المطران مبارك – الفلنج اللبنانية
"كل مملكة تنقسم على نفسها تخرب"
بقلم هاني بعل
الشمس، بيروت، العدد 296، 6/10/1947
دغدغ الفرنسيون، في أثناء احتلالهم سورية الشمالية الغربية، تخيلات البطريركية المارونية ولفيف الإكليروس الماروني بفكرة إنشاء دولة مسيحية في جبل لبنان تكون فيها السلطة في يد الطائفة الأكثر عدداً حينذاك، أي الطائفة المارونية، وهيأوا لدعاوة واسعة لتحقيق الفكرة المذكورة وإيجاد العقلية اللازمة لها بواسطة المدارس الإكليريكية الخاضعة للنفوذ الفرنسي وبواسطة الصحافة المتعيّشة وبواسطة تأثير المصالح التي كانت في أيديهم.
كان من وراء ذلك اعتقال مجلس إدارة لبنان، الذي أراد أعضاؤه، بالإجماع، اتقاء كارثة الانفصال عن صلب الأمة السورية بمحاولة التفاهم مع حكومة الشام على الإبقاء على وحدة المنطقتين الشامية واللبنانية، ونفيهم إلى جزيرة كورسكة. وكان من وراء ذلك، أيضا، إعلان قائد الجيش الفرنسي المحتل، الجنرال غورو، باسم الجمهورية الفرنسية "دولة لبنان الكبير" وألحقت بهذه الدولة المناطق المعروفة بـ"الأقضية الأربعة" من غير استفتاء لسكان "لبنان الصغير" ولا لسكان الأقضية التي شملتها حدود "لبنان الكبير".
على هذا الأساس قامت دولة "لبنان الكبير" والكيان اللبناني وهو أساس مشترك من الحزبية الدينية والإرادة الأجنبية. وعلى هذا الأساس وضعت السياسة اللبنانية. فلما نشأت النهضة السورية القومية الاجتماعية وأظهرت فساد هذا الأساس لإنشاء دولة ثابتة وأعلنت أنه لا يمكن إقامة دولة قومية مستقلة إلا على أساس قومي صحيح وضعه مؤسس النهضة، وابتدأ الجيل الجديد يعي هذه الحقيقة ويدخل في الحركة القومية الاجتماعية أفواجاً، إرتاع الممثلون لهذه الظاهرة وحركوا العناصر التابعة لنفوذهم لمقاومة انتشار الفكرة القومية الاجتماعية، وللتغرير بشباب الطائفة المارونية للقيام بحركة تستر أساس الحزبية الدينية القائمة عليه الدولة بستار فكرة ارضية "جبلية" شبه قومية فتأسس "حزب الوحدة اللبنانية" ثم تاسست "الفلانج اللبنانية" لغاية "السعي لإنشاء أمة لبنانية تنال الاستقلال على أساس الصداقة والتعاهد مع فرنسة".
وقد قامت المشكّلات "اللبنانية" المارونية على القواعد المذكورة وحاولت أن تجذب إلى صفوفها تحت ستار إسم "لبنان" ولو فئة قليلة من أبناء الطوائف الأخرى فلم تفلح وظل التلبنن مرادفاً للطائفية المارونية وملازماً لها، بينما، لازم الطائفيات المحمدية التعرب. ووقع "الكيان اللبناني" فريسة الانقسام والنزاع بين الحزبيتين الدينيتين المارونية خاصة والمسيحية عامة من جهة، والسنية خاصة والمحمدية عامة من الجهة الثانية، وكل حزبية من هاتين الحزبيتين تحاول أن تثبت أنّ غرضها ليس مليًّا بل "قوميًّا" ولكن واقع الانقسام وطبيعة التيارين يثبتان كل يوم وفي كل حادث أنّ الاتجاهين مليّان، وأنّ احتيال أحدهما على المظاهر يقابل احتيال الآخر عليها. فالانقسام في أساسه ملّي ولا يمكن لأي عمل ملّي أن يصير قوميًّا بمحاولة اتخاذ صبغة شبه قومية ملائمة لغرضه.
بروح الحزبية الدينية المارونية المسيحية قامت "الفلانج اللبنانية" تحارب زعيم الحركة القومية الاجتماعية التي أثبت أنها منقذة الأمة من ويلات الملّية وعصبيتها الرعناء، الهدامة، المخربة. وبتلك الروح تأزرت "الفلانج" والمطران مبارك لمحاربة النهضة القومية الاجتماعية التي هي أمل الأمة الوحيد في سيادتها واستقلالها وحريتها وأغراضها الأخيرة في الحياة.
بروح الحزبية الدينية الخبيثة قام الفلنجيون بمظاهر بطولة قزمية للدفاع عن الكيان المنقسم على نفسه وقام يؤازرهم سندهم المطران مبارك وفي كل تحامل لهم في أوساطهم الملّية على الحركة القومية الاجتماعية، يقولون إنّ في إنقاذها الأمة والوطن من الحزبيات الدينية المهلكة نكبة للمسيحيين ودولتهم الملّية اللبنانية!
إنهم يفضلون دولة منقسمة على ذاتها إلى ملل على أمة موحدة ودولة قومية صحيحة. إنهم يفضّلون الفتنة على الوحدة. وها سياستهم آخذة في إعطاء ثمارها من جديد كما أعطت ثمارها من قديم. وقد قال المسيح "من ثمارهم تعرفونهم".
ها هي ثمار التلبنن الملّي تنذر بويل التقتيل. إنها ليست ثمار الحركة القومية الاجتماعية، بل ثمار الحزبية الدينية التي تفرّق بين "اللبنانيين الصرف" واللبنانيين "غير الصرف". هي ثمار الفلنجيين والمطرانيين!
في السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول الماضي أذاعت إحدى صحف هذه المدينة نص مذكرة قدّمها المطران مبارك، أحد أبطال كيان لبنان، إلى لجنة التحقيق الإنترناسيونية في مسألة فلسطين يظهر فيها بصورة لا تقبل الجدل ولا الشك أنّ "لبنان" هو لفظ مرادف للموارنة أو المسيحيين. إليك عبارته: "إنّ لبنان من حيث موقعه الجغرافي وتاريخيه وثقافته وتقاليديه وأخلاق سكانه وتمسّكهم بإيمانهم ومثلهم الأعلى، نعم إنّ لبنان من حيث كل ذلك، كان يتهرب دائماً، حتى يوم كان تحت النير العثماني، من ضغط الشعوب المحيطة به (المحمديين)".
إنّ الخطر على المسيحيين هو في تلك السياسة الملّية المناوئة للقومية – في تلك العقيدة المترجرجة التي تريد تارة، دولة كبيرة على أساس أكثرية ملّية وطوراً تريد دولة "صغيرة صرف" تحت رحمة حماية دولة أجنبية!
في السياسة الملّية يكمن الخطر الحقيقي على المسيحيين في لبنان وليس في تعاليم النهضة القومية الاجتماعية التي منعت المذابح في نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1936 والتي هي وحدها دافعة الخطر عن الشعب من مآتم السياسة الملّية.
أيها اللبنانيون المسيحيون،
إطرحوا السياسة الملّية جانباً واعتنقوا العقيدة القومية الاجتماعية. تلك تقودكم إلى الخراب وهذه تقودكم إلى الطمأنينة والفلاح!