19/3/1941
رفيقيّ العزيزين فؤاد وتوفيق بندقي،
أخيراً وجدت فرصة للكتابة إليكما. وقد كان بإمكاني ذلك قبل الآن بترك أمور هامّة مستعجلة. ولكن ترك هذه الأمور يكلّف القضية، وتكليفكما يظل أهون من تكليف القضية.
إنّ اتصالكما المباشر بي كان لازماً منذ مدة طويلة، خصوصاً بعد المخابرة التي قمت بها مع المجلس الذي عيّنته لإدارة شؤون الجريدة العملية فيما يختص بصفة الجريدة وخضوعها التامّ لتوجيهات المراجع العليا ولو أنكما قبلتما حينئذٍ المخابرة المباشرة بدلاً من توسيط الرفيق توما [توما] تارة وتارة الرفيق جورج [بندقي] لكانت العقد التي نشأت في أثناء سير الجريدة انحلّت من زمان بدون حصول أزمة.
أضع أمامي الآن كتابكما الأخير والأول الموجّه منكما المؤرخ في 18 يناير/كانون الثاني الماضي، وقبل أن أتناول النقاط الواردة فيه وملاحظاتي على سير سورية الجديدة في العهد الماضي، أريد أن أثبت هنا تقديري العادل لمروءتكما وإقدامكما على تأمين صدور سورية الجديدة من الوجهة المادية، فهذا العمل غير النادر المثيل في المجتمعات الواعية لشخصيتها ومصالحها العامة كان شيئاً كبيراً يدل على عزيمة عالية وروحية ممتازة.
ولهذا السبب حملت لكما في قلبي تقديراً كبيراً، وكنت في المواضع المناسبة أذكركما على سبيل القدوة الحسنة. وكنت أتوقع نشوء علاقات شخصية بيننا تسهل لي توجيهكما إلى أفضل ما يمكنكما العناية به وتحقيقه في سبيل القضية، وتفسح المجال لامتزاجكما امتزاجاً أدق بالحركة القومية ومواضيعها ومثلها العليا وبسياستها وأعمالها. ولكنكما[...].
إني قدّرت أسباب التحفظ في ذلك الوقت، فقد أسفت لفوات فرصة ثمينة لتوثيق اتصالكما بمركز الحركة القومية، ولم يقلل موقفكما شيئاً من تقديري لعملكما.
أخيراً نشأت العقد التي أشرت إليها آنفاً وسببت أزمة الجريدة التي انتهت بوضعكما الأعباء المادية عن عاتقيكما. ومن الأمور الحسنة التي تركتها هذه الأزمة أنكما أدركتما ضرورة الاتصال المباشر بمركز الحركة وعدّلتما تحفظكما القديم.
والآن أذهب إلى النقاط الواردة في كتابكما. وأولها قبول الرفيق جورج تولي إدارة شؤون الجريدة، الأمر الذي تعدّانه غلطاً منه وغلطاً منكما بقبوله. فأنتما تعلمان أني تركت لكما الخيار في اقتراح المدير الذي تريانه موافقاً، لتكون مسائل الجريدة المالية حاصلة على رضاكما واقتناعكما. ومالية الجريدة يجب أن يقوم عليها شخص أمين مختبر. وكل قصدي أنا من تولية جورج هذه الشؤون كان تأمين الوجهة المالية والوجهة الحقوقية التي تتطلبها قوانين البلاد، ولم يكن قط لتأمين أعمال واسعة تقتضي وقتاً ومقدرة وخبرة وسهراً. ولمّا كان بعض هذه الشروط متوفراً في الرفيق جورج وكان شرط الإخلاص والأمانة، الذي هو أساس جميع الشروط متمماً، قدّرت أنه يمكن سد نقص الشروط الأخرى كالوقت والخبرة بالمساعدة التي يقدر أن يؤديها في هذا الصدد المحرر الذي كنت عازماً على، وطلبت، استقدامه من الوطن ليتولى إدارة شؤون الجريدة الكتابية وصلاتها الاجتماعية. ويذكر الرفيق فؤاد أني صرحت له قبيل سفري، يوم ذهبت للنزهة في المصيف خارج المدينة وبحضور الرفيق توما، أني لست راضياً عن السيد رشيد شكور ليتولى تحرير الجريدة، وأني سأطلب محرراً لها من الوطن. وحالما تمكنت من الاتصال بالمركز في الوطن طلبت اختيار بضعة أشخاص ترسل إليّ أسماؤهم مع الملاحظات اللازمة لأعيِّن واحداً منهم، ولكن جاء نشوب الحرب ووضع المراقبة على الكتب وملاحقة رجال إدارة الحزب مانعة من تحقيق هذا القصد. فكانت العاقبة أنّ شكور لم يمكث طويلاً، ولم يكن كفؤاً للعمل، وحالت الحرب دون قدوم من هو كفؤ، ووقع الرفيق جورج تحت عبء ثقيل. فالواقع، إذاً، ليس غلطاً من الرفيق جورج ولا منكم، بل من الظروف التي لم يكن لنا منها مهرب غير ترك العمل بالمرّة والانتظار، ولا أخالكما تجهلان العواقب الوخيمة للحركة من وراء الترك والانتظار.
ونشوب الحرب بهذه السرعة والجريدة في طور تأسيسها عطّل إمكانيات كثيرة، ومنع موارد، وأحدث خسائر كثيرة، وأوقف المنهاج العملي الذي كان مقرراً. ولا ننسى حادث توقيفي في سان باولو والجريدة لم يصدر منها غير عددين والثالث تحت الطبع. في ذلك الوقت كان موقفكما قوياً يصح أن يحسب في عداد المواقف القومية الجميلة. ولكن شكور لم يكن كفؤاً، كما ذكرت آنفاً، ولم يكن هنالك غيره. وقد عطّل توقيفي إمكانيات كثيرة للحركة والجريدة. ومما لا شك فيه أنّ المشاريع الجهادية، كمشاريع حركتنا، لا يمكن أن تكون كالمشاريع العادية تحسب كل شاردة وواردة فيها وتتعين من قبل. فنحن في دور الجهاد وللجهاد صدماته ومفاجآته.
مع كل ما يمكن اعتباره في باب سير الجريدة على غير ما كان منتظراً منكما، أي عندكما، لا أجد سبباً أو مبرراً لتدخّلكما أو تدخّل أحدكما، الرفيق فؤاد، في سياسة الجريدة والتوغل بهذا التدخل حتى نقطة القبض على سياسة الجريدة وإهمال المراجع العليا ومقاصدها وتوجيهاتها، الأمر الذي كانت له نتائج سيئة، معنوية ومادية، على الحركة القومية. فقد صدرت في الجريدة مقالات وصور كثيرة إذاعية، أصدرت تعليمات مكررة بوجوب توقيفها لأنها ليست من سياسة الحزب ولا يجوز أن يحمل الحزب مسؤوليتها. ووصل هذا الشذوذ إلى أوجه بالتدخل لمنع نشر مقالات هاني بعل [«جنون الخلود»] التي صدرت تعليمات صريحة بوجوب نشرها.
هذا الموقف لم يكن معناه التدخل في مسألة بعض المقالات فقط، بل كان معناه اعتراض خطط الزعامة وتوقيف تنفيذ الأوامر العليا، وبالتالي العبث بالسلطة الحزبية وخرق النظام وهو خرق لليمين التي يؤديها السوري القومي حين دخوله الحزب. فهذه المسألة خطيرة جداً جداً. وكان في الإمكان تجنب إبلاغها هذه الدرجة من الخطورة لو أنكما، أو أحدكما، كتبتما إلى الزعيم نفسه رأساً وأبديتما رأيكما له في الأمر، مع عدم توقيف التنفيذ، إذ لا يجيز القانون والعرق القوميان لأي عضو أن يوقف تنفيذ أوامر الزعيم، حتى ولا أوامر مرجع أعلى مختص. ولو أنكما أجّلتما النشر، على مسؤوليتكما، عدداً واحداً ريثما يأتي جواب الزعيم لكات المسألة تكون محمولة، لأنّ هذا التصرف كان يتضمن الرجوع إلى الزعيم. ولكن التوقيف الباتّ المجرّد الذي جرى اتخذ صفة ودرجة لا يسمح النظام القومي بالإغضاء عنهما، وإلا صار القانون لغواً والنظام مرادفاً للفوضى.
إنّ جعل سياسة الجريدة خاضعة لكما، أو لأحدكما، كانت محاولة خطرة معناها محاولة وضع سياسة مختصة بفرد أو فردين في محل سياسة الحزب، أو جعل هذه السياسة الفردية سياسة الحزب نفسه، وقد لا يكون هذا قصدكما. وقد يكون الرفيق فؤاد وَهَم أنه يدرك جيداً سياسة الحزب وموقفه إلى حد لا يحتاج معه إلى مراجعة مرجع عالٍ والتقيد بتوجيهاته. وهذا غلط كبير يرمي العمل به بمؤسسات الحزب السوري القومي إلى الأرض.
وبهذا المقدار من الخطورة أو أكثر، التصدي لمنع تنفيذ أوامر أعلى مرجع تنفيذي وتشريعي في الحزب السوري القومي لمجرّد أنكما، أو أنّ أحدكما، لا تريان رأي المرجع المذكور. فلو تساهل مكتب الزعيم في هذه القضية وترك لكما وللكثيرين، الذين ينطرون إلى أنفسهم نظركما إلى أنفسكما في الذكاء والمقدرة، الحرية والخيار في تنفيذ ما تشاؤون وإهمال ما لا تشاؤون، أكان بقي شيء من معنى السلطة في الدولة السورية القومية؟ وعلى افتراض أنّ مقدرتكما ومواهبكما واطلاعكما موازية لمقدرة الزعيم ومواهبه واطلاعه فتبقى هنالك مسألة السلطة التي توجب عليكما مراجعته، لأنه إذا لم تكن مقدرة الزعيم إلا بنسبة مقدرتكما، على الأقل، فهو قادر أن يرى ما تريانه إذا عرضتما ذلك عليه، على فرض أنه لم ينتبه له من قبل. وإذا كان أحد يعدّ نفسه أكفأ من الزعيم لتسيير سياسة الحزب والقيام بأعباء سلطته، لاعتقاده أنّ الزعيم، ما أخذ الزعامة إلا صدفة إذ لم يكن الأكفأ منه موجودين حين تقرير مسألة الزعامة ولمن يجب إسنادها، فهذه المسألة يمكن أن تعرض على مجالس الحزب للنظر فيها من أساسها لكي تجري الأمور بصورة قانونية وضمن النظام. وهذا أفضل كثيراً لمستقبل الدولة القومية، من كسر النظام بتجاهل وجود السلطة أو بعدم اعتبار هذه السلطة التي هي سلطة حقيقية كما يجب أن تكون.
لا أريد بما تقدم، أن أقول إنّ تصرّفكما كان مبنياً على هذه الأفكار، ولكن أريد أن أقول إنّ ما حدث من قبلكما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسائل الأسس الحقوقية والنظامية للحزب السوري القومي، وأريد أن أقول إنّ هذه الأمور لها خطورة كلية ويجب التفكير بها جيداً في كل ما له مساس بوجود المنظمة القومية وشخصيتها، أما قولكما في صدد ما ذكرته في كتابي السابق إليكما من أني سأنتظر انقضاء أزمة سورية الجديدة لأتمكن من إعطاء الجهود المبذولة قيمتها الصحيحة: «فنقول إنّ هذا التقدير قد أخذناه صفعاً على وجوهنا من الرفيق جبران مسوح» فهو قول ليس في محله. فكتاب الرفيق جبران مسوح إليكما لم يكن سوى جواب كتاب منكما إليه اشتمل على أمور لم تكن منطبقة على الحقيقة وعلى الأصول، كقولكما إنكما سرتما بالمبادىء القومية قبل معرفتكما بأمر الحزب السوري القومي، وإنكما اشترطتما عليّ كيفية تسيير الجريدة وغير ذلك. وقد خاطبتما الرفيق جبران مسوح كما لو كان طفلاً صغيراً أو تلميذاً عليكما بقولكما إنكما «تسامحانه» على تدخّله في أمر الدفاع عن سلطة الزعيم الذي هو حق لكل قومي حسب يمينه، بدلاً من أن تشكراه على غيرته والثقة بحسن نيتكما التي جعلته يوجه كتابه الأول إليكما. وكل ما ورد في كتابكما إلى الرفيق مسوح قد أجابكما عليه نقطة نقطة باطلاعي وموافقتي. ولكن جواب الرفيق مسوح هو جواب الرفيق مسوح لا أكثر ولا أقل، أي أنه لا وجه يجيز لكما القول إنكما أخذتما «التقدير صفعاً على وجوهكما من الرفيق مسوح» فتقدير الزعيم هو التقدير الذي يعطيه الزعيم نفسه ولا يكون بكتاب من أحد غيره لأحد.
كتبت لكما كل ما تقدم ليس لأفتح باباً للمناقشة والأخذ والرد. فالنتيجة التي وصلت إليها بنيتها على الاهتمام بكل ما هو حسن وكل ما هو سيّىء من الأعمال التي قمتما بها أو تدخلتما فيها. وكما أنّ تقديري لحسن صنيعكما الأول الذي أشرت إليه في بدء هذا الكتاب لم يضع غشاوة على عيني تجاه الأغلاط الوخيمة التي صدرت منكما فيما يتعلق بسياسة الجريدة وبوضعها النظامي، كذلك لم تمنعني هذه الأغلاط من إبقاء تقديري السابق لعملكما الأول والكبير في محله.
وإني أخاطبكما بصراحة الثقة بالعدل والمحبة. وبهذه الصراحة أقول إنّ النتيجة التي أعطيها هي نتيجة نهائية من قبلي وفي كل ما يتعلق بنظام الحزب السوري القومي، وهذه النتيجة هي: إنّ منزلة العمل الكبير الذي قمتما به كجنديين في النهضة القومية تظل في علوّها لتشهد بحيوية عناصر أمتنا، فلا يزعزعها شيء غير جعل هذه المنزلة وسيلة أو مستنداً لخرق حرمة النظام القومي، وكسر السلطة القومية، وإنزال مؤسسات الحزب عن منزلتها، وتجريدها من حقوقها وصلاحياتها. وإنّ الأغلاط التي صدرت وذكرتها في هذا الكتاب قد تكون بسيطة في ذاتها، ولأول وهلة، ولكنها مسّت أساس النظام القومي. وقد ظهر أنكما لم تقصدا أن يكون لها هذا الشأن. واعترافكما بهذه الأغلاط لا يقلل شيئاً من منزلتكما في الحركة القومية. ونزولكما عند أحكام الزعيم وإرادته لا يصغركما بل بالعكس، يكبركما أكثر ويجعلكما قدوة في الخضوع للسلطة المعبّرة عن إرادة المنظمة القومية كلها. وهذه القدوة تحتاج إليها الحركة القومية الناشئة في جيل يعدّ كل فرد من أفراده نفسه بمقام الشعب كله.
وقد قلت لكما وأعيد القول إنّ ما وجدته في نفسيكما من همّة عالية وتلبية لمقررات المنظمة القومية يجعلني أثق بإمكاني الاعتماد عليكما في تأييد النظام القومي ومؤازرة مشاريع الحركة القومية المعبّرة عن إرادة أمتنا وحقوقها.
ضمن هذا الإطار القومي الجميل، لا يوجد مشكل خصوصي أو شخصي لا يمكن حلّه بما يتفق مع ظروف الحالة الخصوصية وسلامة المنظمة القومية، فكل أمر قد تريان فيه إمكانية إلحاق أضرار بالغة بمصالحكما يمكنكما مخابرتي رأساً به، واثقين من أنكما تخابران أخاً محبّاً لكما غيوراً على مصالحكما وسمعتكما غيرته على أقرب الناس وأحبهم إليه.
وأوصيكما بمؤازرة الرفيق [وليم] بحليس ونصحه في كل ما لكما خبرة فيه من شؤون الجريدة والعمل للحركة. وآمل أن يستمر اتصالكما وتتوثق علاقتكما أكثر، فيصبح التفاهم أقوى وتكون النتيجة أحسن وأكبر. وأتمنى لكما التوفيق في شؤونكما الخصوصية وخدمتكما القومية.
عسى أن تكونا والعائلة بخير. اقبلا سلامي القومي. ولتحى سورية .