الجيل الجديد، بيروت، العدد 3، 7/4/1948
تطغى اليوم على لبنان وبقية البلاد السورية موجة سياسية شعبية، هي موجة تعدد الأحزاب التي تدعو إليها المساومات والتسويات المتعددة الرائجة في الشعب.
تعدد الأحزاب في أمة ظاهرة يدل على إحدى حالتين اجتماعيتين ـ نفسيتين ـ سياسيتين: إما حالة البلبلة الناشئة من فقد القواعد القومية الصحيحة وفقد النظم الاجتماعية والسياسية والعسكرية مدة طويلة من الزمن، كما هي الحال في سورية الطبيعية، وإما حالة انحلال أنظمة كانت قائمة، كما هي الحال في فرنسة وإيطالية وألمانية.
فقدت البلاد السورية كلها نظامها الاجتماعي ونظامها العسكري ونظامها السياسي القديم. ومزقتها، من الداخل، الحزبيات الدينية المتعددة وتدخلت في مصيرها، من الخارج، الإرادات الأجنبية المتنوعة والمختلفة. فكثرت القضايا وكثرت النظرات الجزئية والخصوصية إليها وكثرت الفئات الممكنة لكل قضية جزئية وكل مصلحة وقتية.
في حالة فقد النظم المتينة التي يقوم بها المجتمع مدة طويلة، كما هي الحال في أمتنا، ينشأ مظهر آخر من مظاهر الانحلال والفوضى، هو مظهر النزعة الفردية المصاحبة بعدم الشعور بالمسؤولية إلا تجاه النفس.
تجتمع جميع هذه العوامل فتكوِّن طفرة سياسية. فيهجم الأفراد على قضايا المساومات والتسويات وتكثر الكتل السياسية. فيأخذ بعضها فكرة دينية معيّنة ويجد فئة تحبذ تلك الفكرة. ويأخذ بعضها أمراً مفعولاً معيّناً ويجد فئة لها مصلحة في ذلك الأمر المفعول. ويأخذ بعضها لوناً أو زاوية من ألوان أو زوايا قضية أو موضوع معيّن وله اهتمام جار ويجد فئة تندفع له وهكذا دواليك.
ولا تقتصر هذه الحالة على الجماعات الشعبية، بل تتناول المجالس النيابية أيضاً فالنواب يطلبون التكتل ضمن المجلس لأغراض شتى. ويسمّون بعض التكتلات "معارضة" ويسمّون البعض الآخر "حكومية" ويسمّون غيرها "إصلاحية".
نحن اليوم في لبنان وفي بقية البلاد السورية في زمن طفرة الأحزاب أو الطفرة السياسية بجميع أشكالها، التي منها اتجاه أكيد واضح نحو امتهان السياسة في دائرة واسعة من المتعلمين غير المنظمين في عقائد ومقاصد كبرى.
كل حامل شهادة محاماة أو شهادة طب أو شهادة أدب أو شهادة فلسفة أو شهادة هندسة أو أية شهادة أخرى ويرى الفوضى السياسية في هذه الأمة يقف ويسأل نفسه قائلاً: "ها. إذا كان فلان الذي أعرف من هو وما هو، قد صار نائباً وسيصير وزيراً، فلماذا لا أكون أنا كذلك، أنا أجدر منه ولي من المعارف والأقارب من يؤازرني؟".
في هذه الفوضى والنزعات الفردية تصبح السياسة غاية. فتوضع الجداول الفكرية والإصلاحية لتكون واسطة للسياسة. وتكثر الأحزاب الملوِّحة للشعب بجداول "إصلاحها" لتزيد البلبلة والفوضى.
إنّ وضع البلاد السياسي المشابه للوضع السياسي في القرون الوسطى يسمح بكثرة الأحزاب وكثرة النزعات وكثرة الغايات. فالبيوتات الكبيرة من إقطاعية ورأسمالية وغيرها لا تزال تتجاذب النفوذ وتتنافس في المصالح. فلا يزال هنالك استمرار لذهنية اليزبكي والجنبلاطي والفرنجوي والكرمي والأسعدي والخليلي والكرامي والمقدمي وغيرها في لبنان، والحسيني والخالدي والنشاشيبي في فلسطين، والجابري والمردمي والبارودي والبرازي والشيشكلي والأتاسي في الشام والكيلاني وغيرهم في العراق. بيوتات وحزبيات تعدّ منها ولا تعدها.
ثم هناك مسألة الماروني والأرثوذكسي والسرياني والبروتستانتي والسني والشيعي والعلوي والإسماعيلي والدرزي. فهذه المسألة لا تزال تجذب بقية كبيرة من عقلية عتيقة تسهل تكاثر الأحزاب، وتضع أمام الطامع السياسي إمكانيات غير قليلة لتأليف الحزب السياسي.
وإنّ تجزؤ البلاد وتفككها الاقتصادي والاجتماعي عامل آخر في كثرة الاحتراف السياسي ونشوء الأحزاب العديدة. فإن التجزؤ يقتل إمكانية النهوض الاقتصادي ونشاط الإنتاج وازدهار الحياة في مختلف الأنحاء. فلا يبقى أمام ذي الطموح إلا الالتجاء إلى السياسة يزاحم غيره على مراكزها وفوائدها.
يحاول الكاتب في لبنان أن ينتج أدباً. ولكنه لا يلبث أن ييأس، لأنه لا يجد نطاقاً كافية في لبنان لإحياء أدب لبناني صرف. ويحاول الصناعي أن ينشىء صناعته في لبنان، ولكنه بعد أن يدرس الوضعية الاقتصادية غير الطبيعية ييأس. فلا يبقى أمام الكاتب أو الصناعي أو المحامي أو غيره إلا السياسة باباً مفتوحاً لنشاطه.
إنّ الاستمرار في حالة الفوضى والبلبلة يعني استمراراً في الانحلال. وإنّ الأمة لفي حاجة لغير أحزاب العقلية العتيقة والاستسلام للأمر المفعول والاتجاه نحو المساومات والتسويات.
إنّ الأمة تحتاج إلى نهضة صحيحة تتناول الحياة القومية من أساسها ومن جميع وجوهها.
نحو هذه النهضة، نحو النهضة القومية الاجتماعية المتجهة نحو إقامة نظام جديد يغيّر وجه التاريخ ويكسر قيود حيوية هذه الأمة العظيمة، ويشق الطريق لفلاحها ومجدها، يحسن الاتجاه.