17/3/1942
رفيقي العزيز،
وصلت إليّ تهنئتك بالسادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني وقد وجدت في سطورها العزم والإيمان واليقين التي عهدتها فيك. إنّ الأمل بالنصر معقود على هذه الصفات المتغلبة. وليس أجمل وقعاً في نفسي من رؤيتي انتشار هذه الروح بين الرفقاء، وهذا بعض الواجب الملقى على المتقدمين منهم، ويقيني أنهم لن يفشلوا ولن يخيب سعيهم.
وردني، بعد، كتابك الأخير الذي لم يؤرخ ولكن طابع البريد حمل تاريخ التاسع من يناير/كانون الثاني الماضي، فسررت كثيراً به. وقد كنت متأسفاً من قبل لانقطاع المراسلة بيننا مدة لم أكن أجد فيها وقتاً، مادياً، للكتابة إليك مع كل رغبتي في ذلك. فإنّ شؤون سان باولو والولايات المتحدة والمكسيك، فضلاً عن شؤون الأرجنتين والزوبعة، كانت فوق ما يسعني القيام به في وقته. وإنّ مشكلة افتقار مكتبي إلى كاتب أو ناموس لا تزال تزعجني وترهقني.
أخذت علماً بزيارتك للمنفّذ، وما وقفت عليه منه في صدد التقائه بإلياس فرحات وموسى كريم. إنّ شراسة فرحات وبذاءته تظهر حتى في أحسن حالاته. وقد التقيته صدفة في مكتب الرابطة حين ذهبت أطلب مجموعة الجريدة التي كان يصدرها والدي. وكان برفقتي أسد الأشقر. وقد دخل فرحات ورائي، وبينما أنا التفت إلى ناحية إذا بشخص يحيطني بذراعيه ويضمني. هو فرحات! فلم أقابله بمثل هذه الحرارة المباغتة. ولم أعره اهتماماً أو اكتراثاً. ومع ذلك فقد عرض عليّ الذهاب معه إلى منزله في «فارنا». يا للشهامة «العربية»! أما أسد فقد علّق على كلامه، بعد خروجنا، بقوله إنّ حديثه حديث «مكاري»، ووجدت أنّ الحق معه. أما موسى كريم فهو ليس عديم الفهم والتمييز.
إنّ أسباب الشلل عندكم التي تذكرها هي على جانب كبير من الأهمية. ومع ذلك فلا بدّ لكل حالة من حيلة. ولا بدّ لكل حيلة من عقل يستنبطها. فيجب أن تجدوا ظروفاً مناسبة للاجتماع كل ستة أشهر، على الأقل، وإيجاد الحيلة ووضع منهاج لتقاسم العمل. ولم أكن أعلم، قبل ورود كتاب، مؤخراً، من الرفيق [نجيب] العسراوي، أنكم تحسبون هناك الذين لم يتمموا المراسيم القانونية أعضاء فعليين. وقد عجبت كثيراً لهذا التساهل الذي يعطي نتائج وخيمة، بدلاً من النتائج الحسنة المقدرة. إنّ هذا التساهل يضعف المعنويات عند الحقيقيين وغير الحقيقيين، لأنه يدل على عدم احترام الدستور والقوانين وعلى انتفاء العدل. والأفضل تبليغ غير الحقيقيين أنه لا يمكن حسبانهم فعليين حتى يتمموا المعاملات التي أتمها وأكملها غيرهم. ولكن يمكن حسبانهم «محبذين» رسمياً. وهذا، وإن ساءهم، يجعلهم أشد احتراماً وتقديراً.
مما لا شك فيه أنّ ما تعوّده نجيب في المقابلة الماضية لا يجعل ممكناً تغيره السريع من حالة روحية إلى أخرى. إنّ تطوره الفكري قد أصبح محسوساً. وروحيته جيدة مبدئياً وينقصها احتكاك متواصل يزيل ما علق بها من صدأ الأساليب الماضية، ولذلك رغبت في أن يكون إلى جانبي، إذا أمكنه، لأختبره أكثر وأوجهه كما أرى. ولكنه أخبرني أنه لا يتمكن من القدوم إلى الأرجنتين بسبب العبء العائلي. إني قدّرت أنه سيجد تشديدي قوياً. ولكن يجب على من كان في رتبة وظيفته أن يجد ذلك طبيعياً. وهو يطلب منه الشدة عينها في الأمور النظامية مع الراجعين إليه. وإذا كنت أنا أحاسب على أصغر الأشياء فذلك من أجل جعل الدقة المتناهية مزية عامة في جميع المراتب. فبدونها لا يمكننا أن نجري في المضمار من غير تعريض أنفسنا للهزء والسخرية.
إنّ مسألة جمعية «الاتحاد السوري» كانت درساً، فعسى أن تتذاكروا بشأنه وتستفيدوا منه. وهي برهان على شدّة الحاجة إلى تبادل الآراء وضبط الحالة بدقة. ولست أدري لماذا أعرض المنفّذ عن الرفيق نسيب حمزة في شأن الإدارة. وأظن أنّ الأفضل هو أن تستعمل حقك في إبداء الرأي رسمياً، كتابة أو في جلسة، في صدد التدابير التي يريد المنفّذ اتخاذها.
الرفيق وليم [بحليس] ذو روحية ممتازة. ولكن تنقصه النظرة والخبرة الإدارية. وكنت طلبت منه إخباري إذا كان ممكناً له الإتيان للبقاء هنا فيكون معيناً لي وأدربه لعمل أنفع. ولكنه أبى المجيء، لأنه لا يريد مفارقة قرب لحد ابنه. أما الإمكانيات المادية فأعتقد أنه يجدها هنا كما يجدها هناك. وقد يجد أكثر هنا إذا اهتم بنيل تمثيل صناعات برازيلية في أسواق الأرجنتين. وهذا ممكن له من فؤاد [لطف الله] وأصحابه. وقربه مني يزيد العمل في مكتبي ويتضاعف الإنتاج الروحي والمادي. وقد رأيت أن لا أضغط عليه في هذا الأمر.
منذ نحو شهر ونصف لم أعد أتسلم شيئاً من وليم. والأرجح أنّ السبب هو عدم وصول رسالتين مني إليه. فقد كتب إليّ وأجبته بعد حين. ثم وردني كتاب منه أنه لم يتلقَّ شيئاً مني. فعدت وكتبت إليه فلم أنل جواباً. ومنذ بضعة أيام أرسلت إليه كتاباً بواسطة الرفيق جورح بندقي. وجميع هذه الكتب أرسلتها بالبريد الجوي. فإذا لم تنجح المحاولة الأخيرة فسأجرب البريد العادي.
كان وليم قد وعدني بإرسال مبلغ ألف ملريس وردته من ريو دي جانيرو ليرسلها إليّ. وكان ينتظر إرسالها مع أحد القادمين من سان باولو إلى بوينس آيرس فلم يوفق. ثم إنه أهمل أمر السرعة في إرسالها مع علمه بحاجة مكتبي والجريدة، مع أنه اختبر في سان باولو ما معنى هذه الحاجة. ثم كان أنّ المنفّذ نجيب أوعز بإرسال ألفين وخمسمئة ملريس إلى وليم ليرسلها إليّ. ووليم كان ذكر لي أنه لمّا يكن قد تسلّمها ولا أدري هل وصلت إليه أم لم تصل حتى الآن. فإذا كانت وصلت إليه وأبقاها منتظراً فهذه سياسة غير حسنة. وأنا أكتب إليك في هذا الأمر بسبب انقطاع المواصلة مؤقتاً بيني وبينه، حتى إذا وجدت فرصة للكتابة إليه تفعل. إنه يجب عليه الاهتمام بدون إبطاء في أمر إيصال المال إليّ. إنّ الرفيق فؤاد كان عازماً على القدوم إلى بوينس آيرس لأشغاله التجارية وتأخر، ولا أدري هل عدل بالمرّة. ولكن المال يجب أن لا ينتظر. فتوجد وسائل كثيرة لإيصاله إحداها وساطة السيد أنيس راسي الذي كان هنا من مدة وأنشأ علاقات تجارية جيدة هنا ولا أظنه يتأخر عن هذه الخدمة إذا كلف. ثم هنالك مسألة أخرى هي مسألة اشتراكات الزوبعة فبعض المشتركين أرسلوا ودفعوا لوليم وهو يجب أن يهتم بجمع الاشتراكات. وهامٌ جداً أمر اشتراكات أعضاء سان باولو الشهرية التي يجب جبايتها وإرسالها شهرياً. كل ذلك كان مهملاً ولست أدري كم يطول الانتظار والحاجة ماسّة في هذه الظروف.
طبع «جنون الخلود» صار ممكناً حسب رغبة فؤاد. وفي كل كتاب من كتبي الأخيرة إلى وليم أجبته على هذا الموضوع وأظهرت استحساني للجمع بين مشروعين في مشروع واحد. فبما أنه حدث تبرع من أشخاص آخرين في سان باولو وريو لطبع الكتاب، فقد رأيت قبول أحد هذه التبرعات وإضافة مثله من فؤاد فيتجمع رأسمال صغير للاستقلال بمطبعة للزوبعة وتكبير قطعها وزيادة أوقات صدورها ونشر رسائل الجوالي فيها. وبواسطة المطبعة يمكن طبع أكثر من كتاب واحد بنفقات أقل كثيراً من المعتاد ويتأمن مشروع الجريدة واستقلالها، وهذا أمر هام جداً.
أما أمر ترجمة فلسفة كنط فأظن أنه حصل غلط عند وليم في شأنه. فإني لم أترجم كتب هذا الفيلسوف ولكني، في كتاب إلى فؤاد، ذكرت المنحى الفلسفي الذي سينحوه الأمين فخري معلوف وقربه من منحى كنط وقرب صدور أطروحة الأمين معلوف الفلسفية التي ينال بها لقب دكتور في الفلسفة.
وأشرت إلى إمكان قيام لأمين معلوف بترجمة أطروحته واستحساني طبعها. أما عملي أنا فلم يكن كثيراً في ناحية التأليف لعدم وجود وقت مادي لشيء من هذا القبيل، مع أني كنت قد جهزت عنوانات الفصول لمؤلف فلسفي اجتماعي في «طبقات الأمم» أبحث فيه النظام السياسي ـــ الاقتصادي ـــ الاجتماعي الإنترناسيوني، وأستخرج منه نظرة إلى العالم تعيّن اتجاهاً جديداً. ثم إني كنت قد أخذت في تخطيط موضوع فلسفي في الدولة وإنشاء نظام جديد لها يختلف عن النظام الذي اتخذته بعد الثورة الفرنسية. ولكن جميع ذلك هو الآن مجرّد رؤى. وفي مثل هذه الحالة أجد «نشوء الأمة السورية». فهذا الموضوع الخطير قد فقدت الأوراق التي تحتوي الملاحظات والمستندات التي أعددتها له من بين أوراق الدعوى في دار القضاء. ولعل أحد رجال القضاء «اللبناني» يريد أن يصير مؤلفاً شهيراً. والعودة إلى هذا الموضوع تقتضي تفريغ وقت. وهذا أمر مستحيل في ظروفي الحاضرة ولا تلبية مستمرة ولا مساعدة فعلية موجودة.
اكتب إليّ كلما شعرت أنك تريد الكتابة أو وجدت سبباً مفيداً، وإن لم أجب في الحال.
أتمنى أن تكون والعائلة بخير وأن يرافقك النجاح. ولتحيى سورية .
بعد: أمس تسلمت كتاباً من نجيب ونسخة من عدد أبريل/نيسان 1941 من مجلة الشرق وفيها مقال له، وسأكتب إليه. أحب أن أعلم هل يتابع وليم السعي للحصول على أوراق مكتبي الهامّة التي اختلسها جميل صفدي أم أنه ترك هذه المسألة بالمرّة؟