كل شيء، بيروت، العدد 109، 29/4/1949
قلت مراراً، ومن زمان طويل، إنه لا أمل بتحسين حالة سيئة وتنظيم أمور أمة بسياسة تغيير أشخاص وتغيير وجوه، فلا أمل للأمة بالنهوض والارتقاء إلا بتولّد الوعي القومي وبنشوء السياسة القومية التي يجب أن تحل محل السياسة الشخصية وبتغيير القواعد السياسية كلها. فإنّ إبدال أشخاص بأشخاص لا يغيّر السياسة الشخصية المسؤولة عن تعثرنا وسقوطنا في أول فرصة أعطيت لنا للسير نحو الحرية والسيادة القومية الحقيقية.
الأشخاص مهما كانوا متعلمين ومتنورين، لا يخرجون عن كونهم أشخاصاً ـ أفراداً تسيطر على أعمالهم نظم تفكيرهم الفردي اللامسؤول نحو قضية واضحة ومبادىء محددة صريحة، وغاية قومية جماعية. فالسياسة لهم هي في الغايات الفردية الخصوصية، والمقاصد عندهم هي المقاصد الفردية، وليست القضايا القومية إلا واسطة لغاياتهم الخصوصية، وإذا تكرموا بإعطائها قسطاً من تفكيرهم لم يخرجوا، في ذلك، عن حدود الفردية ومتعها الفكرية، فمصير الأمة منوط أبداً بتقلب ميولهم وأحوالهم الفردية وهو، لذلك، مصير قاتم، غامض لا يمكن أن يطمئن إليه شعب حي، حر، واعٍ قوميته، عارف قضيته الكبرى ومقاصده العظمى.
الفردية غير المسؤولة هي من أسوأ أمراض المجتمع النفسية ومن أكبر قضاياه الاجتماعية والسياسية. فإذا تحكَّمت هذه الفردية الهدّامة في مصير شعب وسخّرته لأغراضها الشخصية ومقرراتها التحكمية قادته إلى الخراب والذل. وسيطرة الأفراد الخطرة على الأمم هي تلك السيطرة التي يصل إليها الأفراد عن طريق وثبة المطامع الشخصية في سانحة المشاكل السياسية ـ تلك السيطرة التي تعني للفرد غايته العظمى، فهي ليست واسطة لقضية جماعية أسّسها وبناها الفرد، بل غاية تتخذ القضية الجماعية واسطة لها. إنها ليست سيطرة قضية الأمة بواسطة الفرد الذي يحمل قضية الأمة، بل سيطرة قضية الشخص الذي يحمّل الأمة كلها أعباء قضيته الخصوصية!
هذه هي الدكتاتورية البغيضة التي تتخذ شعباً بكليته مطية لإرادتها الفردية المطلقة. إنها أقبح أنواع الاستعباد، لأنها استعباد من الداخل. وإذا لم تصل هذه الدكتاتورية إلى السلطة التنفيذية فهي تمارس طغيانها المخرب بالتهديم من تحت.
لا تزول القضايا الشخصية باقتسام السلطة التنفيذية أو بتوزيعها على عدد من الأشخاص. فمجموع أشخاص لا يساوي إلا قضايا شخصية!
ليست قضية الأمة مجموعة قضايا شخصية، فقضية الأمة هي قضية غاية ومبادىء قومية كلية، ولا يمكن أن تسير أمة إلى الفلاح والمجد إلا عن طريق قضيتها الكلية. فاين قضية الأمة الكلية في المنازعات بين اشخاص وأشخاص، وبين حكومات وحكومات، وهل يمكن أن يخرج الشعب من مشاكله بواسطة سياسة المماليك؟ وهل يمكن القضاء على سياسة المماليك بواسطة المماليك؟
الأمة في حالة خطرة من الإبهام والشلل وسط القضايا الخصوصية التي تتنازع مصيرها. وليس أسوأ مصيراً من شعب غافل عن قضيته الكلية. وليست خسارة كيليكية والإسكندرونة وفلسطين إلا نتائج أولى لتلك القضايا وهذه الغفلة. وكما لها الشعب قديماً بالقضايا الخصوصية، هو يلهو اليوم باشتباك القضايا الخارجة عن نطاق حياته بالقضايا الشخصية التي لا تزال جذورها ممتدة في أوساطه. إنه يفرِّج كربه من حوادث فلسطين ومن حالة السوريين اللاجئين من الجنوب بالمناظرات القائمة بين محور العراق ـ الأردن الذي تديره العاءلة العربية الهاشمية ومحور العُربة ـ مصر الذي يسير في سياسة موحدة تجاه الدول السورية ترتكز على إقرار الأمر المفعول.
إذا بحثنا عن قضية الأمة في هذه المنازعات ومتشعباتها فعبثاً نبحث، لأنّ قضية الأمة ليست في إرادات خارجية، ولا في العروش والتيجان الملكية. إنها في الشعب، في سيادة الأمة لا في سيادة الأشخاص.
إن قضية الأمة هي في نهضتها وتقرير مصيرها بإرادتها. إنها في مبادىء وجودها وحياتها وغايتها العظمى. هنا المخرج من المأزق، من ورطة السلاطين والمماليك، من الاستسلام لمقررات التحكم الشخصي، من العجز والانهيار.
يجب أن ينتهي دور تحكم الأفراد الغامضي المبادىء، الغامضي المقاصد، في الشعب ومصيره. ولا ينتهي هذا الدور إلا بالإقبال على مبادىء الحياة القومية الاجتماعية ـ على النظام القومي الاجتماعي الذي يقضي على قضايا الإقطاع والحزبية الدينية والمآرب الخصوصية، ويزيل كل إبهام وغموض في المقاصد القومية، ويطرد كل فوضى من الشعب ومن مؤسسات الدولة!
لا ينجينا إلا مقاصد قومية واضحة ـ عقيدة واضحة يجد فيها الشعب حقيقته وأهداف حياته العظمى ويتخذها إيماناً يعمل به ويسير في هداه إلى الخير والعز. إنّ فوضى المقاصد الشخصية والغايات الخصوصية تمنع تولّد الثقة بحسن المصير. إنها تبقي الشعب بلا قضية واحدة صحيحة، وبلا نظام يجمع أمره، وبلا إيمان يدفعه إلى الأمام.
إلى اتّباع العقيدة القومية الاجتماعية يجب أن يتجه الشعب لأنها تعطيه قضيته الحقيقية، وبنظامها يجب أن يعمل لأنه سلاحه ضد الفوضى. الشعب يجب أن ينتزع مصيره من أيدي الأشخاص، وأن يرفع قضيته فوق القضايا الشخصية والجزئية. يجب على الشعب أن يعرف قضيته القومية الاجتماعية، وأن يحارب في سبيل تحقيقها، فلن يحقق قضية الأمة غير الأمة.
مجموع أشخاص يساوي قضايا شخصية، أما الأمة فهي واحدة ولها قضية واحدة هي القضية القومية الاجتماعية، ولها حركة واحدة هي الحركة القومية الاجتماعية.