بوينس آيرس، 12/7/1941
رفيقي العزيز يوسف الغريب،
تسلمت رسالتك وفيها كتاب منك مؤرخ في 11 يوليو/تموز الجاري ومقالتك الأخيرة El Neuevo Resurgimiento Sirio ونسخة من تصريحي لجريدة لا بوص دل أنتريور.
قرأت مقالتك ووجدتها جيدة للتعبير عن روحية الحركة السورية القومية، ولكنها خالية من ذكر الموقف السياسي بحيث تجعل جلياً أنّ موقف الحزب السوري القومي لا يزال حيادياً. فالعبارة في الفقرة قبل الأخيرة مقتضبة ولا تجلو ما قصدت جلاءه، خصوصاً وأنت لم تذكر ماذا صرّح الزعيم في خطابه أول يونيو/حزيران 1935 ولا ماذا صرّح للجريدة السورية اللبنانية في بوينس آيرس. وكان يجب أن تذكر في المقال أنّ دولتي المحور أيضاً صرّحتا بأنهما تؤيدان أية أمة من أمم العالم العربي في سعيها لاستقلالها. ولكن على ما يظهر لك أنّ الحزب السوري القومي لا يزال ينتظر مخابرات وضمانات تجعل لهذه التصريحات من الحلفاء ومن المحور قيمة حقيقية.
تقول في كتابك إنه لا علم لك بتصريحات المحور، وهذه قد نشرتها الجرائد في حينها، وكتبت عنها الزوبعة مقالاً بعنوان «تكرار الأغلاط الماضية» في العدد 12 (انظر ج 4 ص 143)، فالمقالة لا تزال بعيدة عن إلغاء تأثير المقالة الأولى، ولولا المقالة الأولى لكانت هذه المقالة الثانية جيدة جداً.
أما إيضاحك لموقفك في مقالتك الأولى فأسبابه بعيدة عن قواعد العلم السياسي وعن تكتيك الفن السياسي. وعبارتك الأولى في هذا الصدد القائلة إنّ يوسف الغريب يتكلم بلسانه ولا يعبّر عن إرادة الحزب السوري القومي هي واضحة للزعامة، ولكنها ليست واضحة للرأي العام. وكذلك المسؤولية فهي تقع عليك من قِبل مراجع الحزب، وليس من قِبل الرأي العام. وكيف يعلم الرأي العام أنك غير مكلف سراً للتعبير بصورة غير رسمية عن موقف الحزب السوري القومي، كما هو مكلف ورجينو غيدا، في إيطاليا، للتعبير عن رأي وزارة الخارجية الإيطالية.
وكيف يقدر الرأي العام، أو بعض الاختصاصيين في الفن السياسي، أن يتصوروا أنّ فرداً لا علاقة له بحزب سياسي وغير مطّلع على شؤون السياسة يقدم على نسبة أمور لهذا الحزب هو براء منها، ولا تحصل كتابته على نفي أو تكذيب من بعض مراجع الحزب الرسمية؟ وإذا كانت كتابتك عن موقف الحزب لا تعبّر عن حقيقة فما هي قيمتها للجريدة التي نشرتها، وماذا يحدث لمركزك الشخصي حين إعلان مثل هذا الأمر؟ وفي حالة كونك معبّراً عن حقيقة أمر الحزب وموقفه ألا يحرج مركز الحزب تجاه بريطانية ويخسر الاستفادة منك من هذه الناحية؟
إنّ الأمور السياسية، أيها الرفيق العزيز، ليست بهذه البساطة التي تظهرها بها وإيضاحك الثاني القائل «صريح بحب بلاده وهو معجب بالشبيبة القومية والروح التي نفخها فيها سعاده، الخ». لا ينطبق على المحصّل في مقالتك الأولى، ففي هذه المقالة تظهر كمطّلع خبير يعبّر عن موقف سياسي للحزب السوري القومي في مصلحة إحدى الدول المتحاربة وضد مصلحة إحدى الدول المتحاربة الأخرى. فتعبيرك المشار إليه لا يمكن أن يؤخذ إلا على أحد وجهين:
الأول: إنك تهرف بما لا تعرف، وهذا يجعل الحزب مسؤولاً تجاه الرأي العام عن إعطاء بيان في هذا الصدد، وهذا يحرج مركزك الشخصي حتى من الوجهة الحزبية، لأنه يقتل إمكانية تكليفك بمهمات.
والثاني: إنك تتكلم عن اطلاع وموافقة من قبل الحزب الذي لا يحتاج في مثل هذه الحالة لإعطاء بيان، لأنّ سكوته يدل على رضاه، ويمكن أن يؤول على أنّ الكلام موعز به من قبل إدارة الحزب التي، لغاية ما، لم تشأ الإدلاء به بصورة رسمية. وقولك «برهنوا على أنهم لا ينحازون إلى فئة ضد أخرى من المتحاربين» مخالف والواضح من مقالتك، وهو تبرير في غير محله الآن، قولك إنّ السوريين القوميين حالوا دون وصول الألمان إلى السويس يدل على انحياز وليس على حياد، خصوصاً وتجاهل تصريح المحور مع الترحيب بتصريح الحلفاء، يزيد هذا الانحياز وضوحاً.
الإيضاح الثالث يقول إنّ الحملة على سياسة فيشي في محلها. وهذا لا يفيد شيئاً في صدد الموقف المطلوب إيضاحه. فكان يمكن مهاجمة حكومة فيشي من غير انحياز لبريطانية، ومن غير الظهور بمظهر المقاوم لألمانيا.
ولا بأس أن تكتب عدة مقالات حول هذه النقطة، ولكن بعد إيضاح أنّ الحركة السورية القومية لا تزال واقفة على الحياد تراقب نيات المتحاربين، وأنها لا يمكنها الترحيب بتصريحات الحلفاء ولا بتصريحات المحور حتى يكون أحد الفريقين قد أعلن استعداده بمفاوضة الحركة السورية القومية والدخول في التفاصيل.
وأما ما افتكرت به، وتصورت أنه يقرب الإنكليز، وقولك إنّ التشديد في الحياد يضر أحياناً فلولا علاقتك بالحركة السورية القومية ومحاولتك التعبير عن موقفها بصورة علنية لما كنت أحتاج لقول شيء بشأنه، لأنّ الأفراد كبارهم وصغارهم لهم حرية الفكر والرأي والتصور ما دام ذلك لا يتناول تحميل منظمة مسؤوليته المباشرة أو المداورة، الظاهرة أو الباطنة، ولكن بما أنك تنتمي إلى منظمة لها زعامة مسؤولة وكان تصرّفك له علاقة بموقف المنظمة وسياستها، فإني أريد أن أعطيك بعض القواعد التي أطلب منك أن لا تناقشها وأن تأخذها درساً جديداً لك، ولا تستكبر ذلك فالمسألة دقيقة وليست شخصية:
1 ـ إنّ الذين ينتمون إلى دولة أو منظمة شبه دولة، مهما كان شكل حكومة هذه المنظمة أو الدولة، يترتب عليهم التقيد بسياستها الرسمية محافظة على وحدة العمل والروح، وتجنباً لإعطاء آراء لا مسؤولية فيها وبعيدة عن التكنيك السياسي.
2 ـ إنّ الأصول في كل منظمة أنّ من له رأي مستند إلى دراسة حقيقية وعلم وخبرة لا يجوز له التصرف من تلقاء نفسه حسب رأيه، بل يتوجب عليه إبداء رأيه للمراجع المختصة المؤهلة لإدراك أهمية رأيه وحقيقته، وانتظار قرار هذه المراجع، فإنّ كثيراً من المثقفين ثقافات متنوعة، وأحياناً مختلفة، يرتأون آراء بسيطة أو غير تكتيكية متعددة، فإذا قام كل منهم بتصرف بموجب رأيه انفرط عقد المنظمة أو صار وجودها كالعدم.
3 ـ إنّ الذين يحق لهم إعلان موقف المنظمة أو سياستها أو التكلم عن هذه السياسة على وجهة التعيين هم أشخاص قلائل ومؤسسات معدودة:
أ ـ الزعيم ــــ مكتب الزعيم.
ب ـ رئيس مجلس العمد ـ رئاسة مجلس العمد.
ج ـ عميد الخارجية ـ عمدة الخارجية.
د ـ عميد الإذاعة ـ عمدة الإذاعة.
هــ ـ رئيس المكتب السياسي ـ المكتب السياسي.
وعدا عن الزعيم ـ مكتب الزعيم يكون متوجباً على المسؤولين والمؤسسات التابعين لها أن تكون تصريحاتهم منطبقة على ما هو مقرر في السياسة المنظمة، وحاصلة علناً أو ضمناً على موافقة الزعيم والسياسة العامة المقررة. وفي ما سوى هؤلاء الأشخاص والمؤسسات، فكل كلام يعني صراحة أو تلميحاً موقف المنظمة وسياستها يجب أن يكون بإيعاز هؤلاء المسؤولين والمؤسسات أو حاصلاً على موافقتهم، وإلا وجب تكذيب كل ما كانت إدارة المنظمة تريد نفي مسؤولياتها عنه.
بقي قولك بانتصار إنكلترة في هذه الحرب، فهذا المذهب لا يعنيني ولا يهمني هنا ولا علاقة له بما طلبت منك في صدد مقالتك الأولى، فكثير من الناس يقول بانتصار بريطانية، وكثير غيرهم يقولون بانتصار ألمانيا، من غير أن يعني ذلك شيئاً مفيداً. وإذا كنت تريد أن أهتم بمذهبك هذا ورأيك لفائدة القضية القومية، فإني أسألك إبداء الأسباب التكنيكية التي تجعلك تذهب هذا المذهب.
فإذا كانت أسبابك غير تكنيكية كقولك، لأنّ قوة الولايات المتحدة كبيرة وكذلك روسيا، فأقول لك إنها أسباب لا يمكن للزعيم النظر فيها. وبعد فنحن لا يهمنا من يربح في هذه الحرب، ولكن يهمنا أن نكون نحن رابحين. وربح بريطانية أو غيرها في حد ذاته لا يعني شيئاً لنا. وأخيراً أطلب منك أن تجعل فكر المنظمة فوق فكرك، وأن ترجع إلى مراجعها العليا في كل أمر لم تلقَ عليك مسؤولياته ولم تخوّل صلاحيته، فهذه هي الطريقة الوحيدة لقيام دولتنا وبغير هذه الطريقة تكون أعمالنا فوضى.
وإني أشعر بأنّ مقالتك الأولى قد أوجدت بعض البلبلة في الصفوف القومية وهذا غير مقبول. فهوذا الرفيق يوسف ر.ع. [رحمون العيط] قد أرجع العدد الأخير من الزوبعة من غير إظهار سبب، وبما أنّ الزوبعة لم تغيّر نهجها فليس من جديد غير مقالتك الإنكليزية النزعة التي أخذت لنفسها صفة التعبير عن موقف الحركة السورية القومية التي ينتمي إليها الرفيق المذكور.
وشيء آخر أريد أن ألفت نظرك إليه هو أنه لا أهمية مطلقاً لاتفاق المسؤولين في النظريات السياسية أو لعدم اتفاقهم، فإذا قرر البرلمان البريطاني بالأكثرية هذه السياسة أو تلك لم يبقَ شأن للنظريات المعارضة التي تسقط من تلقاء ذاتها لتنفّذ السياسة المقررة.
وكل نظرية خصوصية يجوز لصاحبها أن يستبقيها لنفسه، ولكن حين إعلان الموقف يجب أن يتقيد بنظرية المنظمة الصادرة من مراجعها العليا التي لها حق التقرير. وبالتالي لا يجوز للفرد أن يفرض نظريته فرضاً على المنظمة.
وأحب أن تعلم أنّ هذه الدروس تلقى عليك لتجعلك أكثر فائدة من هذه الجهة للأعمال السورية القومية. وانتظر أن تقبلها بهذه الروحية وأن تعني نفسك قليلاً بالتروي والإمعان فيها، فلا تحوجني في هذه الظروف إلى شروح طويلة ليس هذا وقتها، والأفضل تركها لحين مقابلة ثانية.
والآن سؤال: هل تتمكن من الذهاب إلى خارج الأرجنتين لمدة نحو شهرين؟ سلامي لك وللرفقاء. ولتحيى سورية .
ملاحظة خصوصية: إني أقبل منك كل تهنئة شخصية في كل مسألة يجوز فيها صدور هذه التهنئة، كلما كان الأمر خصوصياً وفي معرض غير نظامي وغير شبيه بما كتبت إليك في صدده. ففي مخاطبتك لي بهذه الصفة، مع أنّ الموقف رسمي نظامي يتعلق بسياسة الحزب ومسؤولياته، صرف النظر عن شأن المخاطب الرسمي الذي هو رفيق جميع القوميين بالروح والطموح في جميع المواقف غير الإدارية واللاتكنيكية. ولكن في هذه المواقف هو ليس رفيقاً، بل هو القائد، الزعيم، وبهذه الصفة فقط يجب أن ننظر إليه ونخاطبه، لأنّ الزعامة إذا لم تكن حقيقية ولسبب جوهري كانت زينة يجب الاستغناء عنها. وإذا كانت حقيقية ولسبب فما معنى أن يهنّىء تلميذ أستاذه على محاضرته ونظرياته. ولا تنسى أنّ تهنئتك ليس فيها فقط أنها موجهة إلى الزعيم، بل فيها أيضاً أنها في موضوع غير موضوعك، فالعلم السياسي والفن الإداري والسياسي هما موضوع جديد لك. إنّ الأسلوب الذي استعملته هو جميل في حلقة أدبية ثقافية بين أفرادها، ولكنه ليس في محله في نظام دولي كنظام الدولة السورية القومية. فإذا كنت تثق بي لأكون زعيمك وجب أن تنظر إليّ هذا النظر، ولكن إذا كنت ترى أنّ ثقتك لا تتجاوز حدود ثقة الرفيق بالرفيق، فإني آبى أن أكون زعيماً إسمياً. إني أعرف شعورك بجمال تعبير «الرفيق» فهو جميل، وأنا أحبه ولا أرفضه. ولكنه تعبير له محله الروحي الذي يجب ألا يتعداه إلى المواقف الإدارية والسياسية التي يحتاج فيها القوميون إلى الشعور ليس فقط بالرفيق، بل أيضاً بالقائد الأعلى، بالزعيم، الذي يتجهون إليه ليأخذوا منه الأوامر والتعليمات والتوجيهات التي يصير التقيد بها بكل دقة، مهما كانت نظرياتهم الشخصية غير المسؤولة، ولا يعود يجري نقاش فيها وتردد، لأنّ هذين يقتلان مبدأ السلطة في الدولة ووحدة القيادة. إنّ تصرّفك السابق كان دائماً حسناً في هذا الصدد في الاجتماعات حتى أنه كان قدوة للآخرين. ولكني أتمنى ألا يكون مجرّد قدوة للآخرين، بل أن يكون إيماناً نامياً لك بزعيمك، أم لعلك كعبد المسيح حداد تكره أو تأبى أن يكون الزعيم زعيمك؟
أحببت أن أبدي لك هذه الملاحظة ليس لسبب شخصي، بل للسبب الذي من أجله أن موجود في زعامة الحزب السوري القومي.
وإني أقول لك كل ما تقدم معتمداً على فهمك وواثقاً بمقدرتك على فهم الوجهة المقصودة وضرورة إعطائها العناية اللازمة، ليس فقط في المجتمع، أمام الناس، بل في داخل النفس، لأنّ هذا هو الأساس وهذه هي الرابطة الصحيحة، فإذا كان هذا الأساس حاصلاً لك في نفسك، وطبّقت موقفك وسلوكك عليه، فقد حصل الانتقال من المحور الفردي المنعزل إلى المحور القومي المشترك والموثق بنظام وروحية غير نظام وروحية «الكسموبليت».
وهذا لا يعني أنّ الزعيم يرفض قبول الآراء الصالحة من القوميين، ولكن يعني أنّ أصحاب الآراء يجب أن يرفعوا آراءهم إليه بثقة كلية أنه قادر على رؤية كل ما فيها وإعطائها المحل أو الاتجاه اللازم لفائدة الحركة والقضية. بهذه الطريقة فقط تحصل وحدة الفكر ووحدة الإرادة ووحدة العمل لبلوغ الغاية.