المصري، القاهرة، عدد 13/6/1949
"نقلاً عن البناء، بيروت، العدد 160، 27/4/1974"
تحت عنوان آخر تحقيق صحفي مع الثائر اللبناني أنطون سعاده نشرت جريدة المصر القاهرية بعددها الصادر يوم الاثنين 13 يونيو/ حزيران 1949 ما يلي:
(حينما ذهبت لأقابل السيد أنطون سعاده قابلني نفر من شباب الحزب، فلاحظت أنهم متحمسون لزعيمهم حماسة شديدة تصل بهم إلى حد التعصب... وسمعت على ألسنتهم أول نغمة جديدة بدأت تتخذ لها مكاناً في السياسة اللبنانية. إنهم يؤكدون أنّ المسألة مسألة مبادىء، وأنّ أشخاص الزعماء فانية، وأنّ من العبث أن تضيّع الدول أعمارها ثقة منها برجل. وهم يذكرون أنّ الزمن يمضي، والدنيا تتطور، فإذا لم نساير الركب تخلّفنا عن جميع المدنيات... وقابلت زعيمهم أنطون سعاده.
قدمني له أحد شبابه، فلاحظت أنّ للرجل قوة سحرية على هذا الشاب، وأنّ كلماته المتقطعة أقرب إلى أن تكون إلهاماً. إنه رجل في أواسط العمر... في الخامسة والأربعين بالتحديد، ولكنه أقرب إلى الشباب، في أول وهلة أدنى إلى الثلاثين، متوسط القامة، أسمر الوجه، كثيف الشعر، لطيف في تؤدة، مهذب في معاملاته... يتكلم في صوت منخفض متقطع... يبدو أنه يفكر تفكيراً عميقاً قبل أن يتكلم. يرد على السؤال ويصمت... لا ينطلق كما هي عادة الزعماء الشعبيين ولا يفرغ من الحديث... كلامه ميزان، يعطيك بحساب، تتخلل أحاديثه كلمات فرنسية ولكنه سريعاً ما يعود يعتذر عنها، ويحاول تعريبها، وكثيراً ما يفشل، أعتقد أنه مؤمن بفكرته وبكلماته).
قضية فلسطين
بين الرجعية والوحدة كانت محادثات رودس دائرة، وكان الشد والجذب يسيطران على أبنائها، مع كل دولة عربية. قلت له: ماذا ترى في محادثات رودس... هل تعتقد أنها ستنتهي إلى نتيجة بشأن قضية فلسطين؟
قال: إنّ محادثات رودس يا سيدي، حلقة من سلسلة المحاولات الرجعية لإنقاذ الجزء الجنوبي من سورية ـ أقصد فلسطين... وإذا كانت الخطوات الأخرى قد أثمرت، فلتثمر هذه الخطوة.
قلت: وما هي المحاولات الجديدة التي يمكن أن تثمر؟
قال: التغيير الشامل للخطط والأهداف معاً... يجب أن نفهم أولاً ماذا نعمل، وإلى أي غاية نهدف، فإذا فهمنا هذا اتخذنا له وسائله... إنّ خطوات الماضي لم تكن تهدف إلى شيء، ولم تكن مبنية على أسس علمية، ولهذا فشلت نهائياً.
قلت: وإلى أي اتجاه يجب أن نتجه؟
قال: يجب أن نعيد سورية القديمة، وما اغتصب منها من أجزاء، ومنها فلسطين... نعيدها كدولة عربية كبرى تستطيع أن تواجه الأحداث، أما أن يستمر بضعة آلاف في دولة، هي شرق الأردن، وقرابة مليونيين في دولة هي فلسطين، وبضعة آلاف في دولة هي لبنان، وبضعة ملايين في دولة هي سورية، وبضعة ملايين في دولة هي العراق... إذا استمررنا هكذا، فثق أننا لن نرفع رؤوسنا. لقد فتح هذا التقسيم الثغرات أمام النفوذ الأجنبي، فأهلكنا أمام النفوذ الأجنبي، أمة سورية موحدة، فلن يستطيع نفوذ أجنبي أن يتسرب إلينا، ولن يستطيع اليهود أن يفكروا في فلسطين.
زعيم الانقلاب اللبناني
قلت: إذن أنت ترى أنّ إنقاذ الموقف رهن بإعادة سورية القديمة.
قال: بجميع تفاصيلها، تعود الإسكندرونة وكيليكية وقبرص وسيناء والعقبة... نبعث سورية الأصلية، القوية الجانب، الرهيبة النفوذ... بهذا نصبح أمة.
نظام الحكم
قلت: ونظام الحكم الجديد، هل لك رأي خاص به؟
قال: هذا هو الذي يفسد قضايانا.. نفكر أولاً في الأشخاص... إنّ هذا الأمر متروك للأمة السورية المتحدة تحدده كما يتراءى لها.. تريد من النظام ما تشاء.
قلت: لعلك تعرف ما يريده الملك عبد الله مثلاً؟
قال: أعرف كل ذلك، وأكثر من ذلك، والذي أرجوه هو أن نبعد الأطماع الشخصية عن تفكيرنا العام... ليكن النظام ملكياً، وليتولّ الملك عبد الله عرش سورية المتحدة... هب هذا، أهو أفْيد للأمة السورية العربية، أم الاستمرار على الانقسام؟ إنّ في يد الأمة دائماً سلطاناً تستطيع أن تستخدمه متى شاءت، وفي أي وجه من الوجوه... أليست الأمة هي التي تحكم؟
إذا أرادت أن تغيّر نظام الحكم، فمن الذي يستطيع أن يقف في وجهها؟... المهم هو أن نبدأ وألا نترك آمالنا رهينة بأطماع شخص، ورهينة بمساومات زعماء... لنبدأ أولاً ثم نفكر في التفصيلات.
قلت: وهل ترى أنّ هذا التوحيد ينقذ فلسطين؟
قال: أؤكد لك أنّ هذا التوحيد لو تمَّ، لما بقي في فلسطين صهيوني يستطيع أن يعيش محاصراً من ملايين العرب، أضف إلى هذا أنّ عناصر القوة الحربية والاقتصادية ستتوافر للدولة الجديدة، التي ستضم إليها حتى فلسطين، فمن يستطيع أن يعارض رغبتها في جزء من أراضيها؟
وسائل الوحدة
قلت: وما الوسائل التي اتخذتموها للوصول إلى تحقيق أهدافكم؟
قال: تهيئة الرأي العام في جميع البلاد العربية، إنّ لنا الآن فروعاً كبيرة في دمشق وبغداد وعمّان وفلسطين، ولهذه الفروع شعب في سائر المدن العربية، والعمل دائب ومستمر لتهيئة الرأي العام العربي في جميع البلدان للنظام الجديد. وعاد فاستدرك وقال: لإعادة المجد القديم.
ومضى يقول: وإني واثق من أننا سننتصر بفضل الوعي الجديد والنكبات التي وصلنا إليها نتيجة عقم الرجعية القديم.
قلت: هل أفهم من هذا أنّ خطواتكم شعبية برلمانية؟
قال: لا افهم سؤالك. قلت: أقصد أنكم تريدون أن تصلوا إلى هذا عن طريق تكوين أغلبيات برلمانية في جميع هذه الدول أم عن طريق آخر؟
قال: أنت تعلم أنّ النظام برلماني في بلادنا وتعلم أنه أقرب إلى التعيين، ومحاولة الاعتماد على هذا النظام كوسيلة لتحقيق أهدافنا حلم لا أظنه سيتحقق. إننا نعتمد على الشعوب، الشعوب المظلومة والتي بدأت تحس هذا الظلم.
قلت: وإذا أقنعتم هذه الشعوب واستمرت الحكومات معارضة هذه الاتجاهات؟
قال: هذا أمر متروك لحينه وللشعوب نفسها.. لها أن تختار الطريق لذي تسلكه لتصل إلى غاياتها... وابتسم وهو يقول: دائماً تحاولون أن تسبقوا الزمن..