صدى النهضة، بيروت، العدد 252، 5/4/1947
(تمكن مندوب الزميلة الدمشقية النصر من مقابلة الأستاذ أنطون سعاده، زعيم الحزب القومي الاجتماعي فكتب في جريدته الريبورتاج التالي:)
("إنها مهمة صعبةأن أتصل بالأستاذ سعاده وهو في مقر احتجابه، ولكن لا بد من تلبية المهمة التي أناطتها بي جريدتي ومن إشباع هوايتي الصحفية رغم ما يعترضني من عراقيل ليس تذليلها بالأمر الهيّن، ومع هذا غادرت دمشق في صباح الجمعة الفائت إلى بيروت، وفي هذه المدينة مفتاح السر ولكن كيف أهتدي إلى المفتاح؟
تذكرت صديقاً لي أعرفه عضواً في مجلس الحزب الأعلى فقصدته. شرحت له مهمتي، ووعدته بالكتمان المطلق في كل ما يتعلق بتفاصيل الاتصال فاطمأن إليّ، وقادني بسيارة في أحياء بيروت إلى بيت منعزل، فنقر على البال وأطل شاب في عنفوان القوة وأسرّ إليه ببضع كلمات تقدم الشاب بعدها مني وركب السيارة إلى جانبي، وذهب صديقي في اتجاه آخر وبدأت السيارة تعاريجها حتى تركنا بيروت خلفنا، وصعدنا في طريق الجبل مارين بقرى كثيرة.
كان صاحبي يُحيّي بعض رفاقه في الطريق وعلى وجوههم علامات الاستفهام ودلائل الحزم. وبعد مسيرة نصف ساعة وقفت بنا السيارة في بلدة من جبل لبنان ومن هناك ذهبنا إلى مقهى، وأشارعليّ الشاب بالانتظار وذهب وحده، وبعد ساعة من الزمن تقدم إليّ شباب قرأت الجد والعزم في وجوههم وقادوني إلى مقرّ الأستاذ أنطون سعاده زعيم الحزب السوري القومي، وإذا بحارسين بسلاحهما أمام باب البيت الريفي الهادئ الخالي من كل تحصين.
في هذه الفترة أدرت عينيّ حول المكان فرأيت على أبعاد معيّنة نقاطاً يظهر أنّ فيها قوات تتربّص الشر بكل من تسوّل له نفسه أن يدنو من البيت وأخيراً دخلت البهو، وأشير عليّ بالانتظار، فشعرت بجو عسكري رهيب: حراس عمالقة، وشباب حي يعدون جيئة وذهاباً، وإمارات الجد مرتسمة على وجوههم، إلى أن حان موعد المقابلة، فأدلخت إلى مكتب الزعيم وألفيته في حلة مدنية أمام مكتبه مطمئناً هادئاً، وشرحت له مهمتي، فرحّب بي، وأعطيته أسئلتي فقرأها مبتسماً وقال ما معناه: إنكم أيها الصحفيون تعرفون كيف تختارون أسئلتكم، وهي في الصميم من الموضوع وحتى في صميمه الشائك. وبدأ يكتب إلى أن أجاب عليها كلها غير مستثنٍ سؤالاً واحداً فودّعته وانصرفت شاكراً وقادتني السيارة إلى بيروت في ظلمة الليل.
وإلى القارئ الأسئلة والأجوبة:)
س – ما هي الأسباب الحقيقية لموقف المشادة بينكم وبين الحكومة اللبنانية؟
ج – لا يوجد من جهتي أسباب لهذا الموقف على الإطلاق. كل الموقف يتعلق بالحكومة اللبنانية وحدها. هي التي خلقته وعندها أسبابه، وهي أسباب غامضة تبدو في عبارات مبهمة فاه بها أحد النواب في المجلس النيابي وأجاب رئيس الوزارة عليها بعبارات مبهمة من نوعها كقوله إنّ في خطابي "هنات" ولكنه لم يذكر نوع هذه "الهنات" ولا ماهيتها وكان الواجب يقضي حين بحث خطاب صريح واضح في جلسة من جلسات المجلس النيابي، أن يعيّن المنتقدون ماهية "الهنات" ومبلغ أهميتها ليصحّ مطالبة الحكومة بتدابير تجاهها وأن تقتنع الحكومة بصواب الانتقاد وخطر "الهنات". ولكن يظهر أن جو المجلس وجو الحكومة لم يتغيرا كثيراً منذ زال الاحتلال الفرنسي فلا حرية للفكر، ولا حرية للقول، ويمكن تكليف الأمن العام ملاحقة أي شخص وهيئة بالاستناد إلى أية تعليلات مبهمة ومطاطة، كالقول إنه ورد في كلام "هنات" أو عبارات "غير موافقة" أو غير ذلك.
س – كيف ترون أنّ هذه الأزمة ستُحل؟
ج – قد سهّلتُ، من جهتي، كل ما يؤول إلى إعادة الأمور إلى حالة طبيعية، فقد قام بعض أركان الإدارة الحزبية بمراجعات لعدد من المراجع الحكومية، وجرى اتصال برئيس الوزارة وبوزير الدفاع ووزير النافعة وغيرهم. واصدرت بياني الأول بعد الخطاب الذي شرحت فيه معنى الخطاب وموقفي من لبنان والكيان اللبناني. ولكن رئيس الوزارة ارتأى أنّ البيان غير كاف، واقترح وضع تصريح خطي بسيط في صدد موقفي من الكيان اللبناني، فوضعت تصريحاً أقول فيه بالاعتراف بواقع هذا الكيان باعتباره تعبيراً صادقاً عن إرادة الشعب اللبناني، وطالما هو يعبّر عن هذه الإرادة ويضمن الحريات الأساسية. فنقل هذا التصريح إلى الوزارة، ولمّا كان حضرة رئيس الوزارة غائباً ارتأى وزير الأشغال العامة والنافعة عرضه على فخامة رئيس الجمهورية رأساً. وهكذا جرى.
وبلغني أن فخامة الرئيس وحضرة رئيس المجلس النيابي اختليا ودرسا التصريح معاً. وعلى الأثر وضع في مكتب رئاسة الجمهورية نص تصريح يقول هكذا: "نسب إليّ بعد إلقاء خطابي أني لا أتعرف على الكيان اللبناني فأنا أصرّح ببطلان هذا الزعم وأؤكد إخلاصي للكيان اللبناني والعمل على أساس هذا الكيان بدون أي تحفظ بصفتي الشخصية وبصفتي رئيساً للحزب القومي"، فرفضت التوقيع على هذه الصيغة التي تفرض الإخلاص للكيان اللبناني حتى ضد إرادة الشعب اللبناني، واصررت على وجوب جعل الإخلاص لهذا الكيان مرتبطاً بتعبيره عن إرادة الشعب اللبناني وليس ضد إرادة الشعب، وعدت فوضعت صيغة أخرى تثبت إرادة الشعب اللبناني، فلم تحز القبول عند الحكومة. والظاهر أنّ الحكومة اللبنانية الحاضرة تريد أن تفرض عليّ المحافظة على الكيان اللبناني ضد إرادة الشعب اللبناني وهو الاستعباد بعينه، ولا يمكن أن أسلّم به، وقد قطعت الحكومة من جانبها المفاوضة التي كانت جارية وقررت – على ما بلغني – تكليف القضاء إحضاري لاستجواب قضائي في قضية وجدانية لا دخل للقضاء فيها.
س – إذن لا توجد تهمة صريحة ضدكم؟
ج – لم تبلغني أية مذكرة إتهامية فالأمور من هذه الجهة غامضة جدًّا، ولا صراحة فيها، ولم تكن مهاجمتي في المجلس النيابي مبنية على صراحة وبيّنات.
س – كيف تحددون هذه المشادة أو المعركة؟
ج – هي من جهتي معركة في سبيل حرية الفكر والقول، ولا يمكن أن يكون لها تحديد آخر، إذ إنّ خطابي وبياني ضمناً أنه لا عداء ولا تعرّض للكيان اللبناني، فلا يوجد قضية من هذا القبيل. والضجة التي أثيرت في بعض الصحف المعروفة الصبغة هي ضجة مفتعلة لا يصح اتخاذها أساساً لأي تدبير حكومي ضدي.
س – هل تظنون أنّ لمشروع (سورية الكبرى) الذي يطلب الملك عبدالله تحقيقه علاقة بموقف الحكومة اللبنانية منكم؟
ج – لا أظن، إذ لا يصح أن تزر وازرة وزر اخرى، وعقيدتنا القومية سابقة لمشروع جلالة ملك شرق الأردن ولم أنادِ في خطابي، ولا في أي تصريح آخر بمعاضدة المشروع المذكور، بل إنّ الحكومة اللبنانية غافلة عن تعقّب عمال هذا المشروع الذين يعملون له في لبنان.
س – ما رأيكم في تقارب الأمم العربية؟
ج – إننا من هذا القبيل عروبيون. وقد صرّحت في خطابي في الثاني من الشهر الحاضر أننا نعدّ أنفسنا العروبيين الواقعيين، لأن ما يجري في العالم العربي هو تطبيق لنظريتنا وعلمنا.
س – مررت بمناطق قومية اجتماعية ظاهرة فيها الغضبة لدوام هذه الوضعية الشاذة القائمة بينكم وبين الحكومة اللبنانية، فهل يمكن أن تؤدي هذه الوضعية إلى انفجار؟
ج – لقد أظهر القوميون الاجتماعيون استياءهم الشديد للحالة الشاذة الحاضرة ولكني دعوتهم إلى الهدوء حرصاً على المصلحة العامة، بل إنّ احتجابي عن دائرة الأمن العام هو من أجل حفظ الأمن العام وحقن الدماء.