النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد2، 1/12/1947
عرف الرفقاء القوميون الاجتماعيون الذين وصل إليهم العدد الماضي من هذه النشرة وقرأوا التعليق المنشور في الصفحة الأولى على تحويلها من نشرة غير واضحة المنزلة العقدية، بالنظر لما تعرضت له من نشر ما هو خارج على الأصول التعليمية للحركة القومية الاجتماعية أو عنها، إلى نشرة رسمية تضبط فيها الدراسات، تحت إشراف الزعيم ومراقبته، على العقيدة القومية الاجتماعية، أنه نشأت في دوائر الحركة العليا، في غياب الزعيم، انحرافات عن العقيدة لم تقتصر على الناحية السياسية من الحركة، بل تناولت النظرة الفلسفية عينها، أي فلسفة الحركة الاجتماعية، وأنّ من أهم أعمال الإذاعة والثقافة القوميتين الاجتماعيتين ضبط التوجيه الفكري والتعليم العقدي وإبراز العقيدة القومية الاجتماعية للرفقاء نقية صافية ليفهموها بوضوح أكثر ويصيروا قادرين على التمييز بينها وبين الأفكار والمعتقدات الأخرى التي يحصل لهم بها احتكاك.
إنّ من أشد الأسف أن تكون العقيدة أهلمت بالكلية بعد سفر الزعيم بسنة، وان لا تكون المؤسسات الحزبية العليا تنبهت إلى أنّ معرفة العقيدة معرفة صحيحة هي أول ضرورة نفسية للقوميين الاجتماعيين، وأنها أولى الأمور الثقافية والإذاعية التي كان يجب أن تُعنى بها كل العناية لتحقيق هدف إنشاء جيل جديد ينظر إلى الحياة والكون والفن نظراً جديداً – ذلك الهدف الذي وضعته تعاليم سعاده مطمحاً عظيماً في نفوس القوميين الاجتماعيين.
رفيق واحد قدّر هذه الحاجة وعوّل على الاضطلاع بهذه المهمة في السنة الأولى لسفر الزعيم هوالأمين السابق فخري معلوف الذي قرر، بصفته رئيساً لدورة الندوة الثقافية عام 1938 – 1939، تدريس كتاب نشوء الأمم فصلاً فصلاً في الندوة طوال ذلك العام. ولكن هذه المهمة الجليلة توقفت بسفر الرفيق المذكور إلى أميركانية حيث أخضعه ابتعاده عن المجتمع القومي الاجتماعي ومساق دراسته الفلسفية، التي كان قد أخذ توجيهات أولى فيها على يد الدكتور شارل مالك، لقواعد نظر ديني في الفلسفة أغرقته، بمساعدة ظروف عديدة، في غمرة اعتقادات دينية أوصلته هو أيضاً إلى الشذوذ عن العقيدة شذوذاً أدى إلى توقيفه عن ممارسة حقوق العضوية.
بعد تلك المحاولة الأولى التي قام بها الأمين السابق فخري معلوف في الندوة الثقافية طويت العقيدة وبقيت كامنة في نفوس المؤمنين بها بإحساس واضح صحيح عند الذين لم يكونوا من المشتغلين بالفلسفة وقضايا الفكر ليضطلعوا بمهمة شرحها وتبيان حقيقتها الفلسفية العظيمة. وكان من جراء ذلك أن بعض طلبة الفلسفة من الرفقاء تركوا بلا تعليم عقدي ليقبلوا تعاليم المدرسة العقدية الأولى التي يدخلون لتعلّم الفلسفة فيها، فدرسوا المذاهب الفلسفية والكلاسيكية وما عرض عليهم أو وُجّهوا إليه من مذاهب أخرى إلا الفلسفة القومية الاجتماعية. فهذه لم يكن بقربهم من يهتم بتوجيههم إليها فلم يكن لها مكان في أفهامهم، وكوّنوا نظرتهم، أوليًّا أو نهائيًّا، على غير نظرتها وأصولها. ومن البديهي أن يكون إنتاجهم، في هذه الحالة، في غير اتجاهها وفي غير نظرتها. وإنّ من هذا الإنتاج الذي يحمل تناقضاً أساسيًّا مع عقيدتنا ما قد ذاع وانتشر بين الرفقاء القوميين الاجتماعيين بواسطة الأجهزة الحزبية، حتى لقد ظن كثيرون أنه توجيه جديد للحركة القومية الاجتماعية من صميمها، وكثير منهم، ممن يلاحظون بعض الفوارق، يتساءلون عن مدى قبول المنظمة والرفقاء لمثل هذا الاستحداث العقدي.
وقد كتب الزعيم في العقيدة ما يلي:
لا مشاحة في أنّ العقيدة لا تكون عقيدتين بل واحدة، وأنّ الحركة لا تكون حركتين، بل واحدة، وأنّ الزوبعة لاتكون زوبعتين بل واحدة. لذلك وجب أن نوضح للرفقاء مسائل كثيرة في العقيدة القومية الاجتماعية تساعدهم على فهمها وعلى تجنب الأخذ بما قد يخالطها في الأدب ولا يأتلف معها في الأساس والغاية.
نعرّف العقيدة بأنها قومية اجتماعية. فهي قومية لأنها تقول بالأمة والولاء القومي. وهي اجتماعية لأن غايتها الاجتماع الإنساني – المجتمع وحقيقته ونموه وحياته المثلى. والمجتمع الأكبر والأمثل هو الأمة، وقد جاء في التعاليم: "أمة واحدة – مجتمع واحد".
من هذا الإيضاح الأولى ندرك أنّ عقيدتنا تقول بحقيقة إنسانية، كلية، أساسية هي الحقيقة الاجتماعية: الجماعة، المجتمع المتحد. فالاجتماع للإنسان حتمي لوجوده، ضروري لبقائه واستمراره. والمجتمع هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية. والقيم الإنسانية العليا لا يمكن أن يكون لها وجود وفعل إلا في المجتمع فمتجه القيم كلها هو المجتمع – هو مصدرها وهو غايتها.
كل القيم الإنسانية هي قيم اجتماعية. والاجتماع ليس شيئاً مقرراً بالاختيار من قِبَل أفراد ينشأون خارج المجتمع – بلا مجتمع – نشوءاً مستقلاًّ ثم يختارون الاجتماع اختياراً فيحتكون بعضهم ببعض، بدافع اختيارهم، ويقررون إنشاء مجتمع يتابعون في الاحتكاك الشخصي بعضهم ببعض ويتفقون فيه على التعاون على حاجيات الحياة وأسباب العيش (راجع نشوء الأمم، ص 143، [ج 3 ص 120] ، كلا. ليس الاجتماع شيئاً من ذلك. إنه ليس حادثاً اختياريًّا.
الحق والخير والجمال والحقيقة هي قيم اجتماعية، متحدية، لا قيم فردية، لا الكثرة ولا القلة تقرر الحق وتفرضه فرضاً. وإذا لم تكن الكثرة ولا القلة أساس تقرير الحق فبالأَوْلى أن لا يكون الفرد أساس تقرير الحق وذا السلطان لفرضه. إنّ مسألة الحق ليست مسألة عددية، بل مسألة إنسانية اجتماعية. الحق قد يبتدئ بفرد وقد يبتدئ بعدد قليل ضئيل وقد يبتدئ بعدد كثير. ولكن شرط الحق في الإنسانية، ليكون حقًّا، أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه – أن لا يكون حقًّا عدديًّا، بل حقًّا اجتماعيًّا لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد، بل يمتد في المجتمع بلا حدود – في المتحد نفسه في تعاقب أجياله. الحق ليس فرديًّا ولا عدديًّا. فهو لا يموت مع الفرد ولا يفنى بفناء العدد. إنّ الحق اجتماعي يظل قائماً ما ظل المتحد قائماً.
المسيحية ابتدأت بفرد، وكذلك المحمدية، وكذلك القومية الاجتماعية، ولكنها استغنت بهذه البداءة عن القلة والكثرة معاً ولكنها لم تستغنِ عن المجتمع الذي له وجدت تعاليمها. وكل حق وخير وجمال تعبّرعنه تعاليم كل منها هو اجتماعي وللمجتمع ولا يقوم إلا بالمجتمع.
الحق انتصار على الباطل. ليس كل ما ادُّعي أنه حق هو حق. الجعجعة بذاتها لا تكوّن حقًّا.
الحق انتصار على الباطل في معركة إنسانية وليس في معركة غيبية أو إلهية تجري وراء هذا العالم ولا يشترك فيها الإنسان – المجتمع الإنساني!
المتحد، إذن، هو الحقيقة الإنسانية الكبرى، حقيقة القيم الإنسانية العليا واستمرارها، فيه يجد الوجود الإنساني حقيقته وحقيقة استمراره.
ليس المجتمع مجرّد مجموع عددي من الناس. إنّ المجتمع غير المجموع. إنّ المجتمع أعمق بكثير من الجموع العددي وأسمى بكثير منه. إنه أعلى بما لا يدرك قياسه عن نظرة تحسبه مجرّد عدد من الناس.
الأفراد، في المجتمع، يأتون ويذهبون. يكلمون آجالهم ويتساقطون تساقط أوراق الخريف. ولكن الحق، لا يذهب معهم، بل يبقى، لأن الحق إنساني والإنساني اجتماعي. فهو يبقى بالمجتمع وفيه.
إنّ عقيدتنا اجتماعية، تنظرإلى الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى – حقيقة المجتمع، لا من زاوية الفرد، الذي هو، في حد ذاته وضمن ذلك الحد، مجرّد إمكانية إنسانية.