المجلد الثاني عشر

 

أنطون سعاده

1904-1949

 

ولد أنطون سعاده في الأول من آذار/ مارس عام 1904 في بلدة الشوير في جبل لبنان. كان والده الدكتور خليل سعاده طبيباً بارعاً مارس مهنته في لبنان وفلسطين ومصر. وقد كان كذلك لغوياً خبيراً ألـّف أول قاموس إنكليزي-عربي , ومترجماً بارعاً نقل إلى العربية بعض الآثار العلمية والأدبية الغربية, وروائياً أتقن الكتابة بالعربية كما بالإنكليزية. وقد ساهم الدكتور سعاده مع غيره من أعيان جيل النهضة حيثما وُجدوا في العالم العربي وفي المهاجر في إعلاء شأن العلم والأدب والفلسفة الاجتماعية.

كانت والدة أنطون سعاده السيدة نايفة نصير أيضاً من مواليد الشوير لكنها نشأت في الولايات المتحدة حيث هاجرت عائلتها في أواخر القرن التاسع عشر , وقد سنحت لها الفرصة حيازة الشهادة الثانوية في شيكاغو ممّا مّيزها عن بنات جيلها في الوطن. في زيارة لها إلى لبنان تعرّفت إلى الدكتور سعاده وكان زفافهما. وأمضت العائلة معظم أيامها في الشوير بينما كان الدكتور سعاده يعمل في فلسطين ومصر ويمضي فصل الصيف مع عائلته.

و في الشوير نشأ أنون سعاده في رعاية والدته حتى كان أصيل العقد الأول من القرن العشرين . وانتقلت العائلة إلى مصر حيث دخل أنطون سعاده إلى إحدى مدارس الجالية السورية في القاهرة لسنوات قليلة اضطر بعدها للعودة إلى الوطن في 1913 إثر وفاة والدته. في ّلك العام سافر الدكتور سعاده إلى الأرجنتين بعد أن كان أولاده الكبار إرنست وأرثور وشارلي قد التحقوا بخالهم في الولايات المتعدة لمتابعة علومهم. أما أنطون وأخوته الثلاثة الصغار سليم وإدوارد وغريس (عايده) فعادوا إلى الشوير تحت رعاية جدتهم لأبيهم وأحد أعمامهم , على أن تجتمع العائلة فيما بعد.

لكن الحرب العالمية الأولى دهمت العائلة وهي مشتتة بين القارات وانقطعت المواصلات المباشرة بين أنطون وأبيه. وسرعان ما تتابعت الويلات على الفتى أنطون بوفاة جدته وعمه ثم بمرض أخته الصغرى. وكان على ابن العاشرة أن يتدبر وحيداً أمره وأمر أخوته الذين في عهدته. ومع اشتداد المجاعة في جبل لبنان الذي كان خاضعاً للاحتلال العثماني تسنى له ولأخوته الالتحاق بمأوى برمانا للأطفال والنساء حيث أمضى أمرّ سني الحرب.

مع انتهاء الحرب كان الفتى أنطون قد اكتسب صلابة من تجربة السنين العجاف. ومع عودة الاتصال بأبيه, سافر أنطون بحراً بمرافقة أخوته الثلاثة إلى الولايات المتحدة حيث التقى بأخوته الكبار وعمل لبضعة أشهر في محطة لسكك الحديد. في هذه الأثناء كان الدكتور سعاده قد غادر الأرجنتين في طريقه للقاء أولاده. وعند توقفه في البرازيل وجد فرصة لممارسة التوعية الصحفية والأدبية في الجالية السورية, فقرر البقاء فيها, وكتب إلى أولاده لملاقاته. وهكذا انتقل أنطون وأخوته إلى البرازيل, أما أخوته الأكبر سناً فبقوا في الولايات المتحدة لمتابعة علومهم ولم يتسنّ للعائلة أن تجتمع بعد ذلك.

في البرازيل اختار أنطون أن لا يلتحق بمدارس الجالية مع أخوته بل أن يدرس على أبيه وأن يشاركه في لإدارة وإصدار جريدة الجريدة. وكان أنطون في البداية يقتصر على بعض الأعمال الإدارية والمالية والطباعة. ومع اتساع خبرته وثقافته في ظل عناية والده بدأ يساهم بالكتابة في الجريدة. خلال عامي 1922 و1923 نشر عدّة مقالات في شأن استقلال سورية وبعض المواضيع الاجتماعية. لكن متطلبات الجريدة اليومية كانت أكبر من قدرة الدكتور سعاده، فرأى أن يوقف الجريدة ويعيد إصدار مجلة المجلة التي كان قد أصدرها خلال سني الحرب في الأرجنتين. وكان أنطون سعاده يقوم بإدارة المجلة ويساهم في كتابة مواضيعها ولا سيما في مسائل السياسة الخارجية التي أولاها اهتماماً منذ ذلك الوقت. وفي المجلة بدأت اتجاهات أنطون سعاده النهضوية التحررية بالظهور، وفيها أيضاً برزت همومه القومية ونزعته التجديدية. وإذا كان في بداية نتاجه الفكري قد نسج على منوال أبيه فإنّه تدريجياً بدأ بتنمية أفكاره الخاصة وصقل معرفته.

وفي مقالاته تلك بدأت تظهر البوادر الأولى لاتجاه أنطون سعاده نحو تأسيس "حركة سورية منظمة تنظر في شؤون سورية الوطنية ومصير الأمة السورية". ظهر هذا الاتجاه في مقال له نشره في مجلة "المجلة" تحت عنوان "الصهيونية وامتدادها". دعا فيه بوضوح إلى تأسيس حركة نظامية معاكسة للحركة الصهيونية، وإلّا فإجراءات الحركة الصهيونية سيكون نصيبها النجاح.

وخلال عمله في الجريدة أولاً ثم في المجلة انكبّ أنطون على الدراسة والقراءة، فدرس البرتغالية والألمانية والروسية وتوسع في علوم التاريخ والاجتماع والسياسة. ولم يقتصر نشاطه التحريري على الكتابة الصحفية بل امتد إلى محاولة التنظيم السياسي، فانخرط عام 1925 في مجمع ماسوني سوري يرأسه والده، وحاول الاثنان توجيه أعمال المحفل باتجاه الالتزام السياسي بمشاكل وهموم الوطن لكنهما لم يوفقا فآثرا الاستقالة. وقد قدّم أنطجون سعاده كتاب الاستقالة من الماسونية في 24 أيار/مايو 1926 ونشره في جريدة القلم الحديدي(*). وحاول أنطون خلال عام 1926 تأليف حزب عرف فيما بعد باسم "ارابطة الوطنية السورية"، لكنه لم يوفق كثيراً في جمع العناصر الجدية في الحالية إذ غلب على نشاطها طابع الارتجال والأعمال العلنية البسيطة، فتركها وأسس عام 1927 حزب "الوطنيين الأحرار" في البرازيل أيضاً. لكن مصير هذا الحزب لم يكن بأفضل من مصير "الرابطة". وكانت المجلة قد توقفت مع بداية 1926، فانصرف أنطون إلى التعليم في بعض اللجان التربوية التي أقامتها الحكومة البرازيلية للإشراف على البرامج التعليمية. وخلال السنين الأخيرة من إقامته في البرازيل تابع إلى جانب التعليم كتابة بعض المقالات المتفرقة كما كتب رواية في ذكرى أخيهع سليم الذي توفي شاباً، وهي الراوية التي نشرها فيما بعد في بيروت تحت عنوان فاجعة حب.

في 1930 أنهى أنطون سعاده جميع ارتباطاته في البراظيل وعاد إلى الوطن، فوصل إلى بيروت في تموز/يوليو 1930. بعد إمضاء صيف ذلك العام في الشوير، انتقل أنطون إلى دمشق لدراسة إمكانية العمل السياسي فيها كونها العاصمة التاريخية التقليدية لسورية ومرز المعارضة السياسية في وجه الانتداب الفرنسي. ابتدأ عمل أنطون في دمشق بصورة متواضعة عبر إقامة اتصالات سياسية بسيطة وممارسة العمل الصحافي، فكتب عدة مقالات في السياسة الخارجية حمّلها أفكاره القومية وكتب في الفنون وغير ذلك من المواضيع على صفحات اليوم والقبس. إلى جانب هذه الكتابات مارس سعاده التعليم لاكتساب رزقه فيما كان يتابع اتصالاته السياسية، لكنه سرعان ما اصطدم بعقلية السياسيين التقليديين والوجهاء. ومن بين وجوه هذه الصدامات عدم السماح له بإلقاء محاضرة في "المجمع العلمي" في دمشق بعد اطلاع رئيس المجمع على محتواها. أمام تشابك هذه العوائق السياسية، رأى أنطون أن ينتقل إلى بيروت ويدرس إمكانية العمل السياسي الحزبي فيها.

في بيروت عام 1931 بدأ أنطون سعاده محاولاته لتشكيل حزب جديد مستفيداً من تجاربه في البرازيل ودمشق. وركز أنون عمله في بيروت على مستويين: المستوى الأول هو في انتقاء وتنمية العناصر الصالحة للعمل الحزبي الجديد من بين الشباب المثقفز كان معظم هؤلاء الأفراد من طلاب الجامعة الأميركية في بيروت حيث كان أنطون سعاده يعطي دروساً خصوصاً في اللغة الألمانية خارج ملاك الجامعة. فكانت هذه فرصة له للالتقاء بطلبه الجامعة وأساتذتها. وكان سعاده يقيم في رأس بيروت على مقربة من الجامعة، فتوطدت عرى الصداقة بينه وبين الطلاب وعائلاتهم.

أما المستوى الثاني لعمله فكان في إيجاد المنابر الصالحة لبثّ الأسس العامة لدعوته. لذا كان يحاضر في تجمعات عديدة وجمعيات طلابية مثل "العروة الوثقى" و"جمعية الاجتهاد الروحي للشبيبة" و"النادي الفلسطيني". وكانت نتصوص هذه المحاضرات تحمل أسس الدعوة بخطوطها العامة لتهيئة الجو الثقافي ــــ السياسي العام من دون الإعلان عن الجسم السياسي الحزبي الذي كان قيد التكوين.

وفي خريف 1932، أسس سعاده "الحزب السوري القومي" بصورة سرية من أربعة أعضاء فقط. وكانت المواد الثقافية التي قامت عليها الدعوة في أول عهدها قليلة تقتصر على نصوص المبادئ (دون الشرح الذي أتى لاقاً) ونصوص محاضرات سعاده القليلة. ونما الحزب تدريجياً في ظل عاملي الاعتناق التتابعي والإدخال السري البطيء. وفي عام 1933 أعاد أنطون سعاده إصدار المجلة في بيروت لتساهم في نشر وتوضيح أسس النهضة التي يسعى إليها الحزب. وعلى صفحات المجلة ظهرت للمرة الأولى في الوطن دراسات تحليلية لمعنى الأمة أصبحت فيما بعد نواة كتاب أنطون سعاده العلمي نشوء الأمم. وعلى صفحات المجلة ظهرت أيضاً نصوص محاضراته في الأندية الثقافية الطلابية ومقالات نقدية وتوجيهية في الأدب والثقافة القومية.

في هذه المرحلة التأسيسية جرت احتبارات سياسية وإدارية عديدة ساهمت في دفع الجسم الحزبي في الاتجاه السليم. وكان أنطون سعاده حريصاً أشد الحرص على تفادي الأخطاء الماضية وعلى حماية الحزب من مساوئ الفردية والتسرع والارتجال. وترافق النمو العددي والانتشار الجغرافي للحزب مع نمو هيكليته الإدارية ووضوح تفتاصيل تنظيمية وصياغة نظامه ودستوره. وبعد ثلاث سنوات من تأسيسه، بات الحزب يضم نخبة الشباب المثقف في البلاد. وكانت موارد سعاده المالية ضحلة إذ كان يكسب القليل من مهنة التعليم، لكنه رغم ذلك كان لا يكفّ عن العمل والنضال، قاطعاً مسافات طويلة لتنمية نشاط الحزب في مناطق الجبل والبقاع والداخل الشامي وطول الساحل السوري حتى شماله.

في الأول من حزيران/يونيو سنة 1935، أقام الحزب اجتماعه العام الاول في بيروت في منزل أحد مسؤولية، نعمة ثابت. والجدير بالملاحظة أنّ سرية الحزب لم تتعرض لأي خطر من جراء هذا الاجتماع العام للمسؤولين نتيجة النظامية الدقيقة والتحضير المتين. في هذا الاجتماع تعرّف الأعضاء إلى سعاده كزعيم للحزب في موقع رسمي بعد أن كانت ظروف العمل الحزبي السري وطبيعة الاعتناق التتابعي لا تسمح بظهور هذه العلاقة المميزة إلى العلن الحزبي. في هذا الاجتماع ألقى سعاده خطاباً مكتوباً هو من أهم الوثائق الفكرية ــــ الثقافية التي تشرح العقيدة القومية السورية وطبيعة النهضة التي يهدف إليها الحزب.

بعد نجاح هذا الاجتماع وصلت إلى مسامع سعاده معلومات تفيد أنّ سلطات الانتداب تشك في وجود الحزب. ولعل سعاده شعر بعد نجاح المؤتمر الأول أنّ الحزب قد اجتاز مرحلة الاختبارات السرية وأنّ اضطراد نموه يحتاج إلى الظهور العلني، فبدأ يفكر بجدية في أسلوب الإعلان عن وجود الحزب لكن سلطات الاحتلال كانت الأسبق إلى العمل وقامت قواتها باعتقال سعاده وعدد من معاونيه يوم السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1935، بتهمة "تشكيل جمعية سرية هدفها الإخلال بالأمن العام والإضرار بأراضي الدولة وتغيير شكل الحكم".

كان الاعتقال الاول امتحاناً لأهلية الحزب الجديد للبقاء والاستمرار وامتحاناً لأهلية سعاده للقيادة والمواجهة العلنية الصريحة مع القوى المناهضة للحزب. وظهرت خلال مراحل السجن الأولى ثم المحاكمة مميزات عدة من شخصية سعاده، إذ أعلن لمعتقليه عن مسؤوليته الكاملة عن تأسيس الحزب، شفوياً وخطياً، وآزر معاونيه على تحمّل أعباء الأسر، وحافظ خلال مراحل التحقيق والمحاكمة على أولوية استمرار الحزب، فكان امختحان الاعتقال دليلاً جديداً على ميزة هذا الحزب. وصدر حكم المحكمة المختلطة (فرنسية ــــ لبنانية) بسجنه ستة أشهر أكمل خلالها مؤلفه العلمي نشوء الأمم.

عند خروجه من السجن يوم 12 أيار/مايو 1936، وجد سعاده نفسه أمام عدّة متناقضات على الساحة السياسية والحزبية. لقد أثار انكشاف الحزب الكثير من الاهتمام والإقبال على الانتماء من بعض الأوساط، لكنه في الوقت ذاته دفع بالقوى المناوئة إلى الاستعداد لمحاربته. علنية الحزب جعلته هدفاً واضحاً للقوى المعادية وللمؤسسات الدينية والسياسيين التقليديين. ثم إنّ العمل العلني أوجد ضرورات لتغيير أسلوب العمل وجعل سعاده يتحمل أعباء دور القيادة السياسية والزعامة الحزبية بشكل أكثر كثافة من ذي قبل. فتحوّل "الأستاذ" والمفكر العائد من المهجر والقائد السري إلى زعيم سياسي من نوع جديد.

كان همّ سعاده في هذه الفترة إعادة تحصين الحزب وإصلاح ما تداعى من بنيانه خلال الاعتقال الأول، لكن الأحداث السياسية تسارعت وأدت بعض التعقيدات إلى سجنه للمرة الثانية في 26 حزيران/يونيو 1936، أي بعد أقل من ستة أسابيع من انتهار فترة سجنه الأول. واستمر سجنه الثاني حتى 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1936.

خلال سجنه الثاني عمل سعاده كعادته على الاستفادة من عزلة الأسر للتأليف وأنجز خلالها كتابة شرح مبادئ الحزب وغايته.

عند خروجه من الاعتقال وجد سعاده أنّ نشاط القوى المعادية قد أخذ أشكالاً تنظيمية جديدة إذ أخذت تظهر على الساحة السياسية عدة أحزاب طائفية مذهبية. وبعد عمل دؤوب على حلّ المشاكل الحزبية التي طرأت أثناء سجنه، وضع سعاده الحزب على مسار المشاركة الفعلية الكثيفة في الحياة السياسية والثقافية في البلاد. وتمثلت هذه المشاركة عبر الاتصالات السياسية الواسعة وإصداء البيانات والمذكرات في شؤون الانتداب، ومسألة الإسكندرونة، والعلاقات بين الكيانات السياسية السورية، والاشتراك في المؤتمرات وإقامة الاجتماعات الحزبية العلنية في المناطق. وأثار هذا النشاط الباهر مخاوف السلطات المناوئة فاستفادت من حادث بسيط خلال احتفال حزبي في بلدة بكفيا لشنّ حملة على الحزب واعتقال زعيمه.. فدخل سعاده السجن للمرة الثالثة في 10 آذار/مارس 1937 ولم يخرج منه حتى 15 أيار/مايو 1937.

تنبه سعاده إلى مخاطر السجن المتكرر على سلامة الحزب وفرص نجاح العمل السياسي، فكان خروجه من السجن الثالث نتيجة "هدنة" بين الحزب والحكومة اللبنانية. وقد استفاد سعاده من ظروف هذه الهدنة لإصدار جريدة حزبية يومية هي جريدة النهضة التي ظهر عددها الأول يوم 14 تشرين الأول/أكتوبر 1937.

على صفحات النهضة ظهرت مواهب النخبة الثقافية الشابة التي كان سعاده قد اهتم باستقطابها إلى الحزب. وكان سعاده سكتب بشكل يومي، ويتناول مسائل السياسة الخارجية، ومسائل الأمور الفكرية العامة، ونقد القوى السياسية المناوئة، لا سيما مقالاته في الردّ على البطريرك الماروني، والأحزاب اللبنانية، ومقالاته حول الكتلة الوطنية الشامية.

وفّرت النهضة لسعاده وحزبه منبراً واسعاً في المسائل السياسية والفكرية ووجوداً مميزاً على الساحة القومية. لكن هذا النجاح كان دائماً عرضة لحملات قوى الحكومة وقوى الانتداب. في تلك الأثنالء كان سعاده يعمل على تأمين دعم مادي ثابت وقوي يحلّ الأزمة المادية المستمرة في الحزب، ودعم سياسي إنترناسيوني بفعل التفاف الجاليات السورية حول قضية الحزب. وفي خريف 1937 بدأ سعاده ومعاونيه بالتحضير لجولة على مراكز الاغتراب السوري لتوفير سبل الانتقال بالحزب إلى مرحلة القدرة على تحقيق أهدافه، وفي هذه الأثناء أصدر سعاده في بيروت أوائل 1938 الطبعة الاولى من كتاب نشوء الأمم.

في الأشهر القليلة قبل مغادرته بيروت وضع سعاده مع معاونيه العديد من الخطط الهادفة إلى الاستفادة من الفرص السياسية، حين توافرها، للقيام بعمل حاسم في سبيل التحرر من الانتداب. ومن بين هذه الخطط كان التمرد المسلح أحوجها إلى الدعم المادي والسياسي الذي أمل القوميون بالحصول عليه من الجاليات السورية في المهجر.

مع حلول ربيع 1938 بأت العلاقات بين الحزب وسلطات الانتداب تتأزم وشعر سعاده والمسؤولون في الحزب بقرب عودة حالة الاضطهاد، فسارع إلى مغادرة بيروت ومنطقة الانتداب الفرنسي قبل أن تكتمل مراحل التحضير لرحلتهز سافر سعاده إلى الأدرن بجواز سفر يحمل اسم "أنطون خليل مجاعص" مما مكنه من اجتياز مراكز الحدود دون أن تتنبه السلطات إلى سفره إلا بعد حين. ما إن غادر سعاده بيروت حتى قامت سلطات الانتداب بمداهمة مراكز الحزب بقصد اعتقال سعاده وعطّلت صحيفة النهضة ومنعت العمل الحزبي بشتى الوسائل. في ذلك الوقت، انتقل سعاده من الأردن إلى فلسطين، حيث تفقد فروع الحزب في مدن الساحل الفلسطيني، ثم انتقل إلى قبرص في انتظار اكتمال التحضيرات لرحلته إلى المهاجر السورية.

أمضى سعاده بضعة أسابيع في قبرص غادر بعدها إلى رومة ومنها إلى برلين، بدعوة من فرع الحزب هناك، الذي نظّم ةله محاضرة ألقاها بالألمانية في جامعة برلين. وفي هذه المحاضرة ظهرت للعلن للمرة الأولى أفكار سعاده حول الحدود الشرقية للوطن السوري وموقع جنوب العراق في هذا الوطن، إذ كانت النصوص الأولى للمبادئ تشير إلى ضفاف دجلة فقط. وقد كان هذا الموضوع محور مباحثات علمية داخل الحزب قبل رحلة سعاده لكن محاضرته في برلين هي أول مظهر واضح لهذه الأفكار.

كان وصول سعاده إلى البرازيل في كانون الأول/ديسمبر 1938 حيث استقر في سان باولو مدينة صباه.

وخلال الأسابيع الأولى من زيارته التقى سعاده العديد من أعيان الجالية وأبنائها وأصحاب الصحف والمثقفين والأدباء. لكن هذه الحفاوة تبددت حين تبيّن لأعيان الجيالية التقليديين أنّ اتجاهاً جديداً في العمل السياسي وقيادة جديدة في السياسة والأدب والثقافة آخذة في توطين أسسها في المهجر مع دخول الحزب السوري القومي. وتبيّن سريعاً لأعيان الجالية التقليديين أنّ زيارة سعاده ليست زيارة عادية عارضة بل زيارة هادفة مصممة على توجيه جهود الجالية في خطة سياسية دقيقة.

تزامنت هذه التحولات مع تداخل جهود محازبي فرنسة وعملائها وسعيهم مع السطات البرازيلية لتعطيل عمل سعاده في البرازيل. في هذه الأثناء كان سعاده يعدّ لإصدار صحيفة في البرازيل تحمل صوت النهضة تحت اسم سورية الجديدة. وصدر العدد الأول من هذه الجريدة الأسبوعية في 11 آذار/مارس 1939. وفي 23 آذار/مارس 1939 أقدمت قوات الأمن البرازيلي على اعتقال سعاده واثنين من معاونيه بتهمة الدعوة للسياسة الفاشستية والمسّ بسلامة العلاقات الإنترناسيونية للدولة البرازيلية. وسارعت الجهات المثقفة إلى الدفاع عن سعالده فأرسل رئيس جمعية الصحافة في سان باولو رسالة استفهام إلى دائرة الأمن العام. وخلال فترة الاعتقال تقدم قنصل فرنسة بطلب تسليم سعاده لتحاكمه سلطة الانتداب، لكن السلطات البرازيلية رفضت الطلب. وبعد تحقيق قضائي دقيق، تبيّن للمحكمة برائة سعاده من التّهم الموجهة إليه، وأفرجت عنه وعن معاونيه في 30 نيسان/أبريل 1939.

إثر خروجه من السجن اهتم سعاده بتنظيم العمل الحزبي والصحفي في سان باولو، ثم غادرها بعد أسبوعين إلى الأرجنتين. وهناك بدأ بالاتصال بالصحافة الأرجنتينية والصحافة السورية وإلقاء المحاضرات والأحاديث في اجتماعات الجالية. وتابع في هذه الأثناء اهتمامه بجريدة سورية الجديدة وأعمال الحزب في الوطن والمهجر.

طال بقاء سعاده في الأرجنتين. ومع حلول أيار/مايو 1940 حاول تجديد جواز سفره عبر السفارة الفرنسية هناك، لكن السفارة رفضت ذلك.

وفي حزيران/يونيو 1940 أصدرت سلطات الانتداب في لبنان حكماً غيابياً قضى بسجنه عشرين سنة وإقصائه عشرين سنة أخرى، فأصبح سعاده نتيجة ذلك شبه أسير ضمن حدود الجمهورية الأرجنتينية لا يستطيع مغادرتها ويكاد إذن البقاء فيها أن ينفد، فسارع إلى التقدم بطلب إقامة رسمية، وقد استجيب طلبه في آب/أغسطس 1941. بسبب هذه التعقيدات الإدارية القانونية اضطر سعاده أن يلزم الأرجنتين حتى عام 1947.

وفي عام 1941 حاول أن يجد مخرجاً للعودة إلى الوطن عبر مناطق الانتداب البريطاني، وجرت مباحثات في هذا الصدد مع الحكومة البريطانية لكن هذه المحاولات لم تصل إلى نتيجتها المنشودة.

مع انطقاع الاتصال بمركز الحزب في الوطن واضطرار سعاده إلى البقاء القسري في الأرجنتينن تحول رحلته من جولة منظمة في المهاجر السورية لا تتعدى السنتين إلى اغتراب قسري يشبه النفي القضائي الذي كانت سلطات الانتداب قد حكمت به عليه عام 1940!

ومع اضطراره للبقاء في الأرجنتين وضرورات العمل الحزبي فيها، رأى سعاده أن يصدر جريدة فيها أسماها الزوبعة، ذلك أنّ سورية الجديدة في البرازيل كانت عرضة لمشاكل إدارية وسياسية مستعصية بسبب شراكة في ملكيتها حالت دون التزامها دائماً سياسة الحزب، ولا سيما اعتماد موقف الاإنحياز في الصراع الدائر بين دول المحور والحلفاء. مع إصدار الزوبعة وجد سعاده منبراً جديداً لآراء الحزب، وعلى صفحات هذه الجريدة الأسبوعية ظهرت أهم كتاباته الفكرية والسياسية. صدر العدد الأول من الزوبعة في أول آب/أغسطس 1940، وسرعان ما تحولت النشرة إلى منبر للأبحاث الفكرية العالية، ففي تشرين الأول/أكتوبر 1940 نشر المقال الأول من سلسلة "جنون الخلود" التي استمرت حتى أيار/مايو 1942 وفيها تناول مسائل الأدب والدين والفلسفة والعروبة. وأتبع ذلك في صيف 1942 بسلسلة مقالات حول الأدب جمعها في كانون الأول/ديسمبر عام 1942 في كتاب الصراع الفكري في الأدب السوري.

خلال هذه الفترة تعرّف سعاده بالآنسة جولييت المير، وهي من عائلة طرابلسية كانت قد هاجرت إلى الأرجنتين يوم كان عمرها لا يتجاوز العشر سنوات. وكانت جولييت وأخوها قد انتسبا إلى الحزب في الأرجنتين وأظهرا تفانياً ونشاطاً كبيرين في صفوفه مما قرّب العائلة بأسرها من سعاده. ثم نمت عواطف الحب بين سعاده وجولييت واتفقا على الزواج، وتم ذلك في نيسان/أبريل 1941 ورزقا ثلاث بنات، اثنتان منهن ولدن في المهجر (صفية وأليسار) والثالثة بعد العودة إلى الوطن (راغدة).

مع وجود صحيفتين للحزب في أميركا الجنوبية، وتأسيس فروع جديدة له أخذ الحزب بيتحول من حركة جديدة في الوطن يمكن التواصل معها عن بعد، إلى حركة حقيقية في المهجر تواجه القيادات السياسية والفكرية التقليدية في الجاليات السورية. وهكذا ظهر إلى العيان صراع بين سعاده وأقطاب هذه المواقع التقليدية من مثل الشاعر القروي رشيد سليم الخوري والشاعر إلياس فرحات وزكي قنصل وإيليا أبو ماضي وغيرهم. وأفردت الزوبعة صفحات عديدة بقلم سعاده للرد على هجمات هؤلاء على سعاده وعلى الحزب.

إلى جانب هذا النشاط الإذاعي ــــ السياسي ــــ الفكري، كان على سعاده أن يهتم بالشؤون التنظيمية للعمل الحزبي في المغترب. وخلافاً للحالة في الوطن، لم يكن إلى جانب سعاده مجموع من الشباب المثقف الذي كان قد درس عنه العقيدة والنظام. في المغترب كان على سعاده أن يقوم بمعظم الأمور بمفرده مما أرهقه حتى كاد ينفد صبره. ورغم أنّه وجد بين المغتربين السوريين بعض الأعضاء من ذوي الثقافة العاليه والإخلاص الفريد، إلّا أنّ الكثيرين كانوا إما ضعيفي الثقافة أو ضيغي الإيمان أو من متربصي الفرص.

ولم تنحصر معاناة سعاده من هؤلاء على الصعيد الحزبي فقط بل طاولت الأمور الخاصة. فمع انقطاع اتصاله بالوطن واتساع مسؤولياته العائلية وضعف وتقطع الإعانات الحزبية لمكتبه، بدأت الضائقة المالية تهدد مقام الزعامة الحزبية ومصير سعاده وعائلته. فاستدان مبلغاً من المال ودخل في شراكة صناعية ــــ تجارية مع رفيقين في الحزب، لكنها لم تنجح.

بعد هذه التجربة، رأى سعاده أنّ عليه أن يقوم بمفرده في العمل، فانتقل إلى منطقة توكومان في الأرجنتين حيث أنشأ محلاً تجارياً استمر في إدارته حتى تاريخ مغادرته الأرجنتين عام 1947.

تضافرت الصعاب على عرقلة العمل الحزبي وأرهقت سعاده وأنقصت نتاجه الفكري وتأخرت الزوبعة عن الصدور. لكنه لم يتوقف عن حض رفقائه على العمل والنضال. ومن بين أقرب الرفقاء إلى سعاده كان فخري معلوف الذي كانت خسارته عام 1945 من أمرّ المحن التي واجهها سعاده في اغترابه القسري.

كان فخري معلوف من أكثر القياديين الحزبيين قدرة على فهم فلسفة سعاده ومعانيها العميقة. وشكلت كتاباته أفضل ما ظهر في تلك الفترة حول النواحي الفلسفية للعقيدة القومية. انتقل فخري معلوف إلى الولايات المتحدة في بداية الحرب العالمية الثانية لمتابعة دراسته الفلسفية واستمر يراسل سعاده ويعمل بنشاط في سبيل القضية. ولكن، مع اتصال فخري معلوف من خلال دراسته وعمله بالجهات اللاهوتية الكاثوليكية، بدأ يتأثر بها، وظهر التغيير. فما أن صدرت مقالة سعاده في أيلول/سبتمبر 1944 حول "نفوذ اليهود في الفاتيكان" حتى كتب فخري إلى زعيمه رسالة يدافع فيها عن المؤسسة الكنسية ويثير مسائل تعارض مزعوم بين القضية القومية والكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها.

راسل سعاده فخري معلوف حول مسائل التمييز بين الإيمان الديني وفلسفة النهضة وعدم تعارضهما، وكان يتعامل معه بصبر طويل علّه ينجح في استرداد هذا المفكر البارز إلى صفوف النهضة. واستمرت هذه المحاولات دون نتيجة حتى 1946 حين أصدر سعاده مرسوماً بفصل فخري معلوف عن جسم الحركة القومية.

وكانت الزوبعة قد توقفت عن الصدور في عام 1943، وكان بذل سعاده جهوداً عديدة لإعادة إصدارها لكن ذلك بقي متقطعاً لأسباب مادية في أكثر الأحيان. وفي أوائل 1946 وصل إلى الولايات المتحدة غسان تويني مفوضاً من قبل إدارة الحزب في الوطن للاتصال بالزعيم. وكانت مراسلات الزعيم مع رفيقه الشاب فرصة للإصلاع منه على حالة الحزب والوطن وفرصة لتوضيح مسائل له في تاريخ الحزب وفلسفته. وفي 1946 بعدما تأمن الاتصال المباشر بين سعاده ومركز الحزب وبدأت ترده نشرات الحزب ومطبوعاته، أخذ يلحظ فيها بعض الأمور الشاذة عن سياسة النهضة وفلسفتها، وفي هذه الأمور المواقف السياسية في خطب رئيس المجلس الأعلى الأمين نعمة ثابت ومقالات عميد الثقافة فايز صايغ. ومع أن سعاده كتب إلى الأمين ثابت في هذه الأمور، إلّا أنه رأى تأجيل البحث التام في هذه المسائل حتى العودة إلى الوطن.

لم تكن عودة سعاده إلى الوطن سهلة، فقد كان عليه التغلب على العديد من المصاعب العملية والإدارية والسياسية وفي طليعتها عدم رغبة الحكومة اللبنانية السماح له بالعودة. كان سعاده لا يحمل أي جواز يسمع له بالسفر خارج حدود الأرجنتين، ولم تكن الدولة اللبنانية الحديثة الاستقلال قد استكملت جهازها الدبلوماسي في مختلف دول العالم. لكن سعاده تمكن من الحصول على جواز موقت من السفارة الفرنسية في الأجرنتين سمح له بالسفر إلى البرازيل. وهناك تمكن بمساعدة رفقائه من الحصول على جواز سفر لبناني.

في أواخر 1946 ةأنهى سعاده أعماله التجارية وقرر السفر جواً إلى الوطن بمفرده على أن تلحق به عائلته فيما بعد عن طريق البحرز وبعد زيارة قصيرة للبرازيل سافر عن طريق البرتغال وأفريقية الشمالية ووصل إلى القاهرة في 18 شباط/فبراير 1947. هناك التقىلا برئيس المجلس الأعلى في الحزب الأمين نعمة ثابت وبأسد الأشقر وتباحث معهما في أمر العودة إلى الوطن والموقف السياسي المتوجب اتخاذه في هذا المجال.

في لقاء القاهرة مع نعمة ثابت وأسد الأشقر تبيّن لسعاده مدى التغيير السياسي الذي طرأ على أعمال حزبه، إذ اتخذت إدارة الحزب العليا قراراً بحصر عمل الحزب ومهمته في الداخل اللبناني، وبنت على هذا القرار تحالفاتها السياسية.

وفي 2 آذار/مارس 1947 وصلت طائرة سعاده إلى بيروت، وكان في استقباله حشد شعبي كبير لم يعرفه لبنان من قبل. خلال ذلك الاستقبال التاريخي ألقى سعاده خطاباً حدد فيه بوضوح موقفه من الاستقلال اللبناني وقضايا الوطن ومستقبل الحزب. وأمام هذا التحديد الواضح لم يكن من المستغرب اندفاع أعداء الحزب في حملة سريعة لتعطيل النتائج المتوقعة لعمل الحزب بعد عودة سعاده. وقد توجهت جهود هؤلاء إلى سعاده ــــ نفسه كما أيام الانتداب ــــ عبر عرقلة تقدم الحزب باعتقال قائده.

وكانت الحكومة اللبنانية قد منعت القوميين من عبور وسط العاصمة بيروت يوم الاستقابل، كما بعث الأمن العام بطلب حضور سعاده ليلاً للتحقيق. ورأى سعاده أنّ وراء هذه التدابير خطة عدائية، فرفض الإذعان لطلب الأمن العام واعتصم في الجبل في منطقة المتن. فأصدرت الحكومة مذكرة توقيف بحقه وسيّرت الحملات البوليسية إلى الجبل بهدف القبض عليه. وهكذا بدأت معركة "مذكرة التوقف" التي استمرت من آذار/ مارس 1947 حتى تشرين الأول/أكتوبر 1947 ولم تنته إلا مع استرداد الحكومة مذكرتهاز

كانت غاية الحكومة آنذاك واضحة: إبعاد سعاده عن ساحة العمل السياسي خلال الانتخابات النيابية في أيار/مايو 1947، وإذا أمكن لفترة أطول. وكذلك مضايقة الحزب بهدف عرقلة نشاطاته السياسية والإعلامية عن طريق حملات الاعتقال وتعطيل الصحافة الحزبية. فقد أصدرت الحكومة قراراً بتعطيل جريدة صدى النهضة الناطقة باسم الحزب فاستعاض عنها بجريدة الشمس التي عُطلت بدورها، بتحول إلى مجلة الكوكب حتى آذار/مارس 1948 حين أصدر جريدته الجيل الجديد.

خلال أشهر الملاحقة المتكررة اتّبع سعاده خطة سياسية هجومية على الحكومة والأحزاب الرجعية الموالية لها. فقرر خوض الحزب المعركة الانتخابية، وأرفق ذلك بإصدار سلسلة بيانات سياسية إلى الشعب يشرح فيها برنامج الحزب الانتخابي وحقيقة صراعه مع الحكحومة. كما قابل في مراكز اعتصامه عدداً كبيراً من الصحفيين المحليين وممثلي الوكالات الصحفية العالمية، واتصل به العديد من سياسيي المعارضة. وبالرغم من الملاحقة تنقّل سعاده شخصياً في مدن وقرى الجبل اللبناني متحدثاً إلى المواطنين ومجتمعاً إلى أعضاء الحزب. وأمام صلابة موقف سعاده والالتفاف الشعبي حوله والاهتمام الإعلامي الواسع بالمواجهة بينه وبين الحكومة، تراجعت هذه الأخيرة عن موقفها الأول وتمت اتصالات ومفاوضات سياسية كان من نتيجتها أن سحبت الحكومة مذكرة التوقيف وأعلن سعاده انتصار الحزب على القمع السياسي الحكومي.

لم تكن المعركة الخارجية مع الحكومة اللبنانية الأزمة الوحيدة التي واجهها سعاده، بل تزامنت مع مواجهة داخلية مع بعض أعضاء الإدارة العليا في الحزب مثل نعمة ثابت ومأمون أياس وأسد الأشقر وكريم عزقول. فقد رأى هؤلاء أنّ عودة سعاده ومواقفه السياسية تتعارض وسياستهم في التوافق مع القوى الحاكمة في لبنان. ولما وقعت المواجهة بين سعاده والحكومة، وجدوا أنفسهم أمام خيارين: الإذعان للمسار التصحيحي الذي يدعو إلى العودة إلى ساحة الجهاد القومية الكبرى، أو محاولة إضعاف سلطة الزعامة. فطالبوا بتعديل الدستور للحد من سلطة الزعيم وعارضوا موقف سعاده من الحكومة والخلاف معها واتهموه بالعناد السياسي ودسّوا الشائعات المغرضة ضده داخل الحزب. فوجد سعاده نفسه في صراع خارجي مع الحكومة، وصراع داخلي مع القوى المسيطرة على الإدارة الحزبية العليا. وبقدر ما كان تعامله مع القوى الخارجية حاسماً بقدر ما كانت معالجته للمعركة الداخلية متروية وهادئة. لكنه وجد بعد حسن أنّ استمرار المعركة الداخلية يعرّض مصير الحزب إلى خطر خسارة المعركة الخارجية فقام بحلّ الإدارة العليا في الحزب، ثم مع استفحال المعركة الداخلية وخروج أخصامه إلى العلن، قام بطرد هؤلاء وعلى رأسهم نعمة ثابت ومأمون أياس وأسد الأشقر الذي ما لبث أن عاد إلى صفوف الحزب بعد فترة قصيرةز

بانتهاء معركة "مذكرة التوقيف" ومع حسم الخلافات الداخلية في الحزب أصبح بإمكان سعاده العمل العلني لمواجهة الأوضاع القومية المصيرية، وبخاصة في فلسطينز فمع اقتراب ذكرى وعد بلفور في تشرين الثاني/نوفمبر 1948، وترافقها مع اجتماع منظمة الأمم المتحدة للنظر في مسألة فلسطين، دعا سعاده إلى مهرجان شعبي كبير يقام في بيروت لإظهار الرفض والمقاومة لما يجري في فلسطين، لكن الحكومة اللبنانية رفضت السماح للحزب بإقامة المهرجان فاستعاض عنه ببيان من سعاده حومل مسألة فلسطين أعلن فيه حلولاً عملية لمواجهة الكارثة القادمة. وبحلول آخر تشرين الثاني، نوفمبر أصدرت منظمة الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين. وعبثاً حاول الحزب الاشتراك الواسع في الأعمال العسكرية الدائرة في فلسطين إزاء رفض الحكومة تسليح القوميين حتى في أشد فترات القتال. لكن القوميين شاركوا في المعارك كلما سنحت لهم الفرصة وسقط من بينهم عدد من الشهداء. ومع وقوع النكبة وقيام الدولة اليهودية في جزء من فلسطين رأى سعاده أنّ الاعتماد على القوى السياسية الحاكمة لإنقاذ فلسطين أمر دون جدوى، وبدأ العمل بهدوء لتشكيل جهاز قيادي حزبي من بين أعضاء الحزب يشكل نواة عمل تحريري مقبل.

بموازاة هذه الأحداث وتسارعها ركّز سعاده على إعادة بناء الحزب فكرياً وإعادة تثبيت مواقعه السياسية الشعبية وتوسيعها. فأعاد نشاط "الندوة الثقافية" وفتح أبوابها للطلبة الجامعيين والمثقفين عامة. وألقى بين كانون الثاني/يناير 1948 وأوائل نيسان/أبريل من العام ذاته عشر محاضرات تضمنت شرحاً موسعاً للعقيدة القومية. وقد أصبحت نصوص هذه المحاضرات من أهم مصادر دراسة فكر سعاده وأسس النهضة. وفي 1948 صدرت الأعداد الأولى لمجلة النظام الجديد التي تضمنت نصوص عدد من محاضرات الندوة الثقافية، والعديد من الكتابات الفكرية والتاريخية والفلسفية بقلم سعاده وعدد من المفكرين الشباب الملتفين حوله.

إلى جانب نشاطه الفكري العقائدي، قام سعاده خلال 1948 بعدة جولات في المناطق اللبنانية، وراح يخطب في الحشود المجتمعة للقياه ويحثّها على الانخراط في صفوف العمل القومي. ثم أخذ بتوجيه اهتمامه السياسي إلى الداخل السوري فزار دمشق مراراً مجتمعاً بالطلبة والهيئات السياسية فيها. وفي خريف 1948 قام بجولة امتدت من دمشق إلى حمص وحماه وحلب والساحل السوري الشمالي. وكانت جولات سعاده السياسية الحزبية تثير الاهتمام الواسع في أوساط الشعبز وكان بروز الحزب بهذا الشكل الباهر على ساحة العمل السياسي الشعبي يثير حفيظة أهل الحكم، خصوصاً في لبنان. فعندما أصدر الحزب جريدة يومية تحت اسم الجيل الجديد عمدت الحكومة إلى تعطيلها في نيسان/أبريل 1948، بعد صدور خمسة أعداد منها فقط.

بعد تعطيل الجيل الجديد، بدأ سعاده نشر مقالاته في جريدة كل شيء وقد بلغ عددها سبعة عشرة مقالاً ما بين شهري كانون الثاني/يناير وآذار/مارس 1949. وقد تضمنت هذه المقالات نقداً شديداً للمرجعيات السياسية الفكرية، وتحليلاً دقيقاً لأسباب إفلاس النزعات الانعزالية اللبنانية والانفلاشية الوهمية. واستمرت مقالات سعاده بعد ذلك على صفحات الجيل الجديد التي عادت إلى الصدور في نيسان/أبريل 1949.

أمام نجاح الأعمال السياسية الإعلامية بقيادة سعاده ازداد الضغط الحكومي على حزبه في لبنان. وعادت قوى الحكومة إلى أسلوب منع الاجتماعات الحزبية العلنية العامة، واشتدت المواجهة حتى كادت تؤدي إلى صدامات خلال احتفالات حزبية في أول آذار/مارس 1949.

في أواخر آذار/مارس 1949 قام قائد الجيش الشامي حسني الزعيم بانقلاب مسلح في دمشق بدا في حينه وكأنه رد على نكبة فلسطين. لذلك لم يتوان سعاده عن الاتصال بحاكم دمشق الجديد، خصوصاً في ظل العلاقات المتردية للحزب مع الحكومة في لبنان. لكن هذه الاتصالات لم تؤد عملياً إلا إلى وعود مخادعة، كما أنها عجلت في تحرك الحكومة اللبنانية لمباشرة تنفيذ مخططها للقضاء على سعاده والحزب، بالتواطؤ مع حسني الزعيم وجهات خارجية.

وفيما كانت الحكومة بحاجة إلى مأخذ يسهّل لها علنياً وإعلامياً المباشرة بتنفيذ خطة تصفية "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، توفر لها هذا المأخذ في حادث افتعلته الدولة بواسطة حزب "الكتائب اللبنانية"، إذ هاجمت عناصر منه مطبعة جريدة الجيل الجديد وأحرقتها. استفادت الحكومة اللبنانية من هذا الحادث وبدأت قواها فوراً بمداهمة مراكز الحزب ومنازل قيادييه وأعضائه، وألقت القبض عليهم. وبعد أيام قليلة كان ما يقارب الثلاثة آلاف من أعضاء الحزب في السجن، وقسم كبير من القياديين قيد الملاحقة. وبالفعل تمكنت قوى الحكومة من مباغتة قيادة الحزب، ونجحت حملة الاعتقالات الواسعة في إضعاف القدرة التنظيمية واستعدادات المقاومة المنظمة السريعة. لكن قوى الحكومة لم تنجح في اعتقال سعاده الذي وصل بعد أيام قليلة إلى دمشق بشكل سري، وبدأ يعمل في التحضير لعمل منظم يحمي الحزب من الاندثار أمام الهجوم الحكومي الشرس في لبنان. وكانت مقاومة سعاده للحكومة اللبنانية تتطلب أن يكون للحزب شيء من حرية العمل السياسي والعسكري ضمن أراضي الجمهورية السورية كمركز انطلاق. فاجتمع مجدداً بحسني الزعيم من أجل هذا الغرض، ولقي منه استعداداً ظاهراً للمساعدة المعنوية عبر السماح بالعمل السياسي المحدود. عندئذٍ باشر سعاده وأعوانه بالتحضير للمقاومة الشعبية في لبنان يجمع القوى الحزبية الباقية والتخطيط للثورة الشعبية المسلحة.

لم يتلقَّ الحزب أيّة مساعدة عملية تذكر من حكومة حسني الزعيم. وحتى الوعد بتسهيل العمل لم يتحقق كما هو متوقع، فسار الحزب في عملية الثورة الشعبية في لبنان معتمداً على قواه الذاتية، فيما كانت الاتصالات بين بيروت ودمشق والقاهرة تسير باتجاه التقريب بين الحكومتين اللبنانية والشامية. فما أن أعلن الحزب الثورة في الرابع من تموز/يوليو 1949 حتى وجدت قواه المتوجهة إلى داخل الحدود اللبنانية نفسها وقد وقعت ضحية خيانة حكومة حسني الزعيم لها، إذ مهّد لانهزامها أمام قوى الحكومة اللبنانية بإعلام هذه الأخيرة بخطط القوميين وأماكن تجمّعهم. وفي السادس من تموز/يوليو اعتقلت قوى الأمن في دمشق أنطون سعادهن وسلّمته إلى قوى الأمن اللبناني التي كانت مكلفة بتصفيته خلال الرحلة القصيرة من دمشق إلى بيروت. لكن يقظة الضمير لدى أحد كبار الضباط المكلفين بهذه المهمة منعت هذا الأمر من الحدوث، ووصل سعاده إلى بيروت مع صباح السابع من تموز/يوليو. واستمر التحقيق معه حتى الظهر، وانعقدت محكمة عسكرية للنظر في قضية الحزب مباشرة في اليوم ذاته. رفضت المحكمة إعطاء محامي الدفاع أيّة مهلة للتحضير، فتولى سعاده الدفاع عن نفسه، واستمرت المحكمة حتى مساء السابع من تموز/يوليو، وأصدرت مباشرة الحكم المحضّر سلفاً بإعدام سعاده على الفور. ورفضت الحكومة طلب لجنة العفو القضائية إعطاءها مهلة النظر في الحكم، فجرى إعدام سعاده في الساعة الثالثة والثلث من صباح الثامن من تموز/يوليو دون السماح له بمشاهدة زوجته وبناته للمرة الأخيرة.

جرت محاكمة سعاده المختصرة وتمّ إعدامه بسرية تامة وفي ظل أشد الاحتياطات الأمنية. لكن وقائع المحاكمة المغلقة السرية ولحظات حياته الأخيرة قبل الإعدام تسرّبت سريعاً، ورأى الشعب في هذه الوقائع ما عهده من شجاعة أنطون سعاده وثباته وتفانيه. وهكذا أصبحت لحظات حياته الأخيرة أمثولة في التاريخ السوري الحديث.

 

هذه المجموعة

 

قلّة هم المفكرون الذين أثارت كتاباتهم جدلاً ونقاشاً طويلاً بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية في بلادنا، سواء في حياتهم أم بعد موتهم. ذلك أنّ أي فكر مبدع وجديد يثير مجموعة من الأسئلة والإشكاليات. وأنطون سعاده واحد من هؤلاء. فبعد أكثر من نصف قرن على غيابه، لا يزال الجدل حول مواقفه وأفكاره حيّاً ومستمراً. هذا الجدل كثيراً ما ابتعد عن فكر سعاده، لغايات سياسية أو لسوء فهم. كما أنّ سعاده صُوّر أحياناً على غير حقيقته نتيجة نقص في توثيق كتاباته، أو تحوير أُدخل على بعضها عمداً أو من غير قصد. وهذه المسألة كانت الدافع الرئيسي لإعادة نشر أعمال سعاده كاملة ومنقحة، وفاء لهذا الرجل، وخدمة للأمانة التاريخية والعلمية.

لقد وعى سعاده مبكراً جدة مشروعه وخطورته، كما قدّر ما ستثيره أفكاره من جدل في المجتمع السوري وخارجه. لذا كان توثيقياً، يدوّن كل شيء ويسجّل كل ما يدور في خاطره، ولا يتقاعس عن البحث العلمي الذي يدلّل على أفكاره. فكتب في عدد من الصحف والمجلات وأسّس بعضها، كما أنه بنى مؤسسة فكرية سياسية، هي "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، وهو في عامة الثامن والعشرين.

وقبل الكلام على الضجة الدائمة حول كتابات أنطون سعاده، لا بد من الإشارة إلى أنّ جمع أعماله الذي بدأ بعد استشهاده لم يكتمل ربما حتى الساعة. والأسباب كثيرة، منهال الأحداث التي عصفت بالحزب والمضايقات التي تعرض لها في الخمسينيات والتسينيات. وعندما خرج الحزب في بداية السبعينيات من دوامة المنع والاعتقال والملاحقة، بدأ العمل جدياً على جمع أعمال سعاده وإصدارها في أجزاء متتالية تحت عنوان "الآثار الكاملة". لكن اندلاع الحرب الأهلية في لبنان وما استتبعه من تداعيات آنذاكن لم يوفر لهذا المشروع الأجواء والظروف الملائمة. فما تمّ نشره آنذاك، رغم أهميتهن اتّسم بشيء من السرعة والعجالةن وبالتالي بعدم الدقة والشمولية في أحيان كثيرة.

لكل ما سلف، ولأن أنطون سعاده لم يأخذ ما يستحقه، كان لا بد من إعادة جمع كتاباته وخطبه ورسائله من مصادرها الأصليةن محققة وكاملة كي تكون مرجعاً علمياً لكل دارس ومهتم.

هذا الهدف كان أساس المشروع الطموح الذي أخذته "مؤسسة سعاده للثقافة" على عاتقها ووفرت له الإمكانات اللازمة، وهو يأتي اليوم ثمرة جهود مضنية لفريق من الباحثين استغرقت أكثر من ثماني سنوات متواصلة.

المرحلة الأولى من المشروع تمثلت في الاتصال بقوميين ومواطنين في الوطن والمغتربات ممن عاصروا سعاده، وذلك للمساعدة في معرفة كافة الصحف والمجلات التي أسّسها أو التي كتب فيها. وقد ساهمت هذه الاتصالات في تأمين المادة الأولية للعمل. هذا بالإضافة إلى مساعدة قيمة من عدد من المكتبات العامة والخاصة.

وبموازاة جمع الكتابات بدأت المهمة الثانية وهي الدراسة والتصنيف، فكان لا بد من قراءة المقالات الواردة في الصحف كافة، بهدف التحقق من صحة نسبتها إلى أنطون سعاده.

ونتيجة لهذه الدراسة تمكنا من إثبات مقالات جديدة لسعاده لم تكن معروفة، كما استبعدنا عشرات المقالات الأخرى التي نسبت خطأ إليه. وقد اعتمدنا في كلا الحالين على المعلومات الموثوقة في حال توافرها، وعلى معايير البحث المنهجية في إثبات الإسناد أو عدمه.

 

إسناد مقالات جديدة

 

تمّ التعرف إلى المقالات غير الموقّعة المنشورة في الصحف والتأكد من أنّ سعاده كتبها ولم يوقعها، وذلك استناداً إلى إشارات وردت في مقالات له، أو في النشرة الداخلية للحزب، أو في رسائله إلى القوميين، أو في مراجع منشورة موثوقة، أو من شهادات حيّة لمعاصريه.

1 ــــ نذكر مثلاً المقالات التي نشرها في جريدة اليوم الدمشقية عام 1931 تحت باب "السياسة الخارجية" ووقّعها باسمه. فقد أشار فيها إلى مجموعة من المقالات التي نشرها في الجريدة نفسها من دون توقيع. كما أنّ هنالك مقالات موقعة منشورة في صحف أخرى أشار فيها إلى مقالات له لم تنشر.

2 ــــ من خلال المنشورات الحزبية استطعنا أن نجد إشارات إلى مقالات غير موقعة باسم سعاده، وهذه الإشارات هي عبارة عن مقتطفات من كتاباته، تبيّن لنا أنها من مقالات غير موقعة وبعضها لم ينشر لاحقاً.

نذكر مثلاً فقرة منشورة في نشرة عمدة الثقافة عام 1944 ـــ 1945، العدد الرابع والخامس، ص 15. والفقرة ذاتها منشورة في نشرة عمدة الإذاعة العدد التاسع، آب 1947، وهذه الفقرة من مقالة بعنوان "عودة المهاجرين" المنشورة في جريدة النهضة، العدد الخامس عام 1937.

3 ــــ مجموعة أخرى من المقالات والكتابات ثبت إسنادها لسعاده من خلال رسائله. فقد وجدنا في العديد من الرسائل إشارات إلى مقالات نشرت سابقاً أو سوف تنشر ولم يوقّعها أنطون سعاده باسمه. وهذه المقالات بعضها ينشر للمرة الأولى.

ومن المراجع التي أحالتنا إلى هكذا مقالات مجموعة رسائل سعاده إلى إدفيك جريديني، التي لم يكشف النقاب عن مضمونها حتى 1998.

4 ــــ كتابات أخرى أثبتنا نسبتها إلى سعاده عن طريق مراجع منشورة وموثوقة.

فهناك مثلاً مقالة بعنوان "قواعد الترشيح للنيابة في الحزب القومي" منشورة في مجموعة الأعمال الرسمية للحركة القومية الاجتماعية ـــ مجموعة كانون الثاني/يناير 1949 يشير فيها سعاده إلى أنه وضع بنفسه البيان الأول لمرشحي الحزب في محافظة جبل لبنان، فطُبع البيان ووُزع باسم أولئك المرشحين.

وفي مقالة نُشرت في جريدة صدى النهضة 1946 بعنهوان "المصالح المشتركة بين لبنان والشام" يشير الكاتب إلى أنّ سعاده هو الذي وضع مذكرة الحزب السوري القومي حول قضية المصالح المشتركة.

5 ــــ كذلك حصلنا على شهادات حيّة من شخصيات عاصرت سعاده عن كثب، ومنها من كان في سدة المسؤولية في الحزب، كهشام شرابي ويوسف سلامة وإلياس جرجي قنيزح وسامي خوري وإبراهيم يموت وعبدالله محسن ونواف حردان وجبران جريج. هذه الشهادات سهّلت التأكد من دقة اختيارنا لعدد من المقالات.

نذكر مثلاً شهادة أفادنا بها عبد الله محسن الذي كان عميداً للمالية عام 1947، أنّ سعاده هو الذي وضع بيان الحزب ومنهاجه النيابي الموقّع باسمي عبدالله محسن ومحسن سليم، وذلك بمناسبة الانتخابات النيابية اللبنانية.

 

التحقق من النصوص المنشورة

لقد حرصنا على اعتماد النصوص كما نشرت خلال حياة سعاده، وإزالة التعديلات والتنقيحات التي طرأت على بعضها في المنشورات التي ظهرت لاحقاً. وفي الحقيقة، أننا أثناء متابعتنا للموضوع تبيّن لنا أنّ التعديل الذي طرأ على هذه الأعمال جاء لاحقاً بعد استشهاد سعاده. وعلى رأس أعماله التي أجري عليها التنقيح كتاب نشوء الأمم وسلسلة حلقات جنون الخلود.

 

نشوء الأمم

أنجز سعاده كحتابه نشوء الأمم عام 1936، وصدرت طبعته الأولى عام 1938 بمادتها الأصلية دون أي تعديل أو زيادة. إذ يقول في مقدمته للكتاب:

"وكنت أود أن أعود إلى مراجعة هذا الكتاب في متسع من الوقت ليجيء أكمل في الشكل ويكون أكثر إسهاباً في بعض المواضع ولكن تعاقب السجون والظروف السياسية الصعبة التي وجدتني فيها بعد سجني الأول جعلت العودة إلى هذا الموضوع العلمي أمراً مستحيلاً".

وفي رسالة منه إلى عساف أبو مراد في آب/أغسطس 1937، يقول حول الموضوع نفسه: "... أما الآن فأود أن أفرغ من بعض الشؤون الأساسية كتثبيت سياسة الحزب وإنشاء علاقات طيبة تجعله أقوى قوة سياسية في الوطن وتنقيح كتابي نشوء الأمم...".

إلّا أنه كتب مقدمة نشوء الأمم في 25 أيلول/سبتمبر 1937، أي بعد رسالته إلى عساف أبو مراد. ويؤكد سعاده أنّ الكتاب لم يُنقّح وأنه طُبع كما هو في مخطوطته الأصلية، إذ يقول:

"ولمّا كانت حاجة النهضة القومية إلى هذا الأساس العلمي ماسّة رأيت أن أدفع المخطوطة الوحيدة إلى المطبعة وهي في حالتها الأصلية، كما خرجت من السجن".

بعد استشهاد سعاده، وفي العام 1950 بدأت عمدة الثقافة في الحزب بجمع ما يصل إليها من كتابات سعاده وخطبه وتضمينها في نشرة النظام الجديد الحزبية. إلا أنّ العمل اقتصر حينذاك على جورج عبد المسيح والدكتور سامي خوري اللذين شكّلا لاحقاً في العام 1951، "لجنة النشر".

ومن الأعمال التي أنجزتها "لجنة النشر" إصدار طبعة ثانية من كتاب نشوء الأمم عام 19551 تتضمن تعديلات على النص الأصلي. ويقول الدكتور سامي خوري إنّ اللجنة استدت في تعديلات إلى نسخة من كتاب نشوء الأمم ــــ طبعة 1938 ـــ كانت موجودة في مكتبة سعاده وعليها بعض الملاحظات بخط يده. فصدرت طبعة عام 1951 دون أن يشرف عليها الدكتور سامي خوري كما يقول، وبقيت مقدمة طبعة 1938 هي نفسها مقدمة طبعة 1951 التي يقول فيها سعاده إنّ الكتاب بحاجة إلى تنقيح وإسهاب في بعض المواضع.

لذلك نشرنا في هذه المجموعة النص الأصلي كما هو. أما التعديلات التي صدرت لاحقاً بعد العام 1949 فقد أدرجناها ضمن ملاحق المجلد الثالث.

 

جنون الخلود

نشرت جريدة الزوبعة ابتداء من العدد 6 تاريخ 15 ــــ 11 ــــ 1940 وحتى العدد 43 تاريخ 1 ــــ 5 ــــ 1942 سلسلة أبحاث "جنون الخلود" بتوقيع هاني بعل. وأعيد نشر حلقات من هذه السلسلة في جريدة سورية الجديدة.

في الحلقات الأولى التي أعيد نشرها في سورية الجديدة أجرى سعاده بعض التنقيحات التي أشار إليها في رسالتيه إلى وليم بحليس تاريخ 3 ــــ 2 ــــ 1941 و12 ــــ 2 ــــ 1941.

كما أنه يقول في رسالة إلى نجيب العسراوي بتاريخ 21 ــــ 3 ــــ 1942: "بناء على رغبات وطلبات كثيرة وردت إليّ وإلى سان باولو وإلى إدارة الزوبعة، قررت طبع سلسلة أبحاث "جنون الخلود" في كتابين: الأول أدبي ويتعلق بمنظومات رشيد الخوري كدراسة أدبية، والثاني يختص بموضوع المسيحية والمحمدية أو اليسوعية والمحمدية والعصبية القومية. وقد رأيت أن يحمل الكتاب الاول فقط عنوان "جنون الخلود". أما الكتاب الثاني فسأجد له عنواناً من موضوعه... إنّ الموضوع سيمرّ على تنقيح".

ولم تسمح الظروف لسعاده أن يطبع الكتابين إلا أنه وبعد استشهاده قامت "لجنة النشر" بإصدار عدد خاص من سلسلة النظام الجديد بعنوان "جنون الخلود" ضمّنته الحلقات الــ 12 الأولى المتعلقة بالشأن الأدبي. وفي عام 1952 قامت اللجنة المذكورة بجمع بقية الحلقات وطبعتها في كتاب اختارت له عنواناً هو الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية.

بالنسبة للقسم الأول أي "جنون الخلود" الصادر عن سلسلة النظام الجديد أكدت "لجنة النشر" في المقدمة أنّ هذا القسم من الأبحاث نشر كما جاء في الزوبعة. في حين أنّ المقارنة تثبت أنّ ما نشر في النظام الجديد لا يطابق ما نشر في الزوبعة. والتعديلات التي أجرتها اللجنة تناولت موضوع العراق واسم الحزب واستبدال الإسلام بالمحمدية وخصوصاً في الحلقات 4، 5، 7، 8، 9، 12.

أما بالنسبة للقسم الثاني، أي كتاب الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية فقد اتّبع الأسلوب ذاته. علماً أنّ اللجنة قالت في مقدمتها له إنها اعتمدت على نسخة من الزوبعة عليها تنقيحات سعاده بخط يده.

والملاحظات التي نبديها على مقدمتي القسمين هي التالية:

1 ــــ حين بدأت سورية الجديدة بنشر حلقات "جنون الخلود" لم تنشرها كما وردت في الزوبعة بل كما أرسلها سعاده منقحة، وهذا ما يشير إليه في رسالته إلى وليم بحليس تاريخ 12 ــــ 2 ــــ 1941 إذ يقول: "... مرسل إليك مع هذا الكتاب المقالين الأولين من سلسلة مقالات "جنون الخلود" لتباشر بنشر هذه السلسلة في الصفحة الأولى. وفي المقالين بعض تصحيح."، واستمر التصحيح حتى الحلقة الخامسة. والملاحظة الأولى التي تؤخذ على كتاب "جنون الخلود" كما صدر عن سلسلة النظام الجديد عام 1942 هي أنه اعتمد على الزوبعة وليس على سورية الجديدة.

2 ــــ في العدد 35 من الزوبعة نشرة الحلقة 30، وسقط سهواً أحد الأسطر الذي وردت الإشارة إليه في العدد 36 تحت عنوان "إصلاح غلط". فما نشر في العدد 35 هو هكذا: "... ولهذه الحقيقة تخضع آيات لأنه وجد من بادأ المسلمين القتال..." أما الجملة كاملة وكما أصبحت بعد التصحيح فهي: "... ولهذه الحقيقة تخضع آيات القتال. فقد استنزل محمد آيات القتال لأنه وجد من بادأ المسلمين القتال...". وفي كتاب الإسلام في رسالتيه الذي تقول مقدمته إنه منقح بقلم سعاده، ترد الفقرة بدون تصحيح الغلط مما يعني أنها أخذت من الزوبعة مباشرة ولم تصحح. وهي لم تصحح أيضاً في كل الطبعات اللاحقة.

أما بالنسبة لطبعة عام 1977 التي تضمنت سلسلة المقالات كاملة كما وردت في الزوبعة، فيمكننا تسجيل الملاحظات التالية:

1 ــــ اعتمدت هذه الطبعة الحلقات الأولى كما وردت في الزوبعة دون الالتفات إلى تصحيح سعاده لها في سورية الجديدة.

2 ــــ تبنت هذه الطبعة بعض التعديلات التي أجريت في كتاب الإسلام في رسالتيه ولم تأخذ ببعضها الآخر.

3 ــــ حدث خطأ في ترقيم قسم من الآيات القرآنية، مما جعل أرقام الآيات حتى الحلقة 21 خطأ. وحين أعيدت طباعة هذا الكتاب في مجموعة الآثار الكاملة تحت الرقم 9 لم تصحح الأخطاء.

4 ـــ لا بد أن نسجل أنّ هناك مقالتين في هذه السلسلة وردتا في كل الطبعات تحت عنوانين هما غير عنوانيهما الأساسيين فجاءت الحلقة 15 تحت عنوان "الفهم المغلق"، كما جاءت الحلقة 18 تحت عنوان "خرقاء ذات نيفة" والصحيح هو "الفهم المفلق" و"خرقاء ذات نيقة" (
!!).

 

الملاحق

بعد استشهاد أنطون سعاده نُشرت له مجموعة خطب ومقالات وبيانات من مصادر عديدة. منها ما نشره الحزب، ومنها ما نشرته مصادر أخرى كوزارة الأنباء اللبنانية التي أصدرت كتاب قضية الحزب القومي عام 1949 وضمّنته وثائق صادرتها الدولة اللبنانية خلال ملاحقتها للحزب آنذاك.

ومن الواضح أنّ ما نشره الحزب قد أجري عليه بعض التعديل انطلاقاً مما ورد في طبعة المبادئ التي عدّلها سعاده. لذلك اعتمدنا في عملنا على نشر كتابات سعاده كما جاءت في مصادرها الأولية. ولاستكمال التوثيق نشرنا ما أصدره الحزب بعيد استشهاد زعيمه ضمن ملاحق في كل مجلد على حدة.

وهنا بعض الأمثلة على ما تضمنته الملاحق:

ــــ خطاب سعاده بعد خروجه من سجنه الثاني عام 1936، والذي نشر بعد استشهاده في سلسلة النظام الجديد. يبدو التعديل واضحاً في اسم الحزب إذ يرد الحزب السوري القومي الاجتماعي (أضيفت كلمة الاجتماعي إلى اسم الحزب)، كما يرد تعديل الحدود انسجاماً مع ما ورد في طبعة المبادئ المعدلة.

ــــ بلاغ قيادة الثورة القومية الاجتماعية الأولى الذي نشر في النظام الجديد يُعيد استشهاد سعاده، وكان قد نشر للمرة الاولى في كتاب قضية الحزب القومي.

ــــ طبعة الدستور الصادرة عام 1952 والمستندة حسب الناشر إلى طبعة عام 1941، جرى عليها تعديل أيضاً حسب الأسس نفسها.

ــــ مجموعة من الخطب كان قد ألقاها سعاده خلال جولاته الحزبية نشرت لاحقاً.

ــــ ما ورد في كتاب قضية الحزب القومي من وثائق تتضمن نصوصاً من مفكرته الخاصة التي صودرت منه، ومقالة ذكرت الوثيقة أنها بخط يده وهي بعنوان "الجهاز الحكومي وموقف الوزير جنبلاط"، ومرسوم إنشاء المحكمة الحزبية المركزية، وبلاغاً يحذّر القوميين من الانتساب إلى الجمعية الماسونية، وأمراً إلى القوميين الاجتماعيين في السلك العسكري للالتحاق بقيادة الثورة.

ــــ الإشارة الموجودة في رسالة من سعاده إلى هشام شرابي، وهي تنشر للمرة الأولى، حول ما تضمّنه كتاب إلى أين لفايز صايغ من مقاطع كتبها سعاده لفخري معلوف وكان صايغ قد وضعها في كتابه بين قوسمين فوضعت في الملحق.

ــــ أصدر الحزب مذكرة إلى العصبة الأممية عام 1936، كتبها نعمة ثابت وساعده فخري معلوف، وكان سعاده حينها في السجن، فقام سعاده عام 1942 بتنقيح نصها المترجم إلى العربية ووضع مقدمة لها ونشرها في الزوبعة من العدد 53 تاريخ 1 ــــ 10 ــــ 1942 وحتى العدد 56 تاريخ 16 ــــ 11 ــــ 1942 مما أوجب وضعها في الملاحق مع جواب عصبة الأمم عليها.

ــــ هناك ملاحق اقتطفناها مما نشر في متن المجلدات وهي تساعد القارئ على الإلمام بمواضيع المجلد الذي بين يديه، ومنها المقتطفات التي اقتطعناها من رسائل سعاده حول سلسلة مقالات "جنون الخلود". وهناك مقالات تضيء بعض فقراتها على مضمون "نشوء الأمم". وقد أدرجنا هذه الفقرات كملاحق في المجلد الثالث، علماً أنّ المقالات المذكورة مثبتة حسب تواريخها في المجلدات.

في ما يتعلق بمجمل العمل لا بد من الإشارة إلى أنّ الرسائل التي عممت لم تنشر في مجلدات الرسائل وإنما نشرت مع المقالات مع إشارة إليها في مجلدات الرسائل. كما أنّ هناك عدداً من الرسائل التي لم نستطع الحصول عليها، وذلك إما بسبب ضياعها من أصحابها أو لتمنّع البعض عن تقديمها.

وهناك مقالات لم نستطع الحصول على أصولها فنشرناها كما وردت في مصادرها مع الإشارة إلى المصدر الذي أخذت عنه، وهي معدودة. أيضاً هناك أربعة أعداد مفقودة من جريدة الزوبعة هي 73، 86، 87، و90. وأحد هذه الأعداد يتضمن الحلقة الثالثة من سلسلة مقالات بعنوان "نشر الزعامة القومية ووحل تكمان وذبابها".

أما بالنسبة للتصاريخ والمقابلات التي أعطاها سعاده للصحافة، فقد نشرناها كما وردت في الصحف، ونشير إلى أن عمدة الإذاعة أوردت في نشرتها الصادرة بتاريخ 15 ــــ 7 ــــ 1947 بلاغاً عن مكتب الزعيم أشارت فيه إلى بعض الصحف التي قامت بالتحوير. وهذا نص البلاغ:

"إنّ التصاريح المنشورة في صحف المساء، لوسوار، الحياة وكافة التصاريح المنشورة في الصحف، غير الموقعة بتوقيع حضرة الزعيم على نسخها الأصلية، قد تحتوي على بعض التحوير في ألفاظها، مما يبعدها عن دقة المعنى المقصود.

لذلك فإن مسؤولية مثل هذه التصاريح يحملها الصحفيون أنفسهم".

ختاماً، إنّ مؤسسة سعاده للثقافة على استعداد لتقبّل كل نقد بصير يدل على معرفة دقيقة ويساعد في أن تأتي الطبعات اللاحقة أقرب إلى الدقة.

وتأمل المؤسسة أن يزودها الباحثون والمهتمون بما لديهم من نصوص أو معلومات عن نصوص قد لا تكون منشورة في هذه الطبعة.

مؤسسة سعاده للثقافة

لجنة الجمع والتحقيق

 

مصطلحات

لتسهيل متابعة النصوص

 

[...] العقفات، تعني فقدان كلمات في النص الأصلي.

[مع نص تحتوي عليه] تشير إلى إضافات من المحقق لتسهيل قراءة النصوص.

(....) ما احتوته الأقواس من إشارات مثل (صفحة... أعلاه) (صفحة.... أدناه)

(أنظر ج.... ص....) هو من عمل المحقق وما عدا ذلك فهو من عمل الكاتب.

عمدنا إلى إضافة اسم الشهر بالعربية إلى جانب الاسم المستعمل من قبل الكاتب مثل (يوليو/تموز) (مارس/آذار) وذلك حتى عام 1949 حين بدأ الكاتب باستعمال اسم الشهر بالعربية فعكسنا الترتيب ليصبح (تموز/يوليو)(آذار/مارس).

تم توحيد العديد من المصطلحات والأسماء وذلك لتسهيل عمل التحقيق مثل:

ــــ الأرسطكراتية أصبحت الأرستوقراطية

ــــ الإنترنسيونية أصبحت الإنترناسيونية

ــــ الدفلماسية أصبحت الدبلوماسية

ــــ السوفيات أصبحت السوفييت

أما بالنسبة لأسماء البلدان فقد تم توحيد نهاياتها بالتاء المربوطة.

في المجلد الثلاث وفي كتاب نشوء الأمم عمدنا إلى نقل الهوامش من أسفل الصفحات إلى آخر كل فصل لأسباب تتعلق بالتحقيق.

في المجلد الخامس أضفنا إلى النص هوامش تتضمن اسم السورة القرآنية ورقم الآية بعد رفع اسم السورة من النص.

 

كلمة شكر

 

يسرّ مؤسسة سعاده للثقافة أن تتقدم بالتقدير والشكر من كل الذين بذلوا جهدهم، وأسهموا بفكرهم وعلمهم وعملهم من أجل أن يرى هذا العمل النور. وهي تخص بالذكر المؤسسات والمكتبات والأشخاص الذين ساهموا في تزويد المؤسسة بمقالة أو رسالة أو بيان أو نص لسعاده لم يسبق أن نشر في الطبعات السابقة.

أنطون سعاده

__________________

- الأعمال الكاملة بأغلبها عن النسخة التي نشرتها "مؤسسة سعاده".
- الترجمات إلى الأنكليزية للدكتور عادل بشارة، حصلنا عليها عبر الأنترنت.
- عدد من الدراسات والمقالات حصلنا عليها من الأنترنت.
- هناك عدد من المقالات والدراسات كتبت خصيصاً للموقع.