
711.000 |
1.000 |
91.000 |
619.000 |
6 ــ الأعشار |
130.000 |
366.000 |
5.000 |
29.000 |
33.000 |
المجموع |
1326.000 |
4653.000 |
98.000 |
1291.000 |
3335.000 |
فيكون نسبة المحصّل إلى المال المستحق لعام 1933، 23.6 في المئة ويكون نسبة المحصّل إلى المال المستحق لعام 1934، 26.2 في المئة.
«وبالطبع لا يسعنا إلا أن نتساءل عن سبب هذا النقص في المجموع من أموال الضرائب المباشرة. لذلك ثلاثة أسباب:
1 ــــ «تملّص زعماء الإقطاع والتجار الأغنياء ورجال السياسة النافذين وكل من يلوذ بهؤلاء من المحاسيب من كل ما يتوجب عليهم أو بعضه.
2 ــــ «تجمّع البواقي بصورة تجعل التحصيل أمراً محالاً.
3 ــــ «فساد أساليب التحصيل.
«إنّ هذه الحالة ليست مجهولة مطلقاً وقد يعتبرها الناس القاعدة لا الشاذ، فالمجلس النيابي نفسه طلب من مدير المالية لائحة بأسماء الذين يتملصون من الدفع، وقد وعد مدير المالية بتقديم هذه اللائحة وأكد أنها ستكون طويلة جداً، غير أنها لا نعلم إذا كانت هذه اللائحة قد قُدِّمت لأنه لم يُنشر شيء عن ذلك.
«هنالك قانون مرعي الإجراء ينصّ على أنّ الضرائب المتأخرة تحذف بعد خمس سنين، وكذلك لا بدّ من الملاحظة أنه عند تقرير الضرائب يتمكن الأغنياء النافذون من تقليل الضرائب على أنفسهم بواسطة نفوذهم، وفضلاً عن كل هذه النقائص في فرض وجباية الضرائب، المباشرة نرى أنّ عدم العدل في توزيع الضرائب أمر يحتاج إلى عناية خاصة. ولنتمكن من الحكم على مقدار العدالة في نظام الضرائب السوري علينا أن نقرر أولاً العلاقة بين توزيع الضرائب وتوزيع المداخيل. إنّ أنظمة الضرائب تقسم من هذه الجهة إلى ثلاثة أنواع:
«أولها تزيد فيه نسبة الضريبة مع زيادة نسبة الدخل. ثانيها تتناسب فيه الضريبة مع الدخل. وثالثها تقلّ فيه نسبة الضريبة مع زيادة الدخل... سنبحث باختصار الأنظمة السورية المختلفة للضرائب لنرى إلى أي من الأنواع الثلاثة المذكورة يمكننا أن ننسبها.
«لو أخذنا أولاً الضرائب المباشرة لرأينا أن ليس فيها ما تزيد فيه نسبة الضرائب مع زيادة الدخل، ولذلك يبدو لنا لأول وهلة أنّ الضريبة متناسبة دائماً مع الدخل، وليس هذا في الواقع صحيحاً فقد رأينا كيف أنّ نظام الأعشار يحمّل القرى الصغيرة التي يملكها الفلاحون تكاليف أكثر من تلك التي يملكها الإقطاعيون، أما فيما يتعلق بويركو الأرض وضريبة المسقفات فإن النقص حاصل من كون تقرير قيمة الأملاك حصل من مدة طويلة سنة 1887 لضريبة الأراضي، وسنة 1910 لضريبة المسقفات في حكومة الشام، وسنة 1922 في لبنان. منذ ذلك الوقت تغيّرت قيمة الممتلكات كثيراً خصوصاً في المدن حيث التغيّر كان تغيّر زيادة فاحشة. وهذا ما يجعلنا نعتقد أنّ هذه الضريبة قد أصبحت من النوع الثالث حيث تقلّ نسبة الضريبة مع زيادة الدخل، لأن الأراضي الكبيرة القيمة التي تفرض عليها الضرائب على أساس قيمة أقل كثيراً هي تلك الموجودة بملكية أناس أغنياء.
«وكذلك فإن قاعدة ضريبة التمتع هي لحدٍّ ما من الصنف الثالث، فالضريبة تفرض على إيجار المحل حيث يجري العمل، ولكن لا يوجد نسبة معيّنة بين بدل أجار المكتب أو المحل مثلاً وبين أرباح التاجر والطبيب، وبالعكس فإن الاتجاه الغالب هو أنّ مدخول الإنسان يزيد بنسبة أعلى بكثير من نسبة زيادة الأجار لمحل العمل، وهكذا فإن كان الأجار الذي يدفعه تاجر يربح ألف ليرة سورية في السنة هو مائتا ليرة سورية فليس من المرجّح أن يدفع التاجر الذي مدخوله عشر آلاف ليرة سورية أجاراً لمحله مبلغ ألفي ليرة سورية بل أقل، زد على ذلك أنّ هنالك خاصية تجعل ضريبة التمتع من الصنف الثالث وذلك بعدم فرض الضريبة على الأموال الموظفة، وبالطبع فإن توظيف الأموال يختص بالطبقة الفقيرة.
«أما ضريبة بدل الطريق فهي من الصنف الثالث لدرجة عالية جداً. إنّ كل إنسان يدفع ذات الضريبة بقطع النظر عن دخله». (عن كتاب التنظيم الاقتصادي صفحة 398، 399).
لا نشك مطلقاً بأن السلطة الانتدابية تدرك تماماً نقائص نظام الانتداب ونظام الأراضي والحاجة الماسّة إلى الإصلاح، ولكن خوفها من إثارة العناصر ذات النفوذ بإحداث هذه الإصلاحات ومن خلق مشاكل جديدة للانتداب يجعلها تفضل تضحية مصالح الشعب إكراماً لتضامنها الطبيعي مع بقايا الإقطاع.
الأضرار الاقتصادية الناتجة عن التجزئة:
هنالك ناحية أخرى للتقسيم مضرة تظهر بوضوح في زيادة المصاريف التي تقتضيها إدارة الحكومات المنفصلة. وإننا نورد هنا مقطعاً من مقال ظهر في جريدة التايمز الإنكليزية في أبريل/نيسان 1932 بعنوان «حكومات الشرق الإفرنسي القومية والوحدة» وقد عالج الكاتب هذا الموضوع بإخلاص ودقة نظر تحت عنوان ثانوي هو ــــ «نتائج التقسيم» فقال: «.... زد على ذلك أنّ التقسيم يزيد نفقات الإدارة. إنّ أحد أسباب الاستياء الرئيسية في سورية هو المكوس الباهظة التي تفرضها الحكومة لتتمكن من القيام بمصاريف الجيوش والموظفين الفرنسيين. حتى في لبنان نفسه، حيث أسباب الانفصال معقولة أكثر منها في أي مقاطعة أخرى، يوجد شعور متزايد بالأضرار الناتجة عن التجزئة، وقد يكون المارونيون هم الفئة الوحيدة من الشعب التي ما تزال مجمعة على تأييد الانفصال (إذا صح هذا القول سنة 1932 فهو لا يصح اليوم) ذلك لأن الكيان المستقل هو من تقاليدهم ولأنهم يعتقدون أنّ هنالك مخاطر تتهددهم إذا أصبحوا أقلية في حكومة محمدية. أما بقية المسيحين فليس عندهم كل هذا التخوف، ولكن تراهم يدللون على الصعوبات التي يلقيها النظام الحالي على البلاد وعلى الفوائد التي يجنيها الشاطىء إذا زادت صلاته مع الداخل وعلى الوفر الذي يحصل في نفقات الإدارة إذا توحدت البلاد». لقد كُتب هذا المقال منذ أربع سنوات ونحن نرى اليوم كيف تثبت الحوادث ما جاء فيه.
ــــ نظام الأراضي ــــ:
إنّ الواجب الأول لحكومة مصلحة مسؤولة في بلاد زراعية في الدرجة الأولى كسورية، هو إصلاح نظام الأراضي بواسطة التشريع ليحوّل النظام من شكله الإقطاعي إلى شكل قومي وإدخال الأساليب العلمية في الزراعة.
إنّ نظام الأراضي الحالي فاسد للغاية، فهو يتميز بأملاك كبيرة يملكها زعماء نصف إقطاعيين، وبنظام استعمال الأراضي يُعرف بنظام المزراعة، وهو «بقية من العهد الإقطاعي ويعود إلى القرون الوسطى» كما يصفه كتاب التنظيم الاقتصادي. إنّ نقائص هذا النظام تلخّص بالنقاط الآتية:
1 ــــ إنّ أملاك الإقطاعيين واسعة جداً أكثر كثيراً مما يحتاج هؤلاء لمعاشهم ولذلك يتركون قسماً كبيراً من أرضهم بدون زراعة.
2 ــــ إنّ الفلاحين المستأجرين أو المزارعين لا يجدون ما يدفعهم للإنفاق على الأرض من مالهم وعملهم، وذلك لسببين: أولاً، لأن الملّاك قد لا يسلّمهم الأرض في السنة التالية لأن التحسينات التي تكون قد حدثت في الأرض تجلب له أجار أفضل. ثانياً إنّ الملّاك يستفيد من التحسينات التي يحدثها المزارع، بينما المعقول أن يستفيد منها الذي بذل المال أو العمل وحده.
3 ــــ إنّ الخطر الذي يهدد المزارع دائماً وذلك ــــ صرفه بعد وقت الحصاد يجعله يحاول إجهاد الأرض باستخراج أعظم نتيجة معجلة منها، ونتيجة ذلك نضوب خصب الأرض وقلة إنتاجها.
ــــ التشريع الاقتصادي ــــ:
نرى في البلدان الراقية أنّ الظروف الاقتصادية والصناعية الحديثة قد أدت إلى تشريع جديد ينظم التشابك المتزايد في الشؤون الاقتصادية ويضبط مسألة تصادم المصالح التي تزداد خطورة في العصر الحديث على أساس عادل يضمن للمجتمع شكلاً راقياً من العدل الاجتماعي. وتُدعم هذه الخطة عادة بتشريع يشجع المشاريع المفيدة ذات الأهمية الحيوية للبلاد، وبإصلاح القوانين التي لا تتفق مع مصالح الأمة بحسب مقتضيات الاقتصاد القومي الحديث.
أما في سورية فإن التشريع في الاقتصاد القومي لم يحقق شيئاً مما تقتضيه ظروف الاقتصاد الحديثة، فضلاً عن أنه في كثير من الحالات معدوم الوجود. يقول السيد سعيد حماده في كتابه النظام الاقتصادي في سورية: «إنّ حالة العمال قد أدت إلى شيء من الاضطراب في الطبقة العاملة»، وبعد أن يورد عدة حوادث إضراب قام بها العمال يتابع حديثه فيقول: «لم يكن هناك نقابات للعمال تدير أمور الإضراب لأن مثل هذه المؤسسات لا توجد في سورية. فقد كان الإضراب يبتدىء من تلقاء ذاته مبرهناً على قوة الروح التعاونية بين العمال. لقد أظهرت بعض الفئات العاملة رغبتها مراراً في التنظيم، ولكن الحواجز الرسمية كانت تحول دائماً دون نجاح هذه المحاولات، فالسلطات الحكومية، وخصوصاً حكومة لبنان، قد برهنت على أنها تعاكس بصلابة مؤسسات العمال إما بحلّ ما وجد منها عند أقل إخلال وإما برفض إعطاء جوازات لمؤسسات جديدة».
إنّ التقدم الاقتصادي في الوقت الحاضر يجب أن يُراقب بدقة بسبب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية العديدة التي تنشأ عنه، وسيحدث عند اشتداد الحركة في المستقبل نتائج بعيدة الأثر في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية. إنّ الدرس العلمي والضبط المنظم للحالة الصناعية هو الطريقة الوحيدة التي تضمن الصناعة بأقل ما يمكن من التلف في الموارد الاقتصادية والتصادم الاجتماعي والاضطراب في الطبقات العاملة في كل البلاد.
ــــ النظام النقدي ــــ:
ها نحن نأتي إلى انتقاد من أهم الانتقادات التي يمكن توجيهها للانتداب، وذلك يتعلق بفرض نظام نقدي على قاعدة الفرنك. وفي هذا الصدد نرجع إلى كتاب الأستاذ سعيد حماده حول هذا الموضوع وعنوانه النظام النقدي والصيرفي في سورية.
يقول الكاتب في معرض بحث وضع النظام النقدي على قاعدة الفرنك: «... لم يكن من صالح سورية إحداث النقد المالي على أساس عملة خارجية كانت دائماً معرّضة لتقلبات عظيمة، إنّ مصلحة سورية تقتضي نقداً ثابتاً، وقد كان من الممكن الرجوع إلى أساس الذهب لوجود كمية كبيرة من هذا المعدن في البلاد، ولكن مصلحة سورية لم تتفق مع مصلحة السلطة الانتدابية.
«إنّ القاعدة على أساس الفرنك تظل ثابتة ما دامت الظروف في فرنسة حيث يحفظ الاحتياطي عادية، ولكن ليس هنالك ما يكفل أنّ الحالة ستظل كذلك. يمكن لفرنسة أن تدخل في حرب ونقدها يمكن أن يهبط، ويمكنها أيضاً أن تعلن موراتوريوم أو تتحكم بالنقد الخارجي حتى تهبط قيمة الديون والأمانات المودوعة هناك ولا تقبض إلا بعاقة طويلة وتضحيات عظيمة.
(قد تمت جميع هذه التقديرات الدالة على بعد نظر الخبراء السوريين في المسائل الاقتصادية ومنهم بعض السوريين القوميين الاجتماعيين المشتركين في تأليف كتاب الأستاذ سعيد حماده كالأستاذ جورج حكيم والرفيق ألبرت بدر ــــ الزوبعة).
لقد كان اختبارنا الأخير مع قاعدة الفرنك مثالاً رائعاً لما يمكن أن يحدث في مثل هذه الأحوال، فالصعوبة المالية في فرنسة أنتجت هبوطاً عظيماً ونقصاً دائماً في قيمة الفرنك. وقد تعرضت الليرة السورية لكل التقلبات التي مرّ عليها النقد الفرنسي، وكان من نتيجة ذلك تأخر الحالة الاقتصادية في البلاد فلا الشعب ولا الحكومة المحلية كان لهما أي حكم على النقد.
كما نرى في جدول 22 (وجه 115 من كتاب النظام النقدي الصيرفي في سورية): إنّ أكثر الاحتياطي مودع فرنسة، وهذا الحال هو تسليم قومي مطلق، فهو يجعل سورية مرتبطة بفرنسة ارتباطاً تاماً، فكما ذكرنا سابقاً إنّ أية زعزعة يمكن أن تحدث في فرنسة ناتجة عن أزمة اقتصادية أو أية أزمة نقدية تحدث في فرنسة من جراء دخول الحكومة الفرنسية في حرب يمكنها أن تعدم قيمة الليرة السورية، وقد أدركت لجنة الانتدابات الدائمة هذا الخطر وأيَّدت رأيها بأن سياسة الانتداب النقدية تؤخر استعداد الأراضي السورية للاستقلال، النتيجة التي لا يمكن أن نتصورها بدون الاستقلال في الشؤون المالية والنقدية1 فضلاً عن أنّ الليرة السورية ليست مكفولة من قِبل الحكومة الإفرنسية ولا من قِبل بنك فرنسة.
ــــ نظام البنوك ــــ:
نأتي الآن إلى حقل البنوك والتسليف، مما لا يحتمل الجدل أنّ معاملات التسليف في الأعمال العصرية إذا تُركت على قاعدة إرخاء الحبل تقود إلى نتائج مضرة بالتجارة والصناعة معاً، وقد كان من نتائج زيادة الضبط في أنظمة البنوك أنّ الحكومات في أغلب البلدان تفرض على أصحاب البنوك تقديم تقارير سنوية ونصف سنوية تعيّن الحكومة على أساسها ضريبة الدخل، وتستعين بها على ضبط الأمور والمراقبة العامة. أما عندنا فإن السيد حماده يقول في فصل «النظام الحالي والصيرفي» في كتابه المذكور آنفاً «ليس من الممكن أن نعلم مدى هذه المعاملات في البنوك لأن لوائحها توحّد مع لوائح البنوك الرئيسية (الأجنبية)، ولا ينشر حساب خاص عن أعمالها في سورية، كما أنهم يرفضون إعطاء التعليمات الضرورية للقيام بمثل هذا التحليل، وكذلك فإن لوائح المؤسسات الفرعية غامضة جداً ولا تعطي إلا معلومات ضئيلة، ثم إنّ لكل بنك طريقة خاصة لتحضير ميزانيته يمكنه أن يعدّلها متى شاء».
وهنا مقطع آخر من ذات الفصل يعطينا عدة انتقادات خطيرة على حالة البنوك الوطنية في سورية «لقد ظلت البنوك الوطنية في نظام لا مركزي يشمل عدة بنوك يلبي كل منها الاحتياجات المالية في منطقته الخاصة ويمكننا أن نعزو فَقْدَ التنظيم النقابي في حقول العمل من مالية وغيرها إلى ثلاثة أسباب:
1 ــــ «فَقْدُ الثقة العامة بالحكومة وعدلها.
2 ــــ «الإبهام والنقص في القوانين المالية المتعلقة بأحوال العمل الحديثة.
3 ــــ «عدم الملاءمة في قوانين النقابات».
ثم يشرح الكاتب تحت عنوان «الصعوبات الخارجية التي تعترض تقدم البنوك التجارية» كيف يتقيد التسليف بالقوانين التجارية المعمول بها حالياً يقول: «... ثالثاً القضايا التجارية تتأجل كثيراً في المحاكم. لقد حادث المؤلف عدداً من أصحاب البنوك فاتفقوا جميعاً على أنّ هذا من الأسباب الرئيسية لمنع التسليف.. في كثير من الحالات يقبض الدائنون جزءاً يسيراً من صافي مال المفلس إذ يكون الباقي من نصيب السنديك... ليس عجيباً بعد ذلك أن نشاهد الانحطاط في الأخلاق التجارية، حتى أنّ البنوك المحافظة تتحسب كثيراً قبل فتح التسليفات، بينما البنوك الأقل تحفظاً تطلب عليها فوائد باهظة».
(3) الحالة السياسية:
«مقطع من خطبة فكتور بيرار»:
«ومما لا شك فيه أننا طبقنا في سورية نظرياً وعمليا مبدأ فرّق تسد. فقد جزّأنا سورية إلى عدد من الدول التي لا مبرر لوجودها، وقد أوجدنا من السكان جبهات متصادمة، وأحيينا العصبيات المذهبية لدرجة لم تكن معروفة قبلاً. إسألوا من شئتم من السوريين عن الحالة، يمكنني أن آتي إليكم بمسيحيين ورسوليين وماسون ويهود وحتى اليسوعيين لتثقوا بأن الجميع متفقون على أنّ وجودنا في سورية قد أتى بنتائج فظيعة وبأننا قد هجنا البغض».
هكذا وصف الشيخ فكتور بيرار السياسة الإفرنسية في سورية في مجلس الشيوخ الإفرنسي بتاريخ 5 يونيو/حزيران 1922.
إنه فضلاً عن الأضرار المتعددة التي تصيب البلاد من جراء التقسيم في الناحية الاقتصادية، فإن هنالك أضراراً من حيث النضج القومي والسياسي لا تقل عنها أهمية. فلو فرضنا جدلاً أنّ البلاد لم تكن مستعدة من الناحية القومية للاندماج في دولة واحدة مستقلة على أثر الحرب، فلا يمكننا أن نسلّم بأن مثل هذا النظام كان صعباً في ظل الانتداب. إنّ خلق الكيانات المستقلة في البلاد السورية وربط كل منها بمصالح طبقة قليلة من السكان مثل طبقة رجال الدين وزعماء الإقطاع قد عاد على تطور البلاد القومي بنتيجة سيئة جداً. لنسمع جريدة التايمز تتساءل في مقالتها المذكورة آنفاً فتقول: «يمكننا أن نتساءل هل لم يكن أجزل فائدة لو أنّ الفرنسيين، في تطبيقهم للانتداب، عوّدوا المسيحيين والمحمديين أن يحيوا معاً بوفاق في وطن واحد عوضاً عن أن يتبعوا سياسة تفريق الأديان والطوائف.. إنّ تقسيم البلاد ينمّي في نفس السكان نظرة محلية ضيقة في الأمور، ويحرمهم من التأثير التهذيبي الذي ينتج عن الاشتراك في إدارة وطن كبير يلامس أراضي غريبة على كل حدوده والعمل على حل قضاياه».
وهنا نسأل عن مقدار نجاح الدولة المنتدبة في تدريب الشعب على الحياة الديموقراطية وفي إيجاد الأساليب التي تكف تمثيل الشعب تمثيلاً صحيحاً. إنه لأمر اعتيادي أن نطالع في الصحف اليومية عن المفاوضات السياسية التي تجري بين رجال السياسة الفرنسيين من جهة ورجال الدين السوريين بصفتهم الدينية من الجهة الأخرى، وعن المطالب التي يدّعي أصحابها أنها قومية وتقدم بصورة مستمرة من المراجع الدينية وبتلك الصفة عينها، وقد يكون عند لجنة الانتدابات الشيء الكثير من هذا النوع. من السهل جداً على رجال الدين أو الزعيم الإقطاعي أن يسافر إلى فرنسة على نفقته الخاصة ليقوم بمفاوضات سياسية باسم الشعب، ولكن الطريقة الوحيدة التي يمكن فيها للطبقات الشعبية والعناصر القومية مثل طبقة العمال والفلاحين والشبيبة المثقّفة المسؤولة، أن تمثّل تمثيلاً صحيحاً هي التنظيم الشعبي ضمن الأحزاب القومية والنقابات.
أما مسألة التنظيم النقابي فقد ذكرنا عنه بعض الشيء في كلامنا عن الحالة الاقتصادية. وأما مسألة الأضرار القومية فإن موقف الحكومة من الحزب السوري القومي أبلغ جواب عليها. إنّ الحكومة لم تكتفِ بحلّ الحزب ومحاكمة أركانه بل لم تترفع عن أية وسيلة للضغط على أعضائه ومعتنقي مبادئه. إنّ بيدنا الآن رسالتين تدلان على بعض أساليب الحكومة في هذا الشأن:
ــــ الرسالة الأولى ــــ:
برمانا 7 مارس/أذار سنة 1936
صديقي العزيز
آسف جداً بأن أُعلمكم أني تلقيت أوامر من الحكومة الفرنسية والحكومة اللبنانية لكي أرجوكم أن لا تعودوا تدرّسوا في المدرسة الفرنسية ــــ اللبنانية الكائنة في برمانا. ومنذ اليوم لم نعد نعتبرك أستاذاً عندنا. ولا أزال لحدّ الآن خادمك.
كاتبه المخلص
يوسف عون اللازارست مدير المدرسة
ــــ الرسالة الثانية ــــ:
عدد 251
حضرة الفاضل السيد إلياس زينون معلم المدرسة الأرثوذكسية في جل الديب المحترم.
بركة ودعاء. وبعد، لقد وردتنا قبلاً كتابة تحت رقم 282 من مقام المحافظة الجليلة بوجوب فصلكم من التعليم في المدرسة لأسباب أنتم أدرى الناس بها. واليوم وردت الكتابة رقم 444 مشددة بفصلكم دون تأخير. لذلك نوعز إليكم بلزوم مغادرة المدرسة وإلا تقعون تحت المسؤولية. وإننا نسأل الله أن يلهمكم لما به خيركم ويمنحكم النعمة والتوفيق ودمتم.
الحديث 12 يونيو/حزيران 1936
الداعي لبنوتكم
مطران جبيل والبترون وما يليهما
إيليا
نتيجة ذلك إنّ الأحزاب ذات الأهداف القومية الصريحة أصبحت معدومة الوجود كأحزاب معترف بها رسمياً. إنّ الحكومة كانت تعترف بالأحزاب التي هي من هذا النوع بعدما تصبح أمراً واقعاً في حياة الشعب وذات قوة مادية تهدد كيانها، فالوفد السوري المفاوض اليوم في باريس كان أعضاؤه منذ بضعة أشهر في نظر الحكومة مشاغبين يحرّضون الشعب على الإخلال بالأمن العام كما تدل بصراحة البيانات المتكررة التي كان يصدرها المفوض السامي الفرنسي أثناء الاضطرابات الأخيرة في الشام، غير أنه عندما أصبحت الثورة على الأبواب اعترفت الحكومة بهم كزعماء شعبيين.
أمّا أن يكون وجد من وقت إلى آخر بعض أحزاب اعترف بها، فلأنها كانت عادة ذات أهداف صغيرة أو كانت من الفئات الموالية للحكومة. ومع هذا فإن الاختبار يعلّمنا أنه حتى هذه الأحزاب لم تتمتع إلا بحياة قصيرة جداً لأن العناصر القومية كانت دائماً تتسرب إلى هذه المؤسسات فتحوّلها عن أهدافها الأولى.
ليس غريباً أن نرى بعد ذلك أنّ المجالس النيابية (والتمثيل فيها لا يزال على أساس طائفي) تُمثِّل على الأغلب العناصر الرجعية في الأمة. إذا لا يمكن أن يكون النائب مرتبطاً بمبادىء قومية وأن يصان الانتخاب من المؤثرات غير المشروعة وسيطرة العناصر غير القومية إلا بإباحة تأليف الأحزاب. غير غريب أنه حتى هذه المجالس كانت دائماً معرضة للحل لأنها بتأثير الرأي العام الخارجي ما كانت تستطيع مسايرة السياسة الاستعمارية في كل شيء.
أما التشريع المتعلق بحريّة إبداء الرأي فإن مطالعة قانون المطبوعات وقراره (115) الصادر بتاريخ 12 أغسطس/آب سنة 1932، فضلاً عن قانون الجزاء العثماني، الذي كان يطبّق في عهد السلطات العثمانية ولا يزال اليوم مرعي الإجراء، يعطينا فكرة عن الحالة التي يحيا فيها الرأي العام في ظل الانتداب.
ــــ الإدارة الحكومية ــــ:
لعلّ أوضح ظاهرة في الأوساط الشعبية هي الاستياء العام من الإدارة الحكومية. تستطيع الحكومة أن تمنع الشعب، ولو مؤقتاً، من الشعور بالمسائل العامة ذات المسائل العميقة في حياة الأمة السياسية والاقتصادية بواسطة التضييق على حرية الكتابة والاجتماع وتأليف الأحزاب. ولكنها لا تستطيع مطلقاً أن تمنع الاحتكاك الدائم بين أفراد الشعب النابه مع ما كان عليه ذلك العهد من الفساد إنّ الصفات البارزة في الإدارة الحكومية والتي تسبب استياء الشعب هي ــــ أولاً كثرة عدد الموظفين بالنسبة لحاجة البلاد. وثانياً ندرة ذوي الكفاءة والاختصاص بين الموظفين.
إنّ المال المصروف على الإدارة والقضاء في جميع الأراضي المشمولة بالانتداب الفرنسي من سنة 1927 ــــ 1932 تبلغ 29 في المئة من الموازنة العامة، والمال المصروف على الناحية التجارية والتحسين الاقتصادي، وهي تشمل ترقية الزراعة والدوائر الاقتصادية والنافعة والبوسطة والتلغراف، يبلغ في المدة ذاتها 22 في المئة. بينما نرى أنّ المال المصروف في المدة ذاتها على الناحية الاجتماعية وهي تشمل الصحة والإسعاف العام والتعليم والعاديات، لا تزيد على 8 في المئة. فتظهر من ذلك نسبة المصروف على الإدارة عالية جداً بعكس المال المصروف على الناحية الاجتماعية ومن ضمنها التعليم.
(الزوبعة ــــ وقد جاءت موازنة «الجمهورية اللبنانية» لسنة 1942، التي ننشرها في مكان آخر من هذا العدد، مصداقاً جديداً لهذا الكلام. ويلاحظ في هذه الموازنة أنّ زيادة النفقات كان معظمها في الوظائف الإدارية وتحسين حالة الموظفين على حساب الثقافة والاجتماع).
نعود للبحث عن أسباب هذا التضخم وعدم الفاعلية في النظام الحكومي فإذا بنا نصطدم مثل كل مرة بسياسة التقسيم وبالطائفية. أما أثر البلاد بزيادة عدد الموظفين فقد ذكرناه سابقاً، وأما الطائفية فهي لا تزال تلعب دوراً خطيراً في خلق الوظائف وإشغالها بينما نرى أنه في البلدان الراقية لا يرعى في ذلك غير المصلحة العامة. لقد وصفت ذلك جريدة التايمز الإنكليزية سنة 1922 بقولها: «إنّ من أسباب زيادة الوظائف محاولة إرضاء جميع المذاهب في الجمهورية. ينص الدستور على أنّ الأديان تعامل بالمثل. وقد فسر هذا النص بأن لكل طائفة الحق بأن تمثّل في الإدارة بعدد يتناسب مع عددها. فلو مات أو أحيل على التقاعد قاضٍ أرثوذكسي أو مفتش من الصحة على طائفة أرمنية ولم يعوّض عنه بشخص من طائفته لحدثت أزمة سياسية. وكثيراً ما يكون الحل لهذه الصعوبة بإحداث عدة وظائف جديدة». وقد أيّدت الحوادث ما جاء في هذا المقال بعد مدة وجيزة إذ عُلّق الدستور اللبناني في 9 مايو/أيار سنة 1932 وقام في البلاد حكم فردي، فضح كثيراً من الفساد الإداري وسوء الائتمان، ووضع المصلحة الخاصة فوق المصلحة العامة في جميع دوائر الحكومة تقريباً. وقد وجّه الناس لومهم على الأفراد، كما هو شأنهم دائماً، غير أنّ المدقق يرى أنّ الفساد هو في ذات النظام، فالعلة ليست من العلل الجراحية ولكن المرض مرض دستوري.
الدفاع القومي والأمن العام:
لا نعجب بعدما علمنا من تعارض النظام القائم مع المصالح والأماني القومية إذا رأينا أنّ نفقات الجيش تبلغ نحو 22 مليون ليرة سورية تدفع منها الحكومة الفرنسية نحو الثلثين. غير أننا لا نلبث أن نسأل عما فعله الانتداب لإعداد البلاد للاستقلال من ناحية الدفاع القومي والأمن العام. لقد أعطى الحزب السوري القومي برهاناً ساطعاً على استعداد الشعب للخدمة العسكرية، فقد أقسم كل عضو من أعضائه على استعداده لأن يكون جندياً في جيش الأمة، ولقد كان بإمكان الانتداب أن يعلن التجنيد الإجباري فيدرب الأمة في ناحية من أهم نواحي الاستقلال القومي، غير أنّ الانتداب لم يفعل ذلك.
(4) حركة الحزب السوري القومي وأثرها:
إنّ إنشاء دولة قومية منظمة في البلاد السورية وخلق الروحية التي تضمن استمرار ذلك لهو من الأمور التي تعود على الحضارة والنظام العالميين بأعظم الفوائد. فمركز البلاد السورية الذي يجعل من سورية الرابط الطبيعي بين الدول الأوروبية وشعوب الشرقين الأدنى والأوسط، وكذلك الميزات الاجتماعية والعمرانية التي اتصف بها الشعب السوري في تاريخه يدلّان على ما سيكون للأمة السورية من أثر فعّال في إقرار النظام المتمدن في الشرق وتأمين العلاقات الصحيحة بينه وبين الحضارة الأوروبية.
إنّ الأمة السورية، التي اعتبرها المادة الثانية والعشرون من دستور عصبة الأمم وديعة بيَد المدنية، هي اليوم في حالة من الفقر والوهن قلّما سجّل تاريخها مثيلاً لها، كما أبنّا في وصف حالتيها الاقتصادية والسياسية، ومن الطبيعي أن تعجز الأمة في هذه الظروف، وما ينتج عنها من سوء استثمار موارد البلاد وقلة السكان، عن القيام بقسطها في بناء الحضارة العالمية. وإننا نترك لدول من الحضارة الممثلة في عصبة الأمم تقدير ما تخسره التجارة والصناعة الأوروبية من جراء وجود البلاد السورية في هذه الحالة من الفقر والتشويش. إنّ القضية السورية التي تعتبرها أكثر الدول في درجة ثانوية من الأهمية بالنظر إلى حالة سورية الحاضرة تصبح ذات أهمية أولية إذ اعتبرنا إمكانياتها من وجهة نظر التمدن العامة.
لقد أخذت جامعة الأمم باعتبارات شتى منعتها عن إعطاء الأمة السورية حقها في الحياة القومية المستقلة فوراً بعد الحرب. ولكنها مع ذلك لم تحرمها حقها بالتقدم الطبيعي نحو تلك الغاية كما يستفاد من روح المادة الثانية والعشرين من دستور العصبة وعن تطبيق الانتداب من صنف (أ) على البلاد السورية. غير أنّ الأساليب التي اتّبعتها الدولة المنتدبة في تطبيق الانتداب، والنتائج التي أدت إليها تلك الأساليب في حياة الشعب وحالته الاجتماعية من اقتصادية وسياسية وغير ذلك، قد تركت في السوريين شعوراً عاماً بأن السلطة المنتدبة ما كانت تستوحي في تطبيق الانتداب مصلحة الأمة السورية أو مصلحة الحضارة العامة التي سلّمها إياها الانتداب، بل كانت في الغالب تتبع مصالحها الاستثمارية المعجلة. لقد كانت عوامل المدنية الحديثة ومؤثراتها تعمل منذ أواخر القرن الماضي على تهديم ما كان لا يزال باقياً في حياة الأمة السورية من العوامل اللاقومية، فزالت السلطات الإقطاعية أو كادت، وبدأت المبادىء القومية تتبلور وتستقل عن العصبيات الطائفية، وقد كان من الطبيعي والمنتظر أن تستمر هذه الاتجاهات القومية بعد الحرب العالمية، كما كان قبلها أو بصورة أسرع، غير أنّ المصالح الاستثمارية التي ظللها الانتداب كانت ترى أنّ حياتها تتوقف على دوام هذا النظام، وهذا بدوره يقوم على أساس وجود نقائص في الأمة تعوقها عن الحياة المستقلة. ولذلك كان نظام الانتداب وما يشتمل عليه من مصالح يناضل في سبيل الحياة بتغذية العوامل اللاقومية في الأمة. وفي النتيجة نرى أنه بعد مرور مدة أربعة عشر عاماً من الانتداب لا تزال السلطات الدينية هي التي تستشار وتخاطب في قضايا البلاد القومية، ونظام الحكومة بأسره يقوم على أساس طائفي ويتمّ تمثيل الشعب الدستوري دون أن يباح للشعب تأسيس أحزاب قومية حتى يظل للسلطات اللاقومية يد طولى في إحداث التأثيرات غير المشروعة على نتائج التمثيل الشعبي. هذه المؤثرات النفسية أوجدت عند شبان سورية شعوراً بالحاجة إلى حياة قومية صحيحة آلت إلى نشوء حركة الحزب السوري القومي. ولقد دلَّ انتشار هذا الحزب في مختلف طبقات الأمة وطوائفها برغم ما أقيم في سبيله من عقبات على أنّ الفكرة القومية أصبحت ناضجة عند السوريين، وأنّ تأخر ظهورها وتجسمها في نظام حكومي قومي إنما هو ناتج عن ضغط مؤثرات مصطنعة ليس لها مبرر من وجهة نظر الأمة، وقد أعطى هذا الحزب للسلطة الانتدابية فرصة جديدة لاستعادة ثقة الشعب بحسن قصدها، فمبادىء الحزب تنطبق انطباقاً تاماً على روح الانتداب، والشعب يُظهر استعدادا لاعتناقها، واعتناق الشعب لهذه المبادىء معناه بلوغ الأمة للحالة التي تُمكّنها من حكم نفسها بنفسها وذلك هدف الانتداب الأوحد، فقد كان عليها أن تمد الحركة الناشئة وتمهد أمامها سبيل العمل وتشجعها. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وعوضاً عنه فقد قبضت السلطات على أركان الحزب، وهم يمثّلون الطبقة الراقية من الأمة، فحكمت عليهم أحكاماً مختلفة، وحلّت حزبهم، ولم تدّخر أية وسيلة في مطاردة معتنقي المبادىء القومية والتضييق عليهم، وليس بوسع السلطات أن تبرر موقفها من الحزب بدعوى أنه يغذي عصبيات جنسية ضد الأجانب، فشبان الحزب يدركون تماماً مقتضيات الحضارة الحديثة، والنظام المتمدن وما يتطلبه من تعاون بين الأمم الراقية يقوم على تبادل المصلحة. وقد صرح زعيمنا في خطاب ألقاه في 1 يونيو/حزيران سنة 1935 قال: «إننا نعترف بأن هنالك مصالح تدعو إلى إنشاء علاقات ودية بين سورية والدول الأجنبية وخصوصاً الأوروبية، ولكننا لا نعترف بمبدأ الدعاية الأجنبية. يجب أن يبقى الفكر السوري حراً مستقلاً، أما بشأن المصالح المشتركة فنحن مستعدون لمصافحة الأيدي التي تمتد إلينا بنيّة حسنة صريحة في موقف التفاهم والاتفاق». (انظر ج 2 ص 8) وقد كان هذا الخطاب من أولى الوثائق التي وقعت بيد الحكومة عن الحزب وحاكمته بموجبها.
فيما يلي نص لمبادىء الحزب السوري القومي الأساسية والإصلاحية وهي المبادىء التي يدرسها طالبو الانضمام ويقسمون عليها حتى يصبحوا أعضاء في الحزب:
المبادىء الأساسية:
1 ــــ سورية للسوريين والسوريون أمة تامة.
2 ــــ القضية السورية قضية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.
3 ــــ القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري.
4 ــــ الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.
5 ــــ الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية، وهي ذات حدود جغرافية تميزها عما سواها، تمتد من جبال طوروس في الشمال إلى قناة السويس في الجنوب، شاملة شبه جزيرة سينا وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب إلى الصحراء في الشرق حتى الالتقاء بدجلة.
6 ــــ الأمة السورية هيئة اجتماعية واحدة.
7 ــــ تستمد النهضة السورية القومية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها القومي والسياسي.
8 ــــ مصلحة سورية فوق كل مصلحة.
المبادىء الإصلاحية:
1 ــــ فصل الدين عن الدولة.
2 ــــ منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين.
3 ــــ إزالة الحواجز بن مختلف الطوائف والمذاهب.
4 ــــ إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة الأمة والدولة.
5 ــــ إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن.
ولقد كان لهذه المبادىء الصريحة الواضحة أثرها في بلورة المبادىء القومية عند الشبيبة السورية، وإزالة كل ما يحيط بها من إبهام وغموض، وما يلتبس بها من عصبيات ونزعات لا قومية، وقد ساعدت أيضاً على توحيد التفكير والأهداف القومية وبثّت في النشء روح الوطنية الصحيحة وجعلت لهم مثالاً عالياً ترتفع إليه نفوسهم وتسمو أخلاقهم، وبعد أن كاد اليأس يقضي على بقية الأخلاق والرجولة في الشعب.
وفضلاً عن المبادىء وأثرها فإن تطبيق نظام الحزب عملياً قد بث روح النظام والجندية لتكون الأمة مستعدة في حال إنهاء الانتداب لتحمل مسؤوليات الاستقلال، وكذلك فقد أحدث الحزب في الأمة مسألة التنظيم الشعبي الذي يقضي على الأنظمة الإقطاعية والطائفية في المسائل القومية.
إنّ الأمم الراقية التي مرت في نشوئها على حالات تشبه الحالة التي نحن فيها يمكنها أن تشعر مع الأمة السورية وتقدّر لها نضالها في سبيل تحقيق هذه المبادىء التي أصبحت تمثّل لها مصلحة الحياة وهي أيضاً مصلحة التمدن والعدل.
(5) اقتراح الحل:
إنّ قضية القومية السورية هي أمر واقع لا يمكن إنكاره بعد درس العوامل والروابط الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية. وهذا يعني أنّ إنشاء أكثر من حكومة واحدة ذات سيادة على الوحدة الجغرافية السورية بسبب وجود بعض نقائص في الحالة الاجتماعية والسياسية، هو عمل غير معقول فضلاً عن كونه منافياً للمصلحة القومية، فالضرورة تقضي إذن بإيجاد نظام يراعى الصعوبات الاجتماعية والسياسية التي تقاسيها الأمة، وبذات الوقت يفسح المجال للنشوء و التقدم الطبيعيين نحو الوحدة القومية التامة. لذلك وبالنظر للحالة المشوشة التي خلقها نظام الانتداب نقترح إنشاء حكومة اتحاد سوري في جميع الأراضي السورية الواقعة تحت الانتداب الفرنسي. لقد بيّن العالِم لي كوك فائدة نظام الاتحاد بقوله: «... إنّ ميزة نظام الاتحاد الخاصة هي في روح التوفيق التي يشتمل عليها». إنّ النظام المركزي الموحد هو النتيجة الطبيعية للكيان القومي الصحيح. وهذا لسوء الحظ ما لم يساعد نظام الانتداب على إنمائه، وهكذا فإنه بعد كل ما قيل وصنع نجد أنّ نظام الاتحاد هو أفضل نظام يتيح للقومية السورية النشوء والتحقيق دون أن يحدث عند بعض فئات الشعب في الوقت الحالي هزة بدون داعٍ.
إننا لحدّ الآن نرى أنّ المباحثات الأولية التي جرت بين وزارة الخارجية الفرنسية بشخص وكيل وزيرها السيد فيانو من جانب ورئيس الجمهورية اللبنانية من الجانب الآخر تعاكس كل المعاكسة المصلحة القومية في سورية، وبالتالي ثبات السياسة الإفرنسية ومصالحها في الشرق الأدنى. لقد اعتبرت عصبة الأمم، كما يدل صك الانتداب، أنّ لبنان دولة مستقلة كل الاستقلال عن سورية. وفي ذلك خطر كبير حتى على مصالح لبنان الاستقلالية والاقتصادية. إنّ الأسباب التي دعت لهذا الاعتبار قد أصبحت اليوم معروفة عند الجميع، وهي حماية الأقليات التي فضلاً عن كونها لا تشكل قواعد قومية لإنشاء دولة فهي أيضاً غير موجودة كأسباب رئيسية، لأن ظروف الحياة العصرية قد قللت كثيراً من الحماس في شأن المعتقدات الدينية بين مختلف الطوائف.
أبنّا فيما سبق كيف أنّ تقسيم الأراضي المشمولة بالانتداب الفرنسي إلى أكثر من حكومة واحدة قد عاد بنتائج معاكسة لنشوء القومية السورية، وقد تأيدت هذه الحقيقة بوقائع مادية ملموسة. ولا نظن أنّ العصبة تجهل الثورات والإضرابات المتعددة التي كانت تنبثق من تلقاء ذاتها، في الأربع عشرة سنة الأخيرة، بسبب سياسة الانتداب. غير أنه علينا أن ندرك اليوم أنّ المقاومة لهذه السياسة قد أكسبتها تعاليم الحزب السوري القومي القومية قوة جديدة.
فمبادىء الحزب تعبّر أصدق تعبير عن الرغبات الروحية والمادية للأمة السورية. إنّ الصبغة الروحية الجديدة للحركة ستكسبها شدة ووضوحاً وتعطيها حيوية لم تكن لها في الماضي. إنّ سبب النضال لن يكون فيما بعد لمجرّد التأثر من ضريبة أو معاملة سيئة لفئة من الشعب أو أي مطلب آخر يمكن أن يجاب بحل فرعي. إنّ النضال اليوم تدعو إليه اعتبارات أساسية عامة هي ظهور مبادىء قومية تعبّر عنها عناصر قومية، هي إرادة الحياة لأمة تاريخية تحسّ برسالتها الثقافية وتقدماتها التي لا تُقدّر بثمن للحضارة العامة، وتريد أن توحد قواها.
إننا نأمل أنّ عصبة الأمم ستعتبر بتجارب أربعة عشر عاماً من نظام الانتداب عند إقدامها على أي تدبير جديد، وإنها تميّز بوضوح بين مطالب العناصر الرجعية والعناصر التقدمية. لقد أصبح واضحاً أنه ليس هنالك أي مبرر من الوجهة القومية لفصل لبنان عن باقي سورية على أساس السيادة القومية، فلو سلّمنا جدلاً بالأساس الطائفي للانفصال لواجهتنا مشاكل حتى في هذا الاعتبار لا تكفل مطلقاً الثبات الداخلي لهذه الجمهورية المصغرة.
لا نكران أنّ المسيحيين يؤلفون الأكثرية في الجمهورية اللبنانية بموجب الإحصاء الأخير، ولكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، فقد يكون في هذا ما يرضي البطاركة والمطارين والذين أصبح لهم مصالح خاصة في الانفصال، غير أنّ السؤال الذي لا بدّ من إلقائه هو هذا ــــ هل يصح أن يكون مجرّد كون الإنسان مسيحياً كافياً لعدِّه مع طلاب الانفصال؟ إنّ التاجر ودافع الضرائب تهمّه المبالغ التي تنفق في سبيل المحافظة على هذه الحكومة الصغيرة أكثر من كل الهواجس الوهمية العتيقة عند رجال الدين.
فضلاً عن كل ذلك فإن انفصال لبنان هو انتحار له إذا نظرنا في مشكلة زيادة السكان، فكثافة السكان في لبنان لا تقل عن 92.91 للكيلومتر المربع وهي كثافة عالية جداً بالنسبة للموارد المحدودة في هذا الجبل، أما في حكومة الشام فالكثافة لا تقل عن 8.79 للكيلومتر المربع وهي كثافة قليلة جداً. لقد كانت مشكلة زيادة السكان في لبنان تُحلّ في الماضي بواسطة المهاجرة المستمرة، خصوصاً إلى العالم الجديد، أما الآن فبفضل التشديدات العديدة في قوانين الهجرة في الأميركتين نرى أنّ المشكل أصبح خطيراً يحتاج إلى الدرس والاعتبار.
إنّ نظام الاتحاد الذي نقترحه يعطي أفضل حل لمشكلة زيادة السكان الذي يهدد لبنان إذ يصبح له منفذ في السهول الفسيحة القليلة السكان في الداخل.
وبالاختصار فإن نظام الاتحاد، حيث يعطي للحكومة المركزية سلطة محدودة في المسائل الإدارية التشريعية على باقي الأجزاء، يساعد مع ذلك كما يقول العالِم «لي كوك» على خلق حكومة واحدة تجمع قوى الأجزاء في الدفاع الدولي وفي المسائل ذات الصبغة العامة دون أن يضحي كل قسم بحياته وتحسساته السياسية الخاصة.
والآن قد أزيح الستار عن هذا المشهد المريع من النضال المتلف، النضال الخالي من التسابق بين الأمم في سبيل التفوق، ولكنه نضال بين أمة حديثة تعتزم إنشاء حياة راقية وبين عدد من الرأسماليين والاستعماريين الذين وإن كانوا من طبقة قد حُكم عليها بالزوال، فإنهم ما زالوا يتمكنون من توجيه قوى حكومتهم لصدّ تقدم الأمم الضعيفة وإحداث الأضرار الجسيمة بالحضارة العامة.
لئن كان الشعب الإفرنسي يتوق للتخلص من نير جماعة الرأسماليين التي لا تشمل أكثر من مئتي عائلة، فإن أمام الشعب السوري أيضاً بضع عشرات من المستثمرين عليه أن يتخلص من سيطرتهم حتى يتمكن من متابعة سيره النشوئي. إنّ الشعب السوري كان دائماً يتمنى أحسن العلاقات الودّية مع الشعب الفرنسي، أما والحكم اليوم بيَد الجبهة الشعبية فإن الشعور العام هو أنّ التأثير غير المشروع الذي كان يسيّر الأمور بواسطة الحكومة المترأسة من جماعة أصحاب المصالح المادية في سورية قد تناقص اليوم، وأعطى بذلك فرصة سانحة للشعبين لإنشاء العلاقات الصحيحة بينهما.
«إنّ المبادىء الصحيحة لا تنفّذ في أزمات التاريخ الخطيرة، إلا إذا دعمتها بعض القوى المادية. لأن المبادىء المناقبية المجرّدة لا تسيّر التاريخ».
رينولد نيبور
ولتحيى سورية وليحيى سعاده
عميد الداخلية سابقاً
نعمة قسطنطين ثابت
1 تقرير لجنة الانتدابات الدائمة إلى مجلس عصبة الأمم عن أعمال الجلسة الثامنة (جلسة فوق العادة) المنعقدة في روما من 16 فبراير/شباط إلى 6 مارس/أذار سنة 1926 وجه 8.